هرب الأفغان، فسقطت شرعية طالبان 

 


 

 

مشاهد المطار كانت إعلاناً بفشل الإسلام السياسي، وسقوط شعاراته الغامضة الملتبسة


ما أضر بنا مثل التفكير الرغائبي، والذي ينطلق أساساً من مرجعية أيديولوجية متصلبة، أحادية. تميل إلى اختزال وتبسيط المعقد من القضايا، في أطروحات مخاتلة، تبدو على السطح كما لو كانت عقلانية وعميقة وذكية في تفسيرها لأي ظاهرة اجتماعية أو سياسية مهما بلغ تعقيدها.

محقاً كان في قوله الدكتور خالد التجاني النور، بأن "مشاهد "الهروب الكبير" للقوى الكبرى من الساحة الأفغانية الذي وصفته السيدة أرسولا رئيسة المفوضية الأوروبية بالصفعة على وجه المجتمع الدولي، ما كان ينبغي أن يكون مفاجئاً "فقد سبقته مشاهد مماثلة جرت بأقدار مختلفة الملابسات في الحالة الفيتنامية قبل نحو خمسة عقود، وكذلك في الحالة الصومالية في تسعينيات القرن الماضي، ويأتي هذه المرة أفغانياً" (1). وأن الهزيمة الحقيقية للتحالف في أفغانستان تمثلت، على نحو فاضح، في الإعلان الواضح بفشل وسقوط أيدولوجية الهندسة الاجتماعية على النمط الليبرالي.

ما من أحد يغالط ،أو تخالطه ذرة شك بأن مشاهد "الهروب الكبير" كانت إعلاناً بسقوط المشروع النيوليبرالي الذي يهدف لإعادة صياغة المجتمعات اللاغربية وصبها في قالب النموذج الحداثي الغربي، ولا عزاء للمؤمنين بهذه الأيديولوجية من (ناس) العالم الثالث في (فراش البكا) هنا.

ولكن هل هذا كل شيْء وحسب ؟.

هل هذا كل ما تعكسه صورة يوم الحشر في مطار كابول من دلالات ؟.

(2)

قطعاً لا.

فالصورة على هذا النحو غير مكتملة، ولا يمكن أن تكتمل إلا بالنظر إليها من الزاوية الأخرى.

بل إن الرؤية من المنظور الآخر ستكشف أمام أعيننا ما لم نكن نتوقعه !.

الصورة من الزاوية الأولى، والتي وقف عليها دكتور التجاني تقول بأن المشروع الليبرالي فشل فشلاً ذريعاً في إعادة تشكيل الهندسة المجتمعية للأفغان، مثلما فشل في أماكن أخرى. ومنها – على سبيل المثال – غير فيتنام والصومال، كل دول العالم الثالث التي قلدت الغرب، واتخذت نموذجه الحداثي مثالاً يحتذى لتطورها خطوك النعل بالنعل مغمض العينين – مختارة أم طائعة مجبرة – بما في ذلك إيران وتركيا وغيرهما.

ولكنك حين تصل إلى هذه النتيجة في تفسير مشاهد الرعب الغريب والمحير في مطار كابول، ثم تطلق صرخة آرشميدس (وجدتها وجدتها: لقد فشل المشروع النيوبرالي). فإن صراخك هذا يشبه مانشيت خبر صحفي: "الكلب عض رجلاً"، يتصدر عناوين الصفحة الأولى. خبر باهت لا يثير انتباه أحد، فهو متوقع وبديهي و"عادي جداً".

أما المثير حقاً، أن تكتشف وأنت تطل من الزاوية الأخرى بأن "الرجل هو الذي عض الكلب". وأن مشاهد "الهروب الكبير" كانت إعلاناً داوياُ بفشل الإسلام السياسي، وسقوط  كل دعاوى شعاراته الدينية/ السياسية الغامضة الملتبسة، من قبيل "الإسلام دين ودولة"، و"الإسلام هو الحل"، و "لا بديل لشرع الله".

لقد نسف منظر الأفغان وهم يتدافعون ويتشبسون بعجلات الطائرات عند إقلاعها ويسقط بعضهم منها وهي تحلق، وصور الأمهات يدفعن بأطفالهن الرضع للجنود في الطائرات إنقاذاً لهم مما هو آت تحت حكم طالبان ووفاة أكثر من 20 بين الهاربين رعباً.

إن صور الرعب والهلع الذي اجتاح الأفغان لمقدم من سيحكم فيهم بما أنزل الله، يعد استفتاءً واضحا وصريحاً وبليغاً على ما يسمى بـ"الحكم الإسلامي" والحكومة الإسلامية؟.


(3)

قد يحاججك أحدهم متسائلاً:

ومن غير عملاء أمريكا ودول الاستكبار الكبرى، من سعوا للهرب رعباً من مقدم طلائع دولة الإمارة الإسلامية ؟.

ويا له من منطق بائس. وما أضعفها من حجة متهافتة في ركاكتها.

