هكذا حاورتني الحرة

 


 

 


أجرت معي صحيفة الحرة الغراء حوارا نشرته على جزئين في عدديها الصادرين بتاريخ ٨ و ١٥ من شهر إكتوبر الحالي للعام ٢٠١٠م وذلك عبر ملفها الثقافي (نضم البوادي)، وقد قدمتني الصحيفة تقديماً تتقاصر هامتي دونه فأخجلت تواضعي وإن كان ذلك قد أدخل السرور إلى قلبي وأشاع البهجة في روحي فالشكر للحرة التي سعت إلي بمثل هذا السعي الجميل والشكر لمحاوري الكاتب الصحفي والشاعر محمد الحسن ابنعوف والمصور الحاذق(محمد فتح الرحمن). وقد عن لي أن أرفع هذا الحوار كاملا إلى صحيفتنا المحبوبة صحيفة سودانايل الإلكترونية آملا أن ينال رضاء كل من تقع عليه عيناه.
أسعد الطيب العباسي
(مقدمة الحوار ومتنه‏‎)
‏(حملنا أوراقنا وذهبنا لنلتقي بأحد أهم وأكبر الباحثين في الأدب الشعبي في بلادنا، وهو كاتب رصين العبارة، جزل الأسلوب، أنيق الكلمة، دقيق الرصد، غزير الإنتاج. يعده الكثيرون خليفة للرواد الباحثين في مجال الأدب الشعبي أمثال الراحل البروفسير عون الشريف قاسم، والراحل الأستاذ الطيب محمد الطيب، والراحل الدكتور شرف الدين الأمين عبد السلام، والراحل بروفسير سيد حامد حريز وغيرهم. إنه الأستاذ "أسعد الطيب العباسي" وعندما ألفيناه أدركناه ذو بسطة في الجسم والعقل والروح، فطرحنا عليه الأسئلة ورمينا عليه بالمحاور حول المشهد الثقافي والأدبي وحول الأدب الشعبي وأيقونته الكبرى "الدوبيت" فخرجنا منه بذخيرة قيمة من المعلومات الوافرة و الآراء المثيرة و المدهشة). فإلى مضابط الحوار:
يسر صحيفة الحرة ان ترحب وتلتقي بك لتطل على قرائها الكرام من خلال ملف البوادي.
-    انا سعيد بهذا اللقاء خاصة وان محاوري هو الاستاذ محمد الحسن ابنعوف الشاعر الفحل، الذي ضل طريقة الي الصحافة.
-    نسأل اولاً من هو (أسعد الطيب العباسي)؟
‏- جموعي قح أذنت له أرض قريته (أم مرحي) بأن يصرخ فيها صرخته الأولى في العام  ١٩٥٨م و عندما تنقل في مدارس عديدة مع والده كان زملاءه التلاميذ يهابونه فقط لأنه ضخم الجثة و إبن القاضي! إستقبلتني من بعد كلية الحقوق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم كما يستقبل الأعراب في البيداء صوب الغادية، وتخرجت فيها في العام ١٩٨٣م لأعمل في المحاماة و من بعد إنتقلت لمصر وعملت بمكتب الدراسات التابع لإتحاد المحامين العرب، ثم إنتقلت للعمل في إمارة دبي مستشارا قانونيا لأعود بعدها لأركب العرجاء مرة أخرى، فوجدت أمامي إيمان بنت خالي يعقوب محمد شريف فقبلتها زوجة بدون تردد وقبلتني زوجا بعد تردد واستمرت معي بعد ذلك دون تردد! هذه سيرتي العلنية أما تاريخي السري فسيصدر في كتاب لأنه أكثر إثارة..!
