هدف مزيَّف لتغييب إعادة تأسيس الدولة: أسطوانة “التحول الديمقراطي” المشروخة !!. 

 


 

 

هذا الحديث الملحاح عن التحول الديمقراطي كهدف أعظم للثورة. وهذا الحديث المكرور بكثافة عن الديمقراطية كما لو كانت غاية في ذاتها، وبذاتها، ولذاتها، يجعل من الديمقراطية "فخاً" تسقط في شباكه هِمَّة الثوار، وتستقر في قاع جُبِّه الثورة بكل حمولاتها الطموحة. لأن التركيز على هذا النحو على الديمقراطية يزحزح إلى الوراء قضية "الدولة"، ليس باعتبارها قضية "مؤجلة"، ولكن إلى نوع من "اللامفكر" فيه. وفي هذا إلغاء للقضية وعدم اعتراف بوجودها أصلاً.


(2)

ألا يثير دهشتك أن الجميع في السودان يعايش في بثٍّ حي وقائع مسلسل تفكك الدولة، من انفلات أمني فوضوي وقتل جماعي في مختلف ولاياته، ومن تدهور اقتصادي فقدت بسببه العملة المحلية توازنها وهي تترنح تحت ضغط العملات الأجنبية، ومن الضائقة المعيشية التي ساوت بين الطبقتين الوسطى والصغيرة في الفقر.

ألا يدهشك والفساد السياسي والمالي والإداري تزكم رائحته الأنوف، والمحسوبية تستشري على نحو يكاد يستحي من عريها الفاضح فساد الطغمة التي ثار عليها الشعب، وأن نيابة الدولة تغض في نوم عميق، وأن القضاء حاضر بغيابه، أصم لا يسمع، وأعمى لا يرى، وأخرس لا ينطق ؟!.

أغرب من كل ذلك، ألا يثير دهشتك أن السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي تتنازع حكمه ثلاث مكونات وكل مكون منها منقسم على نفسه، بعد أن مزقت مكوناته المتنازعة الوثيقة/ المرجعية الوحيدة التي من المفترض أن تحدد وتنظم وتؤطر علاقات واختصاصات وسلطات ومهام وصلاحيات مكوناته المتنازعة؟.

ألا يثير دهشتك رغم كل أولئك، أنهم يواصلون الحديث عن الانتقال الديمقراطي وكأنه العصاة السحرية التي ستوقف تفكك وانهيار الدولة الوشيك ؟!!. وما يدعو للسخرية اعتقادهم بأن السودان سيكون يخير بمجرد أن تُجرى انتخابات نزيهة وشفافة (هذا إذا حدثت على هذا النحو بمعجزة ما)، وامتلأ البرلمان بالنواب وأحتل الرؤساء الجدد/ القدماء قصر غردون ومقر رئاسة مجلس الوزراء. و (خلاص بقينا دولة ديمقراطية) !!.


(3)

تفكير غريب، أليس كذلك ؟!.

وتزداد الغرابة ويكبر حجم الدهشة، حين ترى بينهم من يرفعون عقيرتهم إلحاحاً يستعجلون إجراء الانتخابات، مطمئنون إلى أن اكتساح دوائرها في جيوبهم، قبل أن تُجرى، اتكاءً على تاريخ "ثابت" ساكن في وعيهم لا يتغير. وكأنهم ولثلاثة عقود حسوماً لم يكونوا في حالة بيات شتائي طويل خارج ساحة الفعل السياسي والاجتماعي (بل وخارج التاريخ). وأن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر. وأنه ثمة أجيال نشأت في رحم الظلام الإسلاموي، عاشت معاناة تفاصيل المحنة طيلة هذه العقود، وبتراكم تجربتها أصبح لهذه الأجيال وعي جديد ورؤية جديدة. وأنها قد استخلصت من دروس تجربتها القاسية، بكل عذاباتها ومراراتها وآلامها، تصوراً جديداً لحياتها ومستقبل وطنها يختلف على نحو جذري عن رؤية وتصور الآباء، ويقاطع معها.

