نُوبِل وقُوسِي وعَوْدة المهدي: الحِكْمَة ضَالّةُ المُؤمِن!!

 


 

بلّة البكري
28 January, 2017

 

 


babakry@gmail.com

27 يناير 2017
تشهد االبلاد هذه الأيام احتفائية عودة السيّد الإمام الصادق المهدي بعد غيبته الأخيرة التي قاربت العامين ونصف. وقد وددت أن أعلق على حديث العودة للوطن لما فيه من رسائل عدة في الشأن العام تحفِّز على تناولها بالنقاش. ولا أدري لماذا تواردت لذهني بعض الخواطر التي كنت قد سجلتها، سابقا، إبان زيارة السيّد الإمام، قبل خروجه من السودان بعام أو نحو ذلك، للفلبين على بعد عشرات الآلاف من الأميال عن السودان لحضور حدثٍ عالميٍّ وُزِّعت فيه جائزة قوسي العالمية للسلام (وهذا اسمها) على عدد من الفائزين من عدة أماكن في العالم منها السودان ممثلا في شخص السيّد الإمام الصادق المهدي. وسأخصص هذا المقال لذلك الأمر، رغم تقادم عهده، وربما عدت للتعليق على حديث العودة للوطن في سانحة أخرى.

في الحقيقة لفت نظري وقتها كلام السيد الإمام في عيد الأضحى من ذلك العام عن هذه الجائزة وأود أن أعلّق عليه تعليقا مختصرا بدلا من التعليق علي أقوال الصحافيين والتي تراوحت بين تضخيم أمر هذه الجائزة والتي سافر لحضورها قرابة الثلاثين شخصا في معيَة السيد الإمام وقتها حتي ظنها البعض أكبر شأنا من كل جوائز السلام في العالم بما فيها جائزة نوبل للسلام! وحرصي علي التعليق لأن السيد الإمام علمٌ في رأسه نار وفارس قلمٍ وفكر، ذو أسهامات مشهودة في الساحة السياسية والثقافية محليا وأقليميا؛ ولا أشك أن أقواله، والتي تحمل رسائل معدّة بعناية بائنة، تخضع لغير قليل من التمحيص في إعدادها أولا قبل نشرها على الملأ.

ولنرى ماذا قال السيد الإمام في أمر هذه الجائزة. المقتبس أدناه هو الجزء الخاص بهذه الجائزة المضمّن في نهايات كلمة السيّد الإمام في عيد الأضحى من ذلك العام.

)) ختاماً: لا يفوتني ان أشكر عبركم هيئة قوسي الدولية للسلام على منحي جائزة قوسي للسلام للعام 2013. وأهم من الجائزة ما عددوه من أسباب لمنحي الجائزة تقديراً لعملي من أجل الديمقراطية، والسلام، والإحياء الإسلامي، والسعي لعالم أعدل وأفضل ما جعلني في نظرهم قدوة ليس فقط للسودان، وإنما عبر العالم العربي، وأفريقيا، وأروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وآسيا، والمجتمع الدولي. جائزة قوسي هي المقابل الآسيوي لجائزة نوبل الأوربية، وللمقارنة منحت جائزة نوبل لسلام هذا العام للفريق الدولي الخاص بأسلحة سوريا الكيميائية، هذا تهافت غير حميد، فالفريق لم يحقق شيئاً بعد، وأهم من ذلك اختصرت مسألة السلام في سوريا في الملف الكيميائي بينما 99% ممن قتلوا في سوريا قتلوا بأسلحة أخرى كأن دماء السوريين مستباحة للقتل بغير السلاح الكيميائي. وجائزة نوبل مكبلة بالأحادية الثقافية الأوربية وكل رموزها من أساطير اليونان القديم فتفتقر لإصلاح يجعلها دولية الثقافة والرموز. وللعلم سوف ألبي دعوة جائزة قوسي الشهر القادم إن شاء الله وسوف ألقي محاضرة حول النظام العالمي المنشود لعالم أعدل وأفضل أمام منبر دولي يحضره ملايين البشر من كل أنحاء العالم. وقد تكرم بعض الأحباب والأصدقاء مشكورين بمرافقتي في هذه الرحلة. آسيا الآن هي القارة الصاعدة في الميزان الدولي. يحق لنا أهل السودان شكر هيئة قوسي على هذا التكريم في وقت فيه أنباء السودان في الإعلام ما برحت تحوم حول الاستبداد، والفساد، والاقتتال، وأعداد النازحين واللاجئين.. كابوس من الحيثيات لو رأيناه في المنام فزعنا، لعل الجائزة لمواطن سوداني تضئ شمعة في هذا الظلام الدامس. ولعل العالم ينتبه أن السودان مهما قعد به الحاضر فمستقبله واعد، فالحقيقة إن في السودان خيراً معنوياً ومادياً كثيراً ولله الحمد) (انتهى الإقتباس