‏- يقولون إن تأثير والدك الشاعر الراحل الطيب العباسي واضح عليك وأنه الذي حبب إلى نفسك الأدب و الأدب الشعبي؟
‏- لقد كان رحمه الله معلمي الأول الذي نشأني على حب الأدب وعلمني كيف أغازل اللغة لأستميلها فأبيتن بين خلاخلها و دمالجها. أنا لا أخفي تأثري الكبير به وأعترف أنه الذي علمني كيف أهوى الدوبيت، على أنني قد وجدت أمامي تجربة عمي الشاعر القومي الكبير محمد شريف العباسي ماثلة بكل عنفوانها وثرائها فكرست في نفسي هذا الهوى وياله من هوى، وقد عن لي فيما بعد وأنا أدرس شعره أن ألقبه بالصوفي العاشق أليس هو القائل:
أكان دايرني اكون صوفي و اترك النم..‏
بدلو قلبي حجرا لا نزيز لا جم..‏
مادام جوفي مارن والكبد من دم..‏
لا بدانه بى درب الحبيب تنخم..!‏
أو ليس من آثاره المدهشة قوله:‏
بعد ما كبرنا و القلب بالتدين يقن..
وراقن وهونن ريشاتو من داك دقن..
بانن لينا درعاتا جباهن بقن..
بالحدق المزرقن زعزعنو ولقن..
أو لا يستحق مني بعد هذا هذا الشاعر الرقيق لقب الصوفي العاشق؟.
- و ماذا عن جدك الشاعر الضخم محمد سعيد العباسي؟ وهل لديك ذكريات معه؟
- لا شك أن العباسي شاعر ضخم ورائد وهو باعث نهضة الشعر العربي في السودان وقد تحدثت عنه كثيرا سواء في المنتديات الأدبية أو  في الصحف أو المواقع الإسفيرية ووسائل الإعلام الأخرى من إذاعات وفضائيات كما أوردت عنه مقالتين في كتابي "شذور متفرقة حول الأدب" وحقيقة ليست لدي ذكريات خاصة وشخصية معه لأنني لم أكد أبلغ الخامسة من عمري ساعة وفاته ولكن يجدر بي أن أذكر أن جدي العباسي هو من أطلق علي إسم "أسعد" تيمنا بصديقه الفارس الأديب الأريب "أسعد بك الزبير باشا" وهو في نفس الوقت شقيق زوجته أسماء الزبير باشا جدتي لأبي، وقد حدث أمر طريف في هذا الشأن فبعد عامين من ولادتي كان العباسي مطلوبا للتكريم في مدينة دنقلا وكان وقتها إبنه الطيب العباسي هو القاضي المقيم بدنقلا وقد حدث في ذلك الوقت جفاء بينه وبين نسيبه أسعد الزبير باشا وعندما رآني سأل إبنه الطيب:
ـــ ولدك دا سميتو منو؟
فنظر إليه إبنه الطيب في إستغراب وقال له:
ـــ إسمه أسعد.
 فقال له العباسي في غضب:
ـــ منو المطرطش دا السماهو أسعد..!
- جاء ذكر كتابك "شذور متفرقة حول الأدب" فهل هذا هو أثرك الوحيد؟
‏- ليس هو أثري الوحيد ولي غيره مخطوطات كثيرة معدة للطبع لعل أهمها موسوعة الأدب الشعبي التي تضم عشرة أجزاء وألفين صفحة أنجزتها في نحو عشر سنوات وسترى النور بإذن الله في أول العام القادم، ولي كتب أخرى في القانون والأدب والقصة ولكن قدري أن أخذني الأدب الشعبي بجناحي الشهرة، حتى أن أستاذنا وصديقنا حسين خوجلي يناديني بأسعد المحامي بتاع الدوبيت.