فالذين خرجوا يطلبون النجاة هم سكان المدن، خليط من الطبقات الوسطى ودونها ومن التكنقراط الذين يشغلون الوظائف التنفيذية الوسيطة والدنيا في كل مؤسسات القطاع الحكومي العام، وفي الشركات الخاصة الكبيرة والمتوسطة. وكان بديهياً أن يسارع للهرب القيادات التنفيذية في كل أجهزة الدولة. فهل كل أولئك عملاء؟.

لقد هربوا ببساطة لأن مجازر الانتقام تنتظر كل من عمل في حكومة الاحتلال الأمريكي من الأفغان بتهمة الخيانة العظمى ونصرة الكفار على المسلمين، وهذه تهماً غلاظ، لا يطيق تصورها حتى موظف اشتغل مترجماً أو موظف في وظيفة كتابية أو مبرمج كمبيوتر أو مراسل، أو أي عمل صغير يسترزق منه قوت عياله. وهربوا لأن قطاعاً كبيراً من الأعمال سيتعطل وسيعانون البطالة والفقر.

وبالطبع يمكنك أن تتوقع على رأس قائمة الهاربين، "الحالمون" بحياة طبيعية يتوفر فيها قدر من الحرية يسمح بلبس ما يروق لهم، والاستماع إلى ما يحبون من موسيقى، أن يرقصوا، ويقيموا حفلاتهم الخاصة، ويتنزهون في الحدائق العامة، وأن تتاح للشاب حرية أن يطلق ذقنه أو يحلق شعرها. وأن يُسمح لهم بممارسة هواياتهم ويرتادوا المسارح، وأن ينموا ويطوروا ملكاتهم الإبداعية والفكرية والرياضية.

وقد تنسم الشباب خلال عقدين من الاحتلال عبير الحرية والكرامة الشخصية، فافتتحت النساء صالونات التجميل وأنشأت الفتيات والفتيان فرقاً موسيقية وجد بعضها الدعم من الدولة، وصار لأفغانستان فرق رياضة تشارك في المنافسات الخارجية، بل وفريق كرة قدم نسائي أيضاً، وفرقة سيمفونية قومية من الفتيات خريجات كلية الفنون.

لقد خطت الدولة خلال عقدين من الحرية مشواراً صعباً نحو التحديث، وبمعاناة، وصراع مرير مع قوى ممانعة التحديث التقليدية، وبدأ شعبها التواصل من جديد مع العالم الخارجي بعد العزلة التي فرضها تنظيم طالبان المتحالف مع القاعدة، وقد ضرب الحليفان سياجاً من العزلة على شعب أفغانستان، الذي أظهر للعالم بعض من إمكانياته وقدراته المقموعة تحت سلطتي الدين والتقاليد القبلية. وقد ضاع كل ذلك بمقدم طلائع الإمارة الإسلامية من كهوف التاريخ وجنودهم الشعث المغبرين، بوجوههم الصارمة المتوترة وصراخهم المتشنج.


(4)

لقد هربت أمام هذا الزحف المبرمج على القتل أو الموت قوى الحياة المدنية، صانعة التطور والإنتاج والتغيير. وهذا سيناريو عشناه وخبرناه في السودان أكثر من ثلاث عقود. وهو مشهد تكرر كثيراً في تاريخ الدول والشعوب. وقد تطرق إلى شيء منه ابن خلدون في مقدمته، مع فارق جوهري في عملية تأسيس الدول والممالك.

فعند ابن خلدون تغزو المجموعات البادية الفقيرة العنيفة الخشنة العيش المدن التي ترهلت بسبب دعة العيش والخمول، وهي التي المجموعات المتمدنة التي لم يعد لديها ما تسعى لتحقيقه وفرض إرادتها في طلبه وقد غرق أفرادها وطبقاتها العليا في المتعة والرفاهية.

وهذا لم يكن هو حال الأفغان حين غزت مدنهم جحافل طالبان. كما لم يكن هو حال السودانيين حين فرضت سلطتها عليهم الجماعات المتأسلمة لثلاث عقود بعد انقلاب 1989، بل ومنذ ما قبل ذلك، حين دفعت نميري الذي لم يجد حليفاً سوى الجبهة القومية الإسلامية وساير قوى التخلف المتأسلم، لفرض قواني سبتمبر التي أطلق عليها زوراً قوانين إسلامية، والتي قال الشهيد الأستاذ محمود محمد طه في وصفها: إن هذه القوانين قد أذلت هذا الشعب، وأهانته، فلم يجد على يديها سوى السيف ، والسوط ، وهو شعب حقيق بكل صور الإكرام ، والإعزاز". وأكدها ثانية في وجه قضاة السلطان/ الديكتاتور الذين حكموا بإعدامه.


(5)

حسناً.

ما الذي يقوله مشهد "الهروب الكبير" وما صاحبه من أحداث مأساوية ؟.