وينسى، أو يتناسى، هؤلاء المراهنون على الانتقال الديمقراطي، كحل يدرأ عن السودان خطر التفكك والانهيار، بأن الانتقال الديمقراطي، بصيغته التي يطرح بها. إنما هو "تميمة" سحرية مجربة، أثبتت فشلها مرتين في تاريخنا الحديث والمعاصر، مرة عقب ثورة أكتوبر 1964، والثانية عقب ثورة ماريل 1985م. وفي الحالتين كانت الأحزاب، وقد ضاق صبرها على السنة الانتقالية، تتحرق في عجلة – غير مفهومة – لإجراء الانتخابات النيابية. وكلنا يعلم إلى ما آل إليه بعد عام واحد حال الدولة والمواطنين بعد الديمقراطية والتحول الديمقراطي من حكم الأحزاب.


(4)

يستطيع أي مغفل أن ينسب هذا الفشل إلى الديمقراطية، ويدعي بأن تكرار هذا السيناريو التعس دليل قاطع على أن الديمقراطية غير ملائمة لمجتمعاتنا. وكأن مجتمعاتنا تعاني من عاهة ما، تجعلها غير مهيأة لهذا النوع من الحكم لعيب خلقي في تكوينها.

وقريب من هذا المنطق ما لجأ إليه السلطان عبد الحميد الثاني من مبررات في مقاومته لمطالب حزب الاتحاد والترقي بـ"المشروطية" أي الدستور. فقد كتب في مذكراته مبرراً رفضه، بأن الحرية مثل الدواء، يجب أن تبعد من يد الأطفال، وأن تُعطى بإشراف الطبيب. وهذا منطق، كما لا يخفى على أحد، يؤسس لخطاب ديكتاتوري صريح.

فإذا لم تكن مجتمعاتنا تعاني من عاهة أو عيب خلقي يجعل الديمقراطية غير ملائمة بنيوياً لها.

وإذا لم تكن الديمقراطية سُمٌّ في هيئة دواء يصيب الدول والمجتمعات في مقتل إذا تناولته.

فإذن أين تكمن المشكلة ؟؟!.


(5)

المشكلة ليست فينا، ولا في الديمقراطية.

فالديمقراطية قبل كل شيء هي مجرد مفهوم.

هي في ذاتها مفهوم محايد، قابل للتفسير والتأويل والفهم من قِبل الناس. وهم الذين يكسبونها صفة الفعل. ويملكون وحدهم توجيهها وفق ما يريدون.

ودائماً الإنسان المتعين هو الذي يسيطر على المفاهيم، ويملك إرادة الفعل والقدرة عليه في توظيفها وتوجيهها.

وأنت ترى حزب طائفي يقوم على مبدأ اطلاق سلطة شيخ الطائفة أو "الإمام"، الذي يتمتع بتأييد من السماء، ويدين له أعضاء الحزب بالطاعة والولاء. ويتحدث رغم ذلك عن الديمقراطية، بل ويتحدث باسمها !.

ثم ترى حزب علماني حديث يقوم تنظيمه على مبدأ "الديمقراطية المركزية" التي عملياً تعني التزام العضو بقرارات قيادة الحزب العليا دون اعتراض، وإلا عُدَّ "منشق"، أو منحرف (بالطبع سياسياً وفكرياً وليس أخلاقياً)، ينبغي إقصاءه من حوش الحزب. ويتحدث عن الديمقراطية وهو يدعو صراحة لـ"ديكتاتورية" الطبقة العاملة !!.

وتجد ثمة حزب ديني تقوم أيديولوجيته على مبدأ أن الإسلام دين ودولة، وأن من لا يحكم بما أنزل الله كافر يُقتل، وأن من يعارض "حزب الله" هذا، إنما هو عضو في "حزب الشيطان"، كافر يحارب الله ينبغي إرهابه وقتاله، ليفوز المؤمن المجاهد بإحدى الحسنيين: النصر أو الجنة. قاتلاً ومقتولاً.