‏- إتخذت أولا الصحف كمنبر للتبشير بآرائك حول الأدب الشعبي والتوثيق لشعرائه لوقت طويل حدثنا عن هذه المسيرة؟
‏- أنا كاتب قديم بالصحف وقد بدأت الكتابة فيها دون إحتراف ولفترة
وجيزة بصحيفة السياسة لصاحبها "عبد الرحمن فرح" وقد ولجتها من بوابة أستاذنا وصديق والدي المحامي الكبير "عبد الوهاب محمد عبد الوهاب" (بوب) الذي كان كاتبا مميزا فيها، غير أني أدين بالفضل في بروزي للأستاذ "حسين خوجلي" والشاعرين الصحفيين "النعمان على الله"  و"تاج السر عباس" لما منحوه لي من مساحة في صحيفة ألوان ظللت أكتب فيها عمودي "أيام لها تاريخ" لسنين عديدة في مجال الأدب الشعبي بصفة خاصة والأدب بصفة عامة وإن كنت لا أنسى أبدا ذلك الإحتفاء والتقدير والفرصة الكبيرة التي منحها لي الأستاذ "أحمد طه الحسن"  أو الجنرال كما يحلو لنا أن ندعوه في ملحق الجمعة الأسبوعي لصحيفة السوداني وقد شاركت بمقالات متفرقة في عدد من الصحف أذكر منها صحيفة الصحافة والوطن والإنتباهة، كما أنني كاتب قصة محترف وقد نشرت لي صحيفة حكايات التي أكتب فيها بصورة راتبة ويومية تحت عنوان "بين الأدب والقضاء" الكثير من القصص ذات الحلقات المتسلسلة وحقيقة حققت لي صحيفة حكايات إنتشارا نوعيا واسعا لم تمنحه لي صحيفة أخرى منذ أن إستدعاني ربانها القدير الأستاذ "وجدي الكردي"، وقد منحت قلمي لصحيفة التيار الوليدة منذ عام تقريبا حينما طلب مني رئيس تحريرها الأستاذ الكبير والصحافي القدير "عثمان ميرغني" أن أكتب لهم.
  ‏‎    ‎‏ - هل أنت راض عن تجربتك ككاتب صحفي تكتب في الأدب والأدب الشعبي والقانون وفن القصة والرواية؟
‏- نعم راض عن هذه التجربة التي منحتني حب الكثيرين وإنعقدت لي بموجبها صداقات عديدة وتواصل رائع وجميل مع المعجبين وإشادات ما كنت أحلم بها من أدباء كبار وشخصيات هامة كان آخرها إشادة الخبير البروفسير علي شمو ورغم ذلك فقد أخذت مني الكتابة الصحافية أوقاتا ثمينة وأرهقت عقلي وجسدي ورغم إيجابيات الكتابة الصحفية إلا أنها وقفت دون أن أحقق أحلى أحلامي وطموحاتي ولكم أتمنى أن أحقق مشروعي الثقافي والأدبي والقانوني عن طريق مجلتي الأدب والأدب الشعبي واللتان أعددت دراسات جادة بشأنهما وأن أبعث الروح في جسد مركز محمد سعيد العباسي الثقافي الذي إعترضته عدة عثرات منذ أن أنشأته في أوائل العام ٢٠٠٥م وصرت أمينا عاما له كما أود أن أتفرغ لنشر مخطوطاتي وإعادة نشر كتبي وآثار العائلة الشعرية وشرحها وإنشاء منظمة المكرهين بدنيا وعندها ربما قلت للصحف والمحاماة باي باي وسأكون ساعتها سعيدا وأنا أنفك من ربقة الموكلين وربقة رؤساء التحرير الذين لا يردون على المكالمات ولا يعودون إليك!.
‏- أستاذ أسعد يتهمك البعض أنك تصور الهمباتة تصويرا لا يتفق مع حقيقة أنهم مجرد لصوص فما هو ردك على هذا الإتهام؟
‏- هذا إتهام خاطئ اخي محمد الحسن وقد نجم عن عدم إدراك البعض لما أكتبه عن الهمباتة وعن ما هيتم فالهمباتة الذين أعنيهم هم ليسوا كلصوص هذا الزمان فالهمبتة في أصلها هي نهب وسلب الإبل والهمباتة لما تلقوه من إرث وما عاقروه من أعراف يعتبرون أن نهب الإبل فروسية وأن فعلهم حلال وليس سرقة، قالوا:
فوق الكرت شلقنا..
وكدي لى بيله عرقنا..
جبنا حلال ما سرقنا..
علينا شهودنا درقنا..
كما يجب أن يعلم هؤلاء أن الذي يتقاعس عن النهوض في ذلك الزمان يكون قد تخلف عن واجب قبلي يتحتم أداءه لأن القعود عن الكسب يلام فيه القاعد قبليا كما أنه قعود لا يرضي المرأة، قال الطيب ود ضحوية:
ولدا بطبق المسرى فوق المسرى...
يخلف ساقو فوق ضهر أب قوايم و يسرى...