- أكد مرة أخرى فشل أي مشروع لاستزراع أي نموذج حداثي وتحديثي في غير أرضه بكل تفاصيله؟.

نعم، قال ذلك.

- أكد أن نسمة الحرية التي تنسمها الشعب الأفغاني خلال عقدين قد حركت مياه التطور والتغيير الساكنة في وجدانه، وأن بذور التحديث قد أطلت في سطح تربة حياتهم اليومية؟.

نعم حدث ذلك.

- هل كان للخلافات داخل كابينة قيادة المرحلة الانتقالية للسلطة في أفغانستان، والتي تم "استيرادها" من الخارج وبدعمه دور في اضعاف مؤسسات الدولة وسرعة انفراط عقدها بهذه السرعة التي تثير التعجب والإستغراب؟.

نعم، هذا حدث.

- هل ما حدث كان بتدبير أمريكي تطبيقاً لاستراتيجية بايدن بالانسحاب وبتواطؤ القيادة الأفغانية، من بؤر القلق على نحو ما فعلت في العراق وسوريا؟.

نعم هذا وارد.

هذه كلها محاور لظاهرة الهروب الكبير من زوايا متعددة ومختلفة. وكل محور منها ينفتح على أبواب وأبواب. لذا فإن تسطيح مسألة بهذا التعقيد والركون إلى محور أو منظور واحد والاكتفاء به لتفسيرها، لا يعبر سوى عن عقل تهيمن عليه سلطة أيديولوجية ما. تسيطر على تفكيره وتوجهه لتأكيد وترسيخ مبادئها وأطروحاتها الرغبوية.


(6)

دعنا الآن نتجاوز السطح إلى العمق في تفسير ما حدث ودلالاته.

- هرب جنود أمريكا ودول التحالف بطريقة مهينة، سقطت معها  ادعاءات القوة والعظمة، والهيبة، وهرب معهم "مشروع أيديولوجية هندسة المجتمع" وغربنة الأفغان.

- وهرب الأفغان طلباً للنجاة  رعباً ، وسقطت مع هروبهم "شرعية" نظام طالبان وادعاءاتهم بتمثيل ضمير وقيم وأهداف ومصالح الشعب الأفغاني.

- هرب الرئيس الأفغاني وأركان حكمه وفي لمح البصر تداعى الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وكل مؤسسات الدولة، وسادت الفوضى. وبسقوطها تأكد فشل "النخب المنتدبة" من الخارج في تحقيق التغيير والتحديث في ظل تغييب الشعب.

هل سقط وانهار كل شيء ؟.

- الحداثة وتحديث نمط الحياة كمبدأ وشرط وجودي لم تسقط.

لأنها ببساطة لم تنهض وتُجرب. وما تم تجربته كان حداثة زائفة، مستعارة، سواء في قيمها ومبادئها، أو في وسائلها وأدواتها. حداثة لم تنبع من تجربة الشعب الأفغاني التاريخية، ولم تكن تعبيراً عن روحه وحكمته. بذرة غُرست في غير تربتها. سقطت لأنها لم تكن حداثته الخاصة. وكان لا بد أن تسقط وتفشل. ومعها كان لا بد أن تفشل النخبة المستوردة في مهمتها.

- الشعب الأفغاني لم ولن يسقط بالضرورة. وأشواقه للحرية والتطور والتحديث لم تسقط. وقد استطاع أن يثبت ذلك خلال فسحة الحرية التي أتيحت له. وإذا هرب من أصيب بالرعب منهم لمقدم قوى التخلف، فإن البذرة التي تم غرسها لم تمت. وستظل في وجدان من بقي منهم تتفاعل تحت التراب بهدوء وروية، حتى يأتي وقت تطل برأسها في ثورة شعبية جذرية تعلن بعثه من جديد.

فالشعوب لا تموت. قد تنهار وتسقط الأنظمة والدول، وتظل الشعوب حية، تتعثر وتكبو وتسقط، وتنتفض وتنهض وتُبعث بهيئة جديدة، في دورات لا تنتهي.


خلاصة الأمر.

لقد سقط المشروعان: الغربي الحداثي والإسلاموي المتطرف. وبقي وسيبقى الشعب الأفغاني والإسلام.

وسيبقى حلم الحداثة والتحديث والتطور والتغيير، كشرط وجودي، قيد المساءلة والتحقيق. خاصة وهناك جيل شاب نشأ خلال العقدين في ظل الحرية والتسامح، ولا يعرف عن طالبان إلا ما يرويه الآباء.

::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

ألا نتحدث كنا حتى الآن عن السودان؟.


مصادر وهوامش

(1)  خالد التجاني النور، فشل ذريع لعقيدة الحداثة العالية بنهجها النيوليبرالي: سقوط نموذج آخر لأيدولوجية “الهندسة الاجتماعية”، موقع صحيفة سودانايل الإلكترونية، بتاريخ 19 أغسطس, 2021.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء