أخيرا انتبهت النائبة البرلمانية غادة عجمي إلى أهمية الحفاظ على الذوق العام، وهو اكتشاف جميل حتى لو جاء متأخرا، ومن ثم تقدمت في 30 أكتوبر الحالي بمشروع قانون إلى البرلمان لتغريم كل من يخالف الذوق العام الذي جاء تعريفه لديها على أنه : " مجموعة السلوكيات والآداب التي تعبر عن قيم المجتمع ومبادئه وهويته بحسب الأسس والمقومات المنصوص عليها في الدستور والقانون". والحق أنه لا يمكن لأحد أن يتفق مع تعريف عجمي الغامض لموضوع الذوق، ولابد لكل عاقل أن يتساءل كيف لنا أن نحدد السلوكيات والآداب التي تعبر عن قيم المجتمع ومبادئه؟ أما إحالة موضوع الذوق العام إلى نصوص دستورية فلا يثير الا الدهشة لأن الدستور لم يتعرض بحرف لمفهوم الذوق لكنه على العكس أكد على الحرية الشخصية للمواطن. إلا أن النائبة تحدد لنا الأمور التي تخالف الذوق العام في تقديرها وهي، على سبيل المثال التلفظ بأي قول أو إصدار أي فعل في الأماكن العامة قد يؤدي للإضرار بالمتواجدين وإخافتهم أو تعريضهم للخطر" هذا بينما تنص المادة الرابعة من مشروع النائبة على أنه:" لا يجوز الظهور في مكان عام بزي أو لباس غير محتشم أو ارتداء زي أو لباس يحمل صورا أوأشكالا أو علامات أو عبارات تسيء إلى الذوق العام". وإذا كنا لم نفهم بدقة ما هو الذوق العام، فإننا الآن لا نفهم أيضا ما هو بالدقة " الزي غير المحتشم" أو ما هي بالضبط " العبارات التي تسيء إلى الذوق العام"؟. هكذا يمضي المشروع من تعريف فضفاض ومطاط للذوق إلى تعريف آخر فضفاض ومطاط لأشكال الاساءة للذوق، إلى تحديد لائحة المخالفات بأنها السلوكيات الخادشة للحياء التي تتضمن تصرفات ذات طبيعة جنسية ".. إلي آخره. ومجددا نحن في الغموض، فما هي بالضبط السلوكيات الخادشة للحياء؟ ومن الذي سيحدد إن كان سلوك بعينه خادشا أم نصف خادش أنه قد مر بسلاسة ولله الحمد؟ لكن مشروع عجمي ينتهي بنتيجة واحدة واضحة هي المطالبة بتغريم المخالفين للذوق العام من خمسمئة إلى ألف جنيه، ويمكن العثور على أولئك الضحايا كما يشير المشروع في الأماكن التالية:"الأسواق، المجمعات التجارية، الفنادق، المطاعم، المقاهى، المتاحف، المسارح، دور السينما، الملاعب، المنشآت الطبية والتعليمية، الحدائق ، المنتزهات، الأندية، الطرق، الشواطئ، وسائل النقل المختلفة، والمعارض". هكذا اعتمادا على عبارات غامضة عن الذوق العام، تنطلق النائبة نحو تغريم الناس الذين لا يرتدون زيا محتشما، وإن كان أحد لا يدري ما هو الزي المحتشم، وتغريم مرتكبي السلوكيات الخادشة للحياء، وإن كان أحد لا يدري ما هي تلك السلوكيات. النائبة عجمي التي تريد الآن فرض الغرامة على الزي غير المحتشم، هي نفسها التي تقدمت في نوفمبر العام الماضي بمشروع قانون لحظر النقاب في الأماكن العامة! وفيه أيضا توقيع غرامة تصل لألف جنيه على كل من ترتدي النقاب في الأماكن العامة! وهي ذاتها التي أعلنت عقب دخولها البرلمان في ديسمبر 2016 أنها سوف تتبنى تشريعا يجبر المصريين بالخارج على تحويل مئتي دولار شهريا لدعم الاقتصاد المصري! هكذا تنطلق كل مشاريع غادة عجمي من وإلى تحصيل الفلوس، مما يجعلني أتساءل إن كانت تعمل في مصلحة الضرائب قبل دخولها البرلمان، كما ينطلق مشروعها الأخير من شكل القضية وليس جوهرها، فالذوق العام إن كان مستواه يؤرق السيدة عجمي يرتفع ليس بالغرامات, وليس بما هو محتشم وغير محتشم، بل بنشر الثقافة وبالتنوير وبالفن وبأسعار رخيصة للكتب، هذا بينما يصل ثمن تذكرة الأوبرا في بعض حفلاتها إلي ألف جنيه، ويصل سعر الكتاب من هيئة الكتاب الحكومية إلي أكثر من مئة جنيه، وتنتشر الأفلام التي تصدم وتسيء للذوق العام. نحن مع الارتقاء بالذوق العام، لكن كيف نفعل ذلك؟ بأن نؤسس هيئة " الأمر بالملبوس؟ " فيجري الفرق في الشوارع تحدد : " هذا محتشم، هذا غير محتشم؟". أظن أن الحكومة تهمس لنفسها حين تأتي سيرة البرلمان : "اللهم اكفني شر أصدقائي".