طبق قربينو فوق جربانو خت أب كسره...
فرقا شتى من ناس يمه زيدي الكسره..!
وقال همباتي آخر:
كم شديت على التلب الكزاري أب دومه..
وكم قطعتهن من سنجة طالبات روما..
الروح ما بتفارق الجته قبال يوما..
يا ريت كلو نسلم من فلانه ولوما..!
وعلى كل فقد أوضحت من خلال دراستي للهمباتة وجهة نظري كاملة وبإسهاب في كتابي "نظرات في الهمبتة والدوبيت السوداني" وهي دراسة أعتقد أنها كفيلة  بالرد على هذا الإتهام بصورة أوسع.
‏-  أستاذ أسعد بإعتبارك أحد المهتمين بالأدب الشعبي والموثقين لرموزه والذين يعدون الآن على أصابع اليد الواحدة فهل أنت راض عن مسيرة التوثيق لأدبنا الشعبي وأعني تحديدا الدوبيت؟
‏- لقد بدأت مسيرة التوثيق للدوبيت السوداني كتابة في حقبة الخمسينات من القرن الماضي حيث برز كتابان عنه هما كتاب "الدوبيت" لا أستحضر إسم كاتبه الآن وكتاب الحاردلو الذي صدر في العام ١٩٥٨م بيد المؤلفين الأستاذ المبارك إبراهيم والدكتور المصري عبد المجيد عابدين  في أول الستينات ظهرت دراسة عن الدوبيت السوداني أنجزها الأستاذان محمد الواثق ومحمود عبد القادر  وقد أنجز محمد الواثق فيما بعد دراسته حول أوزان الدوبيت السوداني. برز السفر المهم "الشعر القومي في السودان" للدكتور المصري عزالدين إسماعيل في منتصف الستينات ومن بعده جاءت عدة دراسات أذكر منها كتاب دوباي للباحث الطيب محمد الطيب وفن المسدار للدكتور سيد حامد حريز وتاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة للأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم أبوسن وكتابي الهمباتة والطيب ود ضحوية للدكتور شرف الدين الأمين عبد السلام وكتب للباحثين فرح عيسى محمد وسليمان دوقة ولعل مخطوطات الأدب الشعبي للباحث ميرغني ديشاب تعتبر الأهم فيما برز مؤخرا خاصة مخطوطه معجم شعراء البطانة الذي أعكف على تحقيقه ورغم هذا فما زال التوثيق لأدبنا الشعبي ضعيفا لذا أشعر بعدم الرضى.
‏- ما هي أحلامك في التوثيق للأدب الشعبي؟
‏- أحلم بموسوعة كبرى لشعراء الدوبيت -ولن تخلو بالطبع من شاعر اسمه محمد الحسن ابنعوف- (قالها ضاحكاً) ودراسات مفصلة عنهم كما أحلم أن تشتمل المناهج الدراسية في المدارس والجامعات على مادة للأدب الشعبي.
‏- يعتبر البعض أن التوثيق كتابة لأشعار الدوبيت ضربا من العبث لأن
الدوبيت فن قولي شفاهي؟
‏- لا أختلف معهم بأن الدوبيت يعتمد على الشفاهة في تداوله وإنتقاله ولكني لا أنكر أهمية كتابته وتوثيقه تدوينا وإن كان البعض يخشى على
الدوبيت من الكتابة التي تفقده وحدته الصوتية فقد برزت رموز كتابية تحفظ وحدته وكيانه الصوتي كما أن التوثيق الكتابي يجعل الدوبيت بمنأى عن النحل وفساد الرواية ويساعد الباحثين في أبحاثهم.
‏- أستاذ أسعد دعنا نسمع رأيك حول المشهد الأدبي والشعري في الساحة الآن؟
‏- لا أحب أن أعمم ولكني أرى أن الإهتهام باللغة الفصحى قد قل كما أن الإهتمام بالدوبيت ليس كما ينبغي ولكن هنالك أسماء لشعراء الآن في
الساحة سواء في الشعر الفصيح أو الدوبيت لا يمكن تجاوزها فمن الذي يمكنه أن ينكر شاعرية الأستاذ محي الدين الفاتح أو شاعرية الأستاذة روضة الحاج في الشعر الفصيح أو شاعرية جبر الدار محمد نور الهدى ومحمود محمد شريف "ود الخاوية" في الدوبيت وغيرهم من الموهوبين غير أن الساحة تعج بآخرين أعتقد أن الشاعر نزار قباني قد عناهم بقوله:
شعراء هذا العصر جنس ثالث
فالقول فوضى و الكلام ضباب..