جماعة بهذه المبادئ تطلق على نفسها صفة "حزب سياسي" وتشارك في العملية الديمقراطية. وتنفذ إلى ساحة الفعل السياسي من بوابة أن جهازها المفاهيمي لا يعترف فقط بالديمقراطية، بل أنه أسس الديمقراطية قبل أن يعرفها العالم، تحت مسمى الشورى. مع أن الشورى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالديمقراطية !!.

أنت تسمع عشاق الديمقراطية يغنون ليل نهار: بأن لا ديمقراطية بلا أحزاب.

حسناً.

دونك هذه هي الأحزاب، فأين الديمقراطية منها ؟.

لقد غاب المفهوم الحقيقي للديمقراطية، ولم يعد في الساحة يوجد سوى الأحزاب وصراعاتها للاستحواذ على السلطة وطلاء واجهة الدولة بألوان هويتها الخاصة، أو أيديولوجيتها. الأمر الذي يعني سعي الأحزاب للاستحواذ على الدولة وإقصاء الآخرين عنوة واغتصاباً.

وهذا مشروع سلطوي بامتياز.


(6)

وإذا أردت أن تذهب أبعد من المفهوم، لتكتشف غياب الديمقراطية، ما عليك سوى أن تنتقل ببصرك من المفهوم – الذي في الألسن، والنوايا التي في الصدور – إلى الإجراء التطبيقي العملي لممارستها، وقف عند صناديق الاقتراع، حيث يختار المواطن الحر بمحض إرادته الحرة من ينوب عنه في مشاركته في إدارة الشأن العام، ويمثله في السلطة التشريعية.

أليس هذا هو مغزى النظام النيابي؟!.

فهل هذا متاح في بيئة تنتشر فيها الخرافة والتفكير الأسطوري، ويتفشى فيها الفقر والجهل والأمية. بيئة يفتقر فيها الإنسان لأبسط مقومات الحياة الإنسانية من غذاء وكساء وسكن وتعليم والخدمات الصحية الوقائية والعلاجية.

مجتمعات تفتقر فيها النساء والأطفال والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة لأبسط حقوق الإنسان. في نظام طبقي يقيم أسواراً فولاذية عالية – لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها – بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون أي شيء.

في ظلّ أنظمة تسلطية استبدادية فاسدة تصرف على أجهزتها الأمنية وعلى تسليح وعتاد ورواتب وامتيازات جيوشها أكثر من 80% من موارد خزينتها العامة، وتجود بالفتات مما تبقى على باقي القطاعات.

أليس من البداهة أن تقول: حيث ينتشر الفقر والجهل، يصير المال والخرافة هما ورقة المرور لكرسي البرلمان.

المقايضة سهلة وبسيطة هنا:

اعطني صوتك، وخذ كيسي طحين وعدس وقنينة زيت.

أما إذا أردت رضى الله والجنة في الآخرة، فخذ مقابل صوتك غرفة في فردوس النعيم.

وهذه صفقة لا تكلف سوى فتوى من عالم فقهه الله في الدين. أو (فاتحة) وإشارة من شيخ الطريقة الواصل، أو واحد من العترة النبوية الشريفة أحفاد النبي الكريم. أو أن يكون من الأثرياء الذين لا يعرف مصدر ثروتهم سوى خالقهم، وربما الشيطان !!.

فهل هذه هي البيئة الطبيعية الملائمة لممارسة الديمقراطية ؟!.

وهل يملك أحد الشجاعة (إن لم يكن مازحاً) ليقول بأن هذه هي الديمقراطية ؟!.

فما الذي تبقى إذن من (هلاهيل) مفهوم وتطبيق وممارسة ما تستعجلنا النخب السياسية، لتحقيق ما تسميه الانتقال الديمقراطي، أو التحول الديمقراطي، كهدف أول وأخير لحل جميع مشاكلنا، ونقطة انطلاق لتأسيس الدولة التي نحلم بها ؟.