ونقول ليس هناك وجه للمقارنة – أطلاقا -فيما نرى، بين جائزة نوبل للسلام وجائزة قوسي. فالأخيرة لم يمض عليها سوى بضع أعوام تتعدى العشرة بقليل منذ إنشائها وتعطى لعشرات (17 في ذلك العام) في مجالات شتى بالرغم من الاسم. ففي ذلك العام مثلا أعطيت نفس الجائزة لأناس من عدة أقطار منهم سعودي وجزائريين وأفارقة وروس وآخرين في شتى ضروب المعارف. بينما جائزة نوبل للسلام لها تاريخ يمتد لأكثر من مائة عام وتعطى لشخصية أو جهة واحدة قدمت في مجال السلم والسلام (العالمي) ما ليس له نظير في العالم. ويمكن بالطيع أن يشترك فيها شخصان أو أكثر لكنها جائزة واحدة.

وصف السيد الإمام لجائزة نوبل بأنها: "مكبلة بأحادية ثقافية أوربية وأن كل رموزها من أساطير اليونان القديم وأنها تفتقر لإصلاح يجعلها قومية الثقافة والرموز"

حسناً، فدعنا نورد فذلكة تاريخية مختصرة لما كان من أمر الفائزين بجائزة نوبل للسلام عبر السنين، وللقارئ الحكم من قبل ومن بعد. في تاريخ جائزة نوبل للسلام منحت لمنظمة اليونسيف وللهيئة العالمية للعمال وللمفوضية العليا للاجئين ولمنظمة أطباء بلا حدود ولوقف حرب فيتنام في السبعينات( هنري كسنجر ولوك دوك تو) وللأب ديسموند توتو ودوره الريادي في هز عرش دولة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في التمانينات ولمنظمة أمنستي أنترناشونال (شون ماكبرايد) وللأم تيريزا ودورها الأنساني مع فقراء كلكتا في الهند ولميخائيل قورباتشوف ودوره في انهاء الحرب الباردة في التسعينات . كما منحت جائزة نوبل للسلام لنلسون مانديلا وأف دبليو ديكلارك ودورهم في وقف وتفكيك نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في التسعينات أيضا. والقائمة طويلة تشمل ايضا ياسر عرفات واسحق رابين وشيمون بيريز وانور السادات ومناحيم بيجن (في قضية فلسطين) وبيلو في تيمور الشرقية ولقادة ايرلندا الشمالية (هيوم وديفيد ترمبل) ودورهم في وقف القتال في ايرلندا ولكيم دي جونق (رئيس كوريا الجنوبية) لسياسة التقارب مع كوريا الشمالية ولمنظمة محاربة الألغام الأرضية (جون ويليامز) ولمناضلة بورما الشهيرة آن سان سو جي وقتالها المرير في أمر التحول الديمقراطي في بلادها.

فكيف يمكن تجاهل كل هذه الأمور العظام التي شغلت العالم أجمع بل منها، إن لم يكن كلها، قد مسّت السلام العالمي بصورة مباشرة؛ كيف؟ بل كيف يستقيم هذا الأمر وحديث السيد الإمام عن عدم قومية جائزة نوبل وأن رموزها من أساطير اليونان؟!