يتكلمون مع الفراغ فما هم
عجم إذا نطقوا و لا أعراب..
- أيهما تفضل الشعر الفصيح أم شعر الدوبيت؟
- هنالك رأي مهم يجب أن ننتبه إليه وهو أن الفرق بين الدوبيت والشعر الفصيح  هو أن لغة الأول لغة غير معربة ولكن كلاهما قادر على التعبير بقوة عن إختلاجات الشاعر وأنا أفضل الشعر الذي يهزني سواء كان دوبيتا أو فصيحا، فالشعر الذي لم يهززك عند سماعه ليس خليقا أن يقال له شعر. أو كما قال.   ‏
- ما هي أهم منجزاتك وآراءك حول الأدب الشعبي؟
‏- أولا أنا كنت مهموما بشعراء الدوبيت الأفذاذ فهم يتستحقون الخلود لذا
فأنا أعتبر ما حققته من دراسات جادة وبحوث لنحو مائة شاعر وشاعرة وجمع تراثهم الشعري منذ نشوء الدوبيت في أرض البطانة على يد الشاعر حسان الحرك إلى شعراء اليوم من الأفذاذ إضافة إلى موسوعتي الصغرى لشعراء الدوبيت السوداني والتي ضمت مئتي شاعر وشاعرة يعتبر من أهم منجزاتي أما آرائي المهمة والتي أعتز بها في شأن الأدب القومي هو رأييى الذي أثبته عن طريق بحوثي وهو أن الدوبيت السوداني قد نشأ نشأة ذاتية ونبع من بيئته الخاصة السودان ولم ينتقل إلى السودان من مصر كما أشيع وكذلك أوزانه التي ربطها البعض بأصول فارسية وقد أثبت ذلك من خلال دراستي التي جاءت تحت عنوان " الدوبيت السوداني بين مطرقة الفارسية وسندان مصر" ومن آرائي الأخرى التي أعتز بها هي نفي التشابه ما بين الهمباتة وصعاليك العرب وهذا أثبته في دراستي التي جاءت بعنوان "همباتة السودان وصعاليك  العرب" ولي غير ذلك من الآراء والإبتكارات الذاتية لا يتسع المجال لذكرها جميعا.
‏- هل الأسلوب القصصي والحكائي الذي عرف عنك يصلح كوسيلة  توثيقية للتراث الشعري القومي وسيرة شعرائه؟
‏- لي رأي وهو أن هذا الأسلوب يكون أقرب إلى وجدان المتلقي من جفاف الأسلوب البحثي وتخشبه ولقد لمست ذلك في كثير من الدراسات التي أوردتها في شكل قصصي ولاقت نجاحا كبيرا كسيرة الشاعر ود الفراش وسيرة الشاعرة شغبة المرغمابية والحاردلو وعكير الدامر ومحمد شريف العباسي ولكن هذا الأسلوب له ضوابطه وشروطه التي يجب مراعاتها وأهمها ألا يطغى  الشكل على الموضوع وألا يتدخل الخيال فيشوه الحقيقة.
