هكذا تخرج الأسرة من دائرة الفقر

 


 

 



abusamira85@gmail.com
ما أن يتخطى الزائر البوابة العظيمة للمدينة المحرمة في قلب العاصمة الصينية بكين أو بوابة طيور الفينيق الخمسة، كما سمّاها اباطرة سلالة مينغ الذين شيدوا ذلك المعلم التاريخي الهائل في أوائل القرن الخامس عشر حتى يشعر بوطأة التاريخ مجبولا بتراجيديا الحروب ودهاء القادة وحكمة الفلاسفة ودقة الحركة الصينية والمعمار المُبهر ووطأة الفقر المذل ولذات الغنى.
هناك في بكين حيث الجغرافيا الشاسعة والديموغرافيا المزدحمة بالأعداد والإثنيات والأديان، كنا مجموعة من 20 سودانيا وسودانية ننتمي إلى منظمات طوعية وجهات حكومية، بعثتهم منظمة البر والتواصل عبر تعاونها الممتد مع الصندوق الصيني لمكافحة الفقر إلى ورشة عمل في بكين من شقين: شق علمي يبحث في مفهوم الفقر، وشق عملي يقف ميدانيا على الخبرات والتجارب الصينية في مكافحة الفقر، ومن تنفيذ مشاريع مشتركة بين المنظمة والصندوق.
كانت مجموعتنا رائعة جدا ومنسجمة ويسعى جميع أفرادها إلى الاستفادة من خلاصات غير عادية لتجارب امتدت آلاف السنين في هذا البلد القارة، ويبدو لي أن الزيارة قد جعلت بكين مستودع ذكريات جميلة صادقة ونبيلة.
أما الشاهد الذي أود الإشارة إليه هنا، ضمن شواهد أخرى غنية، هو أنه كلما انفتح الحكم (في الصين أو غيرها) على الحراك العام، للشعب، والجوار، والعالم، يوسع من دائرة الحكمة والتجربة. والعكس صحيح فالانغلاق على المحاذير المُبالغ فيها، ومحاولة الإمساك بحركة التاريخ ولجم اندفاعاته، فإن مآلاتها الفشل حتى لو بدت الأمور غير ذلك على المدى القصير.
جاءت الدعوة إلى منظمة البر والتواصل من الصندوق الصيني لمكافحة الفقر، وهو منظمة طوعية تعتبر دون إحساس بالمبالغة أكبر منظمة لمكافحة الفقر في العالم، خاصة عندما يحدثوك برنة إحساس بالتقصير بأنهم في العام الماضي تمكنوا من توزيع 60 مليون حقيبة مدرسية فقط للطلاب الفقراء في الصين.
أما منظمة البر والتواصل فهي منظمة طوعية سودانية تأسست في العام 2000 بواسطة زوجات شاغلي المناصب الدستورية، للاستفادة من جهدهن في تعبئة المجتمع لمبادرات تنشيط للعمل والمشروعات الصغيرة وبث روح المنافسة والإننتاجية والمسؤولية لدى الفئات الفقيرة حتى لا يكون الفقر مواكبا لقلة النشاط والتواكل. ولهذه المنظمة برامج ومشاريع وإنجازات وفتوحات لا يسع المجال هنا لحصرها.
حرص مضيفونا  وو بنغ  وألين ليو من الصندوق الصيني على تعليمنا أن الحكمة الصينية في التعامل تنظر بعيدا الى الأمام، وبعيدا جدا، لكن الأستاذة فاطمة الأمين عبد الله الأمين العام لمنظمة البر والتواصل (تلك المحسنة حياها الغمام)، لا تتردد من تكرار أن مهمتنا (تعليم الناس الاعتقاد الصحيح بأن الرزق من الله، وأنه هو الرزاق، وأن كل ما يقدِّره الله من المصائب فلحكمٍ بالغة، وعلى المسلم الفقير الصبر على مصيبته، وبذل الجهد في رفع الفقر عن نفسه وأهله).
ثمة نظرية يتعين على عتاولة المجتمع المدني ودهاقنة العمل الطوعي أن يعقدا اتفاقا حولها، وفحوى هذه النظرية، إذا لم يكن لديك مشروع ستكون من مشاريع الآخرين.
وتكمن أهمية هذه النظرية في حدوث التبدل الكبير في طرق الحياة التي أصبح مشهدها لا يخلو من  مغذيات لحظية تتدفق بسرعة وكثافة مثل عاصفة رملية، وهي تأتي بمشاريع، فإن لم يكن لديك مشروعك الخاص المتفق عليه المغلب للمصلحة العامة على الخاصة، من المؤكد أنك مشروع جذاب ومجد يحقق طموحات أعدائك، فانتبهوا أيها السادة قبل أن يثقل ظهوركم (أخضر الظهر)، فمعظم القضايا المثارة حاليا قتلت بحثا في مؤتمرات أركويت قبل أكثر من 40 عاما.
نخرج من هذه (التخريمة) إلى توضيح أن جوهر العمل في منظمة البر والتواصل يهتم بتقديم مشاريع تحمل ألوانا جديدة من مساعدة الآخرين على تخطى صعاب الحياة دون الاعتماد على تقديم المساعدات لفترات طويلة. ومن ثمار رحلتنا للصين التخطيط لمشروع تستفيد منه مجموعة من الأسر تضم أرامل وأيتام يحتوي على التدريب على مهارات فنية جديدة وتمليك وسائل إنتاج تمكن الأسرة من الاعتماد على نفسها  
أصل الحكاية أن المنظمة ترعى مجموعة من الأيتام والأرامل يقيمون في منطقة الوادي الأخضر على مقربة من المباني الشهيرة بـ (مدينة الصحفيين). المكان هنا جميل ويثير هواة التكسع وكتابة الشعر وفيه رحابة وسعة، فهنا مشارف البطانة، حيث تختفي الشمس وتبرد ليال الحر.
المنازل هنا متشابهة وشيدت بأناقة كل منزل يقع على مساحة 300 مترا مربعا ويحتوي على غرفة ومطبخ وراكوبة تتسع وتضيق حسب الحال وتتوافر خدمات الكهرباء والمياه تهطل من المواسير بغزارة يحسدهم عليها سكان أحياء الخرطوم القديمة.
أما المفارقة التي أثارت مرافقي الصيني الذي كانت مهمتي أن أقنعه بضرورة أن نتعاون لتنفيذ المشروع، فقد كانت أن كل منزل يحتوي على حفرة دخان تكون في الغالب في منتصف الغرفة الوحيدة. وكان يخلط سؤاله بابتسامة محيرة حين يقول ما هذه الحفرة؟
اجتهدت قدر الإمكان في توضيح أن حفرة الدخان مثل (الساونا)، تتعرض لها النساء المتزوجات باستخدام أخشاب عطرية تمتاز برائحة طيبة وزكية، وتساعد في تفتيح البشرة وإكسابها رطوبة ونعومة، وهي موروث شعبي أفضل من الدهانات الكريمات وسائر مستحضرات التجميل الحديث.
بدا لي أن إجابتي كانت مقنعة لمرافقي الصيني، لأنه توقف عن السؤال. لكن حين تحلقنا حول مائدة العمل، وتأهبت لتوضيح أهمية هذا المشروع الرائد، أوقفني بلغة إنجليزية ملئية بعجرفة أمريكية تعلمها من سنوات دراسته في جامعة هارفارد (شوف أسرة تملك منزل من 300 مترا مربعا 60 مترا منها مظللة ولها خدمات مياه وكهرباء على مدار الساعة وحفرة دخان، هذه ليست أسرة فقيرة ولا تستحق المساعدة).

 

آراء