وجدير يالذكر أيضا أنّ من الفائزين بجائزة نوبل في العشر سنوات الأخيرة مسلمون وأشهرهم محمد يونس من بنقلاديش لجهوده في التنمية الأقتصادية للفقراء في بلاده؛ ونساء منهم شيرين إبادي الإيرانية في أمر السلام والديمقراطية وحقوق النساء والأطفال في بلادها كما منحت للمرأة الأفريقية ممثلة في بروفسير وانقيري ماانثاي الكينية لجهودها في البيئة والديمقراطية ومنحت ايضا لمناضلين عتاة من غير الأوربيين في أمر حقوق الأنسان مثل ليو زاوباو ودفاعه عن حقوق الأنسان في الصين التي تقمع المعارضين السياسيين ولها سجل مخزي في أمر حقوق الأنسان. وفي ذلك العام2013 بدأت مباحثات الحوار الوطني في تونس (Dialogue National en Tunisie) والذي تُوّج بفوز الرباعي الراعي للحوار بجائزة نوبل للسلام في 2015 - ممثلا في رئيس الجمهورية التونسية المنصف المرزوقي ورئيسي الحكومة علي العريض ومهدي جمعة ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر.

يقول السيد الإمام في كلمته المشار إليها أعلاه:
((من الأسباب لمنحي الجائزة تقديراً لعملي من أجل الديمقراطية، والسلام، والإحياء الإسلامي، والسعي لعالم أعدل وأفضل ما جعلني في نظرهم قدوة ليس فقط للسودان، وإنما عبر العالم العربي، وأفريقيا، وأروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وآسيا، والمجتمع الدولي))

وهنا لا يملك المرء إلا أن يقف، إعجابا إن شئت، أمام هذه الجملة لما فيها من ثقة مفرطة بالنفس، والتي لا أشك، أبدا، أن عند السيّد الإمام ما يبررها. ولنفترض جدلا أن الجزء الأول من الجملة أعلاه صحيح فكيف بالجزء الثاني؟ - ما يخص القدوة للعالم والمجتمع الدولي كله؛ حيث لا يترك هذا مكانا لآخر حتي وإن كان علي شاكلة الأم تيريرا أو الرئيس نلسون مانديلا أو الأب ديسموند توتو وقيادته المدهشة لبرنامج الحقيقة والمصالحة والذي ضمد جراح وطن نازف بينما دماء أطفال مدارسنا لا زالت حمراء في أسفلت شوارع العاصمة السودانية من فعل القناصة وفي كراكير الجبال من جراء الراجمات الجوية. لم أقل أن ذلك مسئول عنه السيّد الإمام، كلّا، فكل شاة معلقة من عصبتها. أما إذا قصد السيد الإمام أنه مفضّل علي هؤلاء لأنه مجدّد إسلامي، مثلا، وهم غير ذلك فلا أظنه قد فات عليه أن من يشير إليهم هنا بالضمير في قوله "في نظرهم" هم مسيحيون كاثوليك، في الغالب بما فيهم الجنرال قوسي(Captain Geminiano Javier Gusi) الذي تحمل الجائزة اسمه وأسرته في الفلبين.

عموما التهنئة واجبة للسيّد الإمام الصادق المهدي؛ علي كل حال، بهذا التقدير – وإن جاءت متأخرة - فهو رفعٌ لاسم السودان، في محفل دولي ديمقراطي محضور عالميا، من رجل دولة يحظى بغير قليل من الاحترام في الساحة الدولية. ولابد أنه قد لفت نظر الحضور في كلمته الضافية، لا شك، إلى مصيبة السودان ومحنته السياسية الحالية والتي أقعدته وكبلته ليقبع في ذيل قائمة الدول النامية؛ وأن يكون قد أعطاهم – كشاهد عصر - الأسباب،الحقيقية، لهذا القعود!

وفي الختام لابد من القول أنّ أهل الفلبين قوم أذكياء حكماء ولهم تاريخ مشرّف في الممارسة الديمقراطية وتفعيلها في اقتلاع الطغاة بانتفاضات سلمية يسمونها "سُلْطة الشَّعب" (People Power) وما حدث لرؤسائهم السابقين: فيردناند ماركوس الدكتاتور وجوزيف استرادا، المنتخب ديمقراطيا والذي حاد عن جادة الطريق فأزيح بانتفاضة شعبية سلمية، لازال حاضرا في الأذهان. فعسى ولعل أن (تلحقنا) حِكمتهم بعد أن باءت بالفشل كل حِكمَ قادة أحزابنا الكبرى وقياداتها القابضة على دفّة رئاستها لزهاء النصف قرن ديمقراطيا، بالطبع. وقد جاء في الأثر: الحِكمة ضالّة المؤمن..!!

 

آراء