‏- هل تعتقد في قدرة الدوبيت على الإستمرار مع بروز أشكال جديدة من
الفنون القولية الحديثة؟
‏- الدوبيت السوداني فن قولي قديم وناضج له أصوله ومقوماته التي  ضمنت له البقاء والإستمرار والتطور ولا يزال قادرا على أداء رسالته الشعرية بتفوق وإبداع فهو كالشجرة العميقة الجذور المخضرة الأوراق، ولعلك ترى يا عزيزي أن الدوبيت أصبح الآن محل إهتمام في كافة الصحف ووسائل  الإعلام وهذا لا يحدث لولوا الإيمان بجدواه وقدرته على العطاء، وأقول لك كما قلت من ذي قبل فرغم بروز الفنون القولية الأخرى إلا أنه لا يخالجني أدنى شك أن الشاعر السوداني عموما وبإختلاف مستويات اللغة العامية أو الفصحى التي يتخذها أداة لبناء قوالبه الشعرية كان منهله الدوبيت الذي كون مزاجه الشعري والدوبيت يحوز الفضل كل الفضل على جميع الأشكال الشعرية السودانية مهما كان تأثرها بأي مدرسة شعرية قديمة كانت أم حديثة وفي أي تقسيم وضعت عامية أو غنائية أو حقيبة وأستطيع بيقين قوي وبتحد كامل أن أؤصل من الدوبيت لأي معنى أو قول فني ضمته أي قافية شعرية سودانية أيا كان إنتسابها منذ نشوء الأشكال الشعرية السودانية والتي لم تقف أصلا إلا وهي متكئة على الدوبيت ناهلة من مشاربه.
‏- البعض يعتبر إهتمامك بالأدب الشعبي والدوبيت منصب على شعراء  البطانة وشعراء نهر النيل وقد إتهمك الأستاذ إبراهيم إسحق إبراهيم رئيس إتحاد الكتاب الأسبق صراحة من خلال رزمانة الأستاذ كمال الجزولي بأنك أهملت البادية الغربية. فما قولك؟
‏- أولا أنا أكن كل تقدير للأديب والكاتب و القاص الكبير الأستاذ إبراهيم إسحق وكذلك لأستاذي الشاعر والأديب والقانوني الضخم كمال الجزولي وأقول إن ما قاله الأستاذ إبراهيم في روزمانة الأستاذ كمال الجزولي عندما حل عليها ضيفا لا يندرج على لائحة الإتهام بقدر ما هو عتاب فقد إعتقد أستاذنا إبراهيم أنني لم أتطرق في كتاباتي وبحوثي للأدب الشعبي في غرب السودان وهذا العتاب رددت عليه في صحيفة السوداني التي كنت أكتب فيها آنذاك بل سعيت إلى لقائه وأوضحت له بأنني لم أهمل  البادية الغربية وكتبت عن أدبها الشعبي وعن شعرائها أمثال الشاعر عبد الباقي ود أم سيالة والشاعر أحمد تيراب وغيرهم كما ضمت موسوعة الأدب المصغرة التي أنجزتها عددا مقدرا من شعراء البادية الغربية وقد سره توضيحي واقتنع به.
‏- أستاذ أسعد كيف تقرأ أو تسمع الدوبيت و تستمتع به؟
هذا السؤال يعيدني إلى إجابة سابقة - إن كنت قد أحسنت فهم هذا السؤال- فالمتفق عليه أن الدوبيت فن شفاهي ويتداول وينتقل شفاهة والإستماع إليه من الشاعر خاصة في مجلسه يضاعف الإستمتاع به غير أننا كباحثين نطيل النظر إلى هذه الأشعار ونسجلها ونوثقها ونعود إليها كثيرا وشخصيا تزداد متعتي كلما إكتشفت فيها أو حولها شيئا جديدا فمثلا إذا وقعت على مربع فيه معان وقع عليها مربع شاعر آخر في غير المجادعات ولكن بنهج  شعري مغاير وأعطيك نموذجا مثاليا لما أعنيه، قال الشاعر محمد شريف العباسي وهو يخاطب جمله:
للوزر المعاك الليلة ماكا مرفق..
وجنحاتك بلا الدغش البليبو بصفق..
شن جابرك على الوعر الدبيبو بشفق..
غير زولا و شيهو من الملاحة بدفق..
 وقال شاعر آخر لم أعرفه رغم إهتمامي الشديد بمعرفته غير أني أرجح أنه ينتمي إلى البادية الغربية، يقول:
أحدب من قدام قفاك منضم..‏
أفزر ساقك رديح كرعيك مواقع النم..‏
السبب اليبس لهاتك وأخفافك ملاهن دم..‏
بلا الزول المرشم فوق فريق الشم..‏
المربعين غاية في الرصانة والجزالة وتحدثا عن معان واحدة هي وصف الجمل ومخاطبته وإبراز معاناته وهو في طريقه إلى ديار المحبوبة ولكن بإسلوبين شعريين مختلفين. كما تعجبني الردود الشعرية التي تحمل  المضامين الأخاذة كما ورد عند الشاعريين الكبيرين أحمد عوض الكريم أبو سن "أبو بياكي" وعبد الله حمد ود شوراني فعندما عاتب أبوسن محبوبته "مهالك" بعد ما رآها في صحبة بعض الرجرجة و قال لها:‏
 ‏‎سميتك رئيسة جيل وقلتا مهالك..
