هكذا دائماً تبدأ الدكتاتوريات العسكرية !!

 


 

 

المتتبع لمسيرة الحكم بعد إسقاط رأس (النظام البائد)، يرى أن العسكريين قد كانوا كالحمل الوديع في بداية تعاملهم مع عاصفة الثورة، لم يُبدوا أي شكل من أشكال المواجهة الخشنة مع المكون المدني القحتاوي، الذي ركب الموجة وتبنى مشروع الثورة ثلاثي الشعار – الحرية والسلام والعدالة – دون أن يكون مؤهلاً للمهمة الثورية، انحنى العسكر للعاصفة وأخذوا يرفعون رؤوسهم تدريجياً خوفاً وطمعاً، إلى أن حانت ساعة الصفر فانقلبوا على الحكومة الانتقالية التي يقودها رئيس الوزراء المستقيل لاحقاً، والعسكريون كما تعلمون لهم تجربة طويلة ممتازة في طرائق التعامل مع الأحزاب السودانية الهشّة التي لا تمارس الديمقراطية داخل أروقتها، وللعسكر كذلك خبرتهم المتجاوزة للكسل والخمول الحزبي المعهود، فتجدهم يخفضون أجنحة الذل عندما يلجأ إليهم الشيوعيون والإسلاميون، ثم من بعد أن ينقضّوا على فريسة السلطة يشرعون في إبعاد الحزبيين الذين أوصلوهم للكرسي، فعلها النميري والبشير وها هو البرهان يعيد السيناريوهين بشحمهما ولحمهما، من يصدّق أن الضابط خريج الكلية الحربية حامل مؤهل الشهادة الثانوية، يطيح بجهبذ من جهابذة الفكر وفحل من فحول السياسة مثل عبدالخالق؟ فيجتث رأسه، ومَن مِن أتباع الدكتور عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم يتصور أن العميد الذي خطفوه خطفاً من ميوم ولقّنوه بيان الإنقلاب عدة مرات لتجويده حتى يقوم بتلاوته عبر الشاشة البلورية، سيضع الزعيم والدكتور العرّاب في السجن ويقود سرب الأفندية لثلاثين عام.
رغم تضحيات الشباب الغض الإهاب العاض بنواجزه على منجزه الثوري الديسمبري الفريد، لكن وللأسف، تلحظ أن شوكة العسكر ما فتئت تقوى بعد كل إطلالة صباح يوم جديد، ولا يغرنّك الغرور بالبالونات والفرقعات الأممية المُخدرة للكسالى من عطالى العمل السياسي، أنظر كيف أزاح الجنرالات قوى إعلان الحرية والتغيير المختطفة للبنة وزبدة إنجاز الشباب، بتآمرهؤلاء الجنرالات المكشوف مع أشرار سلام جوبا؟، ماذا كسب السنهوري وصديق يوسف وكل العجزة والمسنون من تاريخهم (النضالي) الطويل الأمد حتّى يفرّطوا في أمانة الثورة؟، أم أننا موعودون بظهور صورة مطابقة لأصل مشروع الجهاد المدني، الذي اتخذه الراحل الصادق المهدي أسلوباً حربائياً للحفاظ على شعرة معاوية؟، تلك الوشيجة القوية الرابطة بينه وبين أصهاره من إنقلابيي يونيو، لقد كانت استقالة رئيس الوزراء طعنة نجلاء لجنين الثورة الذي كان في مهده يتحسس بعينيه نصف المغمضتين ضوء الحرية والسلام والعدالة، و(لك أن تتخيل) تلك الفرحة الكاسية لوجوه العصبة العسكرية ليلة تقديم الإستقالة الفاصلة. مالي أرى هذه البلاد تمور وتفور بالمفارقات وغرائب الأمور بين تضحيات الصغار وخيبات أمل الكبار!!، هل تخصص الحزبيون الكسالى في تنفيس إطارات عربة كل ثورة يثير غبارها الشباب؟، لماذا يخشى الشيوخ والكهول الموت المحقق لأحلام المراهقين الصغار؟. إنّ دأب العسكريين مع هؤلاء الشيوخ والكهول كدأب آل فرعون.
هكذا دائماً تبدأ الدكتاتوريات العسكرية، ضرب لقرارات الأمم المتحدة بعرض الحائط وتهديد المبعوثين الدوليين والتحرش بهم، لقد كان لجميع الجنرالات أسوة سيئة بزعيمهم الدكتاتور المخلوع مالك القاموس الأشهر لمفردات السباب والعنف اللفظي، فإن لم تحدث المعجزة سنقضي السنوات الطوال هرولة بين صفا ومروة البزة العسكرية، لقد مضت ثلاثة وثلاثون عاماً قضى فيها بياض الشيب على سواد شعر رؤوسنا، ونحن ما نزال نحلم بالديمقراطية والحرية والسلام والعدالة التي يبشّرنا بها الرومانسيون، وعلى الأرض لا يوجد غير الذل والتحقير الذي يمارسه البوت، وكما يقول أحد أصدقائنا (المتغطى بتوب أمريكا عريان)، أمريكا التي لم تقدم لذوي الضحايا غير خطابات الشجب والإدانة، بينما العسكريون يتمادون في سياقة عربة الحكم في خلاء وعر المسالك منعدم المعالم، والسنون تمضي خصماً من بريق وألق الحراك الثوري الفريد، والعزاء الوحيد للكتابات الطموحة لبعض المتفائلين والرسومات الكاريكاتورية لتشكيليين كبار في السن أدركتهم الشيخوخة وهم قابعين في غرف التدفئة بمدن الثلج والجليد، إنّ الدكتاتورية العسكرية في بلادنا هي في الواقع دكتاتورية مستوطنة لها من العمر المديد نصف قرن من الزمان، وهي ليست مثل الدكتاتوريات العسكرية القصيرة الأجل التي غشيت بعض دول الجوار الافريقي، إنها الشمطاء عجوز الدكتاتوريات الأفريقية والعربية، التي حلم وجدي صالح بتفكيكها في غضون أشهر ففككته صامولة صامولة وقذفت به على أرصفة المدن المستحيلة.

اسماعيل عبدالله
5 يونيو 2022

ismeel1@hotmail.com

 

آراء