(7)

فبنية المجتمع الأبوية/ الذكورية، السلطوية/ الإتباعية/ التقليدية، تصادر حرية الفرد واستقلالية قراره. وتقمع عقله النقدي، وتكرس مبادئ الطاعة والامتثال. وتجرده بالتالي من الاستعدادات الفكرية والنفسية التي تغذي ثقافته الديمقراطية.

والأحزاب كما رأيت ليست أحزاباً سياسية بالمفهوم الحقيقي، وإنما هي كيانات أقرب إلى بنية الطوائف الدينية والكيانات القبلية والعشائرية، تفتقر حتى إلى الديمقراطية داخلها. الانتماء إليها لا يقوم على أسس عقلانية بناء على اقتناع ببرامجها ومبادئها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وإنما يقوم على "الولاء" غير المشروط لقيادتها، والالتزام الأعمى بما يتنزل من القيادة، دون مشاركة في القرار، أو حتى التفكير في حيثيات قرارات القيادة.

والاقتراع وعملية التصويت كما ترى تخضع لنفوذ المال والطائفة والقبيلة والعرق، وهي العصبيات التي تقوم هذه الكيانات، والمرتكزات التي تتأسس عليها ما يُسمى بـ"الأحزاب".


(8)

ها أنت تناقض نفسك، وتؤكد ما نفيته قبىً من أن مجتمعاتنا لم تبلغ بعد سن الرشد والاستحقاق الديمقراطي. قد يقول البعض.

ولكن مهلاً.

هذا – على العكس – يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل بأن ليس في الديمقراطية عيب، ولا أن مجتمعاتنا تعاني من قصور ذاتي، أو من عاهة أو عيب خلقي يحول دون تعاطيها الخيار الديمقراطي والأخذ به. وأن المشكلة ليست فيهما. ولكنها تكمن في ترتيب الأولويات الوطنية. فنحن نقفز إلى النقطة (ب) دون أن نتوقف أولاً عند النقطة (أ).

كيف ذلك؟.

لأنك لو تأملت ممانعات توطين الديمقراطية التي استعرضناها  لاكتشفت بأنها في حقيقتها ترجع إلى خلل في عملية "دولنة" مجتمعات ما قبل الدولة. لا إلى توطين الديمقراطية في هذه المجتمعات، أو  "دقرطة" المشاركة في لشأن العام. وكما يقول بعض علماء السياسة الإنسان ديمقراطي بالفطرة، لأن الديمقراطية هي الأصل والحالة الطبيعية في الاجتماع البشري. وعلماء الأنثروبولوجية يجدون المشاركة في إدارة الشأن العام بين المجتمعات البدائية.

كما أن الانتماء ومشاعر الولاء للهويات الصغرى (الدينية، الطائفية، العرقية، القبلية..الخ) لا تحول، ضربة لازب دون قيام الدولة.، وذلك حين تشكل الدولة الهوية الجامعة الكبرى لكل الكيانات التي تقع داخل/ ضمن محيطها الجغرافي.

هنا تحديداً تطل لعبة/ أحجية الدجاجة والبيضة: أيهما أسبق ؟!.

هنا يثور الجدل.

فالبعض يرى بأن تطبيق الديمقراطية كفيل بتذويب الفوارق بين هذه الهويات والطبقات وبذلك تتحقق الدولة المستقرة المستدامة.

بينما يرى فريق آخر أن تأسيس أركان الدولة هو الذي سيتيح للديمقراطية كألية سلمية أن تقوم بمهمة تذويب هذه الفروقات وتحقيق الوفاق والسلام بين هذه الكيانات.

فأي مسار ينبغي أن يتخذ السودان لتأسيس دولة قوية ومستدامة ليحتل موقعه الذي يليق به وبإمكانياته شعباً وموارد بين الأمم ؟.

ذلك ما سنعود إليه بإذن الله.



izzeddin9@gmail.com

 

آراء