أبت ما ترضى نفسي بالبليق بي حالك..
يا بريبة النقعة ام ضميرا سالك..
ماك حق الأشاوات يا جنيبة مالك..
ورغم رقة العتاب وما جاء في المربع من وصف لجمال المعاتب إلا أن  ود شوراني رأى أن عتاب أحمد أبو سن جاء قاسيا لأن مهالك لا تزال فتاة صغيرة السن فأرسل إليه مربعا شعريا يلوم فيه صاحبه وكأنه بذلك يتشفع لديه للفتاة، قال فيه:
ود أبو ستنا الناس الرتوت و بعرفو..‏
ليش بتنبز الفي الصيف مخدر جرفو..‏
متين بلومو متين قادو ومشي القيد عرفو..‏
ومتين إتولف اللى الروح بردها كرفو..‏
هكذا أقرأ الدوبيت وأستمتع به عندما أختار من روضه لطفا وظرفا.‏
‏- هل لديك شعراء من أهل الدوبيت تفضلهم على غيرهم؟
‏- من الصعب الإجابة على هذا السؤال بنعم أو بلا لأن شعراء الدوبيت- أعني الجيدين منهم- كأزهار مختلفة لكل زهرة عطرها الخاص على أنني يمكن  أن أشير إلى أن شعراء الدوبيت مدارس تنتمي إلى حقب ومراحل فمدرسة الإنشاء برز فيها حسان الحرك وود قلبوس وشغبة وإن كانت مدرسة تهتم بالمعنى والقافية وتعتور أشعارها الإختلالات الوزنية ومن بعدهم جاءت مدرسة الصرامة الشكلية والوزنية بقيادة الحاردلو وود الفراش لتتسلم منهم الراية مدرسة شعراء الهمباتة بقيادة الطيب ود ضحوية لتتزامن بعد قليل مع مدرسة الرواد الوسطيين بقيادة الثالوث أحمد عوض الكريم أبو سن والصادق حمد الحلال (ود آمنة) وعبد الله حمد ود شوراني وأخيرا مدرسة الشعراء الشباب،  أنا أجد بغيتي فيهم جميعا ولو أن أشعار الحماسة تطربني لحد الجنون  لي ميل كبير إلى أشعار الغزل، كما أرى أن لواء شعر الرثاء ينعقد للشاعر عكير الدامر فهو شاعر مقدم تمتاز أشعاره جميعا بقافية لزوم ما لا يلزم دون تكلفة أو صنعة فدعنا الآن ننظر سويا إلى الصورة الدرامية التي جسدها لنا الشاعر عكير الدامر وهو يرثي صديقه الشاعر شيخ الجيلي الذي وافاه الأجل بلندن التي ذهب إليها للعلاج فقد صور لنا الدنيا كقاتلة مترصدة تبحث عن ضحاياها بمثابرة وعزم ولا تقبل بالهزيمة فجاءت  قوافيه كأنما قد إستلها إستلالا من غور الروعة وجوف الإبداع، يقول:
صفتن البقت للأكرمين صفاية..
وما كفاها أحمد كوكب الحلفاية..
للكباشي جات بى عمرتا الكفاية..
كايسه الجيلي مزعوجة وروجلا حفاية
****
بالسور تلبت من الصبر مسلوبة..
دخلت في البرنده و ما لقت مطلوبة..
توسوس ما لا كل مراتبن مقلوبة..
ما برجع بلاهو وما بنوم مغلوبة..
****
سألت منو فحل أمات خدودا بندن..
أب كف بيرفع كل راسا دندن..
قالوا ليها عيان كرعي ما بنسندن..
سافر للعلاج يداوى روح لندن..
