هدير السودان والصواعق السياسية (1)

 


 

 





ان السياسة عندما تتعامى عن قضايا المواطنين أو بالأحرى عن مصير الوطن لانها تفقد الموضوع ، ويزول بذلك الفصل التقليدي بين الذات والموضوع. يتحول المواطنون إلى ارقام وصور تصرخ وتولول اثر كل حادثة قتل وتدمير ، و لا وجود حقيقي إلا لصاحب الامر وماكينته البشرية المسلحة التي تنفذ اوامره . في هذا الوضع تزول او تتراجع السياسة أمام الأمن ، بحيث يطغى غير المعلن ويسيطر المضمر ، وتزول الاعتبارات لقضايا الشعب لتحل محلها إعتبارات اخرى ، ليصبح المواطنين وقضاياهم دون اي أهمية تذكر ، و المصابين بين قتيل وجريح أرقام لا معنى لها.
هذا السيناريو المظلم يعكس حقا ما يحدث اليوم في السودان ، لأن نظام المؤتمر الوطني الحاكم انتهج بشراسة سياسة القتل والتدمير والتشريد في ارض الوطن ، وتحول الأمر الى فتنة دائمة متنامية ، وحروب دامية ، لأن هذا النظام جائر ظالم ومستبد ، وغير مستعد للتسوية والتنازل والحوار والنقاش المفتوح. ولم تتعلم الطبقة الحاكمة من كارثة إنسلاخ الجنوب، وتباهوا وتمادوا في مسيرتهم العمياء الهادفة لإنشطار أجزاء أخرى من السودان ، بإشعال وصب الزيت على نار الحروب في الاقاليم المهمشة دارفور ، جنوب كردفان ، والنيل الأزرق.
نعم ، تحولت بوادي وحضر السودان الى ساحة معارك مفتوحة ، يسيطر عليها إنفلات أمني مروع ، وخرجت من نطاق السيطرة لتتحدى الحاكمين الذين سلحوهم واستخدموهم لقتل الاشقاء وبني جلدتهم ، وقضت على التعايش السلمي للقبائل وخاصة في دارفور ، واصبحت واقعا حقيقيا لحصد ارواح الأهل. هذه الارواح التي اذهقت خلال العام الجاري في جبل عامر (الرزيقات الابالة وبني حسين) ، المسيرية والسلامات ، المسيرية والنوابية ، السلامات والتعايشة ، البني هلبة والقمر ، البرتي والزيادية ، وليس اخرا الرزيقات والمعالية غير التي سبقتها بين الهبانية والرزيقات والهبانية والفلاتة ... من اجل من ولماذا سالت دماؤها واحرقت وهجرت ارضها ؟ وما هو مصير الايتام والارامل والمعوقين ؟ ولا يفوتنا الحديث عن سياسة الارض المحروقة التي اخرجت من قبل المواطنين من حواكيرهم واراضيهم ، ويعيشون في معسكرات النزوح بالداخل واللجوء في دول الجوار ، تحت وطأة الامراض الفتاكة ، والشرب من المياه الملوثة فيها ، ولا مستقبل لاطفالهم. وعكس احد النازحين في مقابلة اذاعية حول كيفية قضائهم عيد الفطر المبارك وكيف يستقبلون عيد الاضحى السعيد وجموع المسلمون على جبل عرفات ، قال مستندا لما نزل في الأية الكريمة من سورة الحج: ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما همم بسكارى ولكن عذاب الله شديد).  
حلت الطامة الكبرى على السودانيين بفرض نظام المؤتمر الوطني اجراءات ظالمة من نبع سياستها الاقتصادية الخاطئة ، متمثلة في زيادة اسعار الوقود وبالتالي اسعار السلع الاستهلاكية (لا يوجد دعم لاسعار المحروقات كما تزعم السلطة) ، ليكتوي المواطن المغلوب على امره ليتحمل كاهله المكسور اعباءا ثقيلة جديدة لا يستطيع حملها. فاشعلت الشارع السوداني ليجابه بالماكينة المتعطشة لسفك الدماء ، وتناسى صانعي القرار قول المولى الكريم :( من قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه  جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ).   
لقد طل العيد الكبير على بلدنا ودماء شهداء الانتفاضة الشعبية تسيل في جميع ارجاء الوطن ، من براعم سلبوا نور المستقبل من رباطة وقناصة المؤتمر الوطني واجهزتها الامنية ، بقتلهم بدم بارد ، ولم يتوانى النظام عن وصفهم بالمخربين وقطاع الطرق والمندسين وبالطبع إلصاقهم بشماعة الجبهة الثورية السودانية لتحل مكانة شماعة اسرائيل! ويقودنا الوضع الراهن الى عجز الحاكمين عن مشاركة المواطنين وانعزالهم حتى اصبحوا عالة على الشعب. انقلب هذا العجز وتراكم ليصبح عجزا في الموازنة ، وتتراكم موازنات العجز عاما بعد عام ليزداد الفقر حتى خرج الناس للتظاهر في الشارع ، وتعمد النظام عدم التدخل لايجاد الحلول لتوفر بذلك كل الظروف المواتية لهذا الانفجار.
ان السلطة الحاكمة تتحمل اولا المسؤولية الكاملة لتردي الاوضاع الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية ، وهي التي ادخلت الوطن في هذا النفق المظلم ولا أمل أو ضوء للخروج منه ، لان الاصلاح المرتقب والمقرحات جرفتها السيول والامطار الهادرة الى مجرى نهر النيل لتنصب في مياه البحر الابيض المتوسط. ومن طرف آخر ، اصبحت لغة الرصاص السمة السائدة لحل النزاعات الاقليمية بل فض المظاهرات السلمية كما يتشدق بها اصحاب القرار (اكد هذا بشراشة قائد الفرقة العسكرية بولاية جنوب دارفور بقوله : اذا كان المتظاهرون من الخوارج فلن يحاكمهم ولا يعترف لهم بحقوق الانسان ، وسوف يضربون بالذخيرة على رؤوسهم).
لقد مرت عقود من تشنج النظام وغياب التسويات مما ادى الى تفاقم العقم في السياسة والاقتصاد ولا تباشير توحي الى الحوار وسلك طريق سياسة الاعمار والعمل والانتاج. ان التسوية ليست دليل عجز ، بل العكس تماما ، ان التسوية تبعث القوة على الثقة بالنفس . الواثق من نفسه يناقش ، يطرح القضايا على بساط البحث ، يدلي برأيه ، يسمع اراء الآخرين ، يعدل رأيه حسب تبيان الوقائع والحقائق ، ويدفع الآخرين ايضا الى تعديل رأيهم بالحجج العقلانية الهادئة (ليس بالعنف). بالحوار يكتشف الجميع (حكومة ومعارضة) ان المساحة المشتركة هي ساحة التعاون. بالتعاون يكتسب المجتمع أسباب القوة والثقة بالنفس. اذا ارادت الحكومة ان تكون دولة المجتمع وتكسب الشرعية ، فعليها تحقيق استقلال الفرد اولا ، وان يكون المواطن شريكا في الدولة والمجتمع ، بدليل دولة مواطنين شركاء لا دولة رعايا خاضعين. لا يمكن للنظام ان يدفن رأسه في الرمال ويوهم نفسه بغير حقائق الامور.

الحلقة المقبلة يتناول أطياف المعارضة



Mohamed Elsharif [mohamedelsharif22@yahoo.com]

 

آراء