****
ضحكت بى تهكم وجنحت لى السفره..
عارفا معاها ما بنفع علاج الذره..
زي برق القنب طوت البلاد البره..
جابتو جسه بالطياره و البكا حره..
- ما يحمد لك يا أستاذ أسعد أنك تكتشف المواهب الشعرية في فن الدوبيت  لدى الشباب وتقدمهم للقراء في قالب دراسي يشجعهم ويشعل في أعماقهم جذوة الإبداع فهل لك أن تحدثنا عن هذه الجزئية ومن منهم قد لفت نظرك بشدة؟
- أبدأ بالإجابة على سؤالك من حيث منتهاه فأنا لا أتجشم عناء البحث والكتابة إن لم يكن الشاعر قد لفت نظري بشدة ولا أقدم شاعر إلى القراء إن لم أثق تماما في موهبته الشعرية وقوة أشعاره كما أن أغلب الشعراء  الشباب الذين قدمتهم للقراء لم أكتشف مواهبهم الشعرية أنا بل كانوا شعراء ذوي مواهب معروفة ومنهم من هو أشهر مني ولكني قدمته للقراء إستحسانا وتقريظا كالشاعر المبدع بشرى ود البطانة الذي نشرت عنه أكثر من مقال، وعندما نشرت مقالي (آخر الهمباتة المحترمين) عن الشاعر الهمباتي شيخ الشباب قمر الدولة الصديق كانت صدى أشعاره يتردد في كل أنحاء  السودان وعندما قدمت الشاعرين الشقيقين المبدعين محي الدين محمد شريف ومحمود  محمد شريف للقراء كانت أشعارهم يتداولها الناس في الجزيرة وغيرها غير أن هناك من الشعراء الشباب المغمورين لم يعرفهم الناس إلا بعد تقديمي لهم للقراء وأذكر منهم الشاعر جبر الدار محمد نور الهدى والشاعر مصطفى البشير  أبو الشيخ والشاعر سليمان علي محمد عجيمي وبالفعل كما قلت في سؤالك أن هؤلاقد إستفادوا من تقديمي لهم و أن الأمر قد شجعهم جدا.
- ماذا عن أشعار الحماسة والفتوة فقد قلت إنها تطربك إلى حد الجنون؟
أرد عليك دون إستطالة بنموذجين، قال أحدهم:
زنزانة الرماد قاطعه البصيص والضو..
وفيها مسجنين ناسا أسودا حو..
أرجا الباري شن ما يريد عليك يسو..
وإن وقع القدر تلقانا يابسين كو..
وقال ود الفراش:
أنا البحر الكبير إن عبروني..
وانا رحل الكحل إن ميلوني..
أنا شوك الكتر إن جرجروني..
وانا الجن البخلي الزول ينوني..
- مربع في الخاطر يشجيك؟
بلا شك هو مربع طه ود الشلهمة وهو يودع شقيقه عمر ود الشلهمة وهو يقاد إلى حبل المشنقة فقد قال له:
قلبك مو لحم من الدبادب طاير..
فارس وقعة العركة الخيولا دماير..
الموت يا جليس أم روبه كاسا داير..
سماحتو عليك متل نورة العريس الساير..
- ماذا تقرأ الآن؟
رواية الكاتب السعودي عبده خال "ترمي بشرر" وهي الرواية الفائزة  بجائزة البوكر العربية في مارس الماضي وقد فاجأني الأستاذ عبده خال عندما أرسلت له رسالة هنأته من خلالها بنيل الجائزة برسالة رقيقة ثم تطور الأمر بيننا إلى أن دعاني مؤخرا إلى الكتابة في صحيفة عكاظ السعودية التي يكتب فيها وربما فعلت.
- نطالبك بالكلمة الأخيرة؟
أرسل تحياتي إلى السادة قراء صحيفة الحرة الغراء مبديا لهم رغبتي في
الإطلالة عليهم من جديد على صفحاتها فهذا أمر يشرفني ويسعدني كما   أتقدم بالشكر لهذه الحرة التي سعت إلي وفي لألاء غرتها نور ذممت لديه الكوكب الساري.             ‏‎

اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]

 

آراء