هل أصبحت دارفور قبرا للحلم الإسلامي في السودان؟ … بقلم: د. أسامة عثمان

 


 

 

ussama.osman@yahoo.com

 

ليس لي من فضل العنوان أعلاه، وإنما هو عنوان مقال متميّز اطلعت عليه مؤخرا ورأيت أن أشرك القارئ في فحواه إن لم يكن قد اطلع عليه على الرغم من أنه قد نشر في غير موقع ومن هذه المواقع موقع الجزيرة نت المعروف، ولكن ليس الجميع ممن يقرأون موقع قناة الجزيرة. وصفت هذه المقال بالمتميّز لأن كاتبه شاب عربي من جمهورية موريتانيا الإسلامية يسمى محمد بن المختار الشنقيطي (من مواليد 1966)، وما لفت نظري هو العمق في التحليل والإلمام بشؤون السودان الذي نادرا ما تجده في كتابات العرب عندما يكتبون عن السودان فمعرفة العرب بالسودان ضعيفة للغاية وتجاوبهم مع قضاياه لا يقوم على معرفة بما يجري وإنما استنادا على العاطفة وروح التضامن العربي الذي أزكاه الشعور القومي أو الانتماء الإسلامي في السنوات الأخيرة وربما بعض تعاطف مما تظهر وسائل الإعلام من البؤس المقيم والأزمات التي لا تنتهي لهذا الشعب الطيب المتواضع كما يقولون. وحتى لا نظلم جميع العرب يجدر بنا أن ننوه إلى أن أكثر العرب معرفة بالسودان والسودانيين كانوا هم أصحاب الانتماءات الأيدلوجية أيا كان اتجاههم ففي الزمان الماضي كان الشيوعيون العرب، العوام والمثقفون منهم، من أكثر العرب دراية بما يحدث في السودان من خلال الصلات  بحزبه الشيوعي الذي كان منارة تصبو إليها قلوبهم، وحل الإسلاميون وحركتهم الإسلامية في العقود الأخيرة مكان الشيوعيين في الستينات والخمسينات وصارت حركتهم النموذج الذي تهفو إليه قلوب الإسلاميين العرب وصاروا أكثر المثقفين العرب معرفة بما يجري في السودان ولقد ازداد ذلك الاهتمام بعد أن وصلت الحركة الإسلامية للسلطة في السودان. وتتالت زياراتهم في ظل دولة المشروع التي ظلت حلما في البلدان الأخرى.

  

وكاتب المقال كاتب إسلامي من الذين اهتموا بتجربة الحركة الإسلامية السودانية وأفرد لها كتابين من الكتب الخمسة التي أصدرها حتى الآن وخصها بعشرات المقالات كان آخرها المقال الذي نحن بصدده.  صدر للكاتب في عام 2002 عن دار الحكمة بلندن كتاب بعنوان " الحركة الإسلامية في السودان مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي"، ثم أصدر كتابا آخر بعنوان " آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير"، ربما نعود إليهما في وقت لاحق. كما صدر له أيضا " الخلافات السياسية بين الصحابة: رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ" ولقد قدم له الشيخ راشد الغنوشي، وصدر له أيضا "فتاوى سياسية: حوارات في الدعوة والدولة" كما أن له ديوان شعر مطبوع باسم "جراح الروح". والكاتب وفقا لما جاء في مدونته على الانترنت وتقديم موقع الجزيرة نت له هو باحث وشاعر ومحلل سياسي مهتم بالعلاقات بين العالم بين العالم الإسلامي والغرب. وهو مهتم أيضا بالفقه السياسي، وعنوان مدونته على شبكة الإنيرنت هو (fiqsyasi.org) ومن سيرته  الذاتية أيضا نعلم أنه، كشأن الكثير من أهل شنقيط، قد جمع بين التعليم الحديث والتعليم  الديني التقليدي، الذي يسمى في بلاد المغرب العربي "التعليم الأصلي" في مقابل تعليم المستعمر وهو التعليم الحديث (سألت الدكتور عبد لله الطيب، رحمه الله، ذات يوم: لماذا كانت المدرسة الوسطي تسمى بالابتدائي في الزمان القديم وهي ليست المرحلة الأولى في التعليم؟ فرد مبتسما: لأن التعليم الحق يبدأ عندها، والتعليم الحق هو تعلم الإنكليزية!" أو "اللغة" المعرّفة بالألف واللام كما كانت تسميها لغة الدواوين الحكومية في السودان سابقا)

 

 ما علينا، عود على بدء، فكاتبنا حاصل على إجازة  في حفظ القرآن الكريم ورسمه وضبطه، كما أنه قد صحب عددا من  العلماء الموريتانيين لعدة سنين فأخذ عنهم طرفا من العلوم الشرعية وعلوم العربية ثم حصل على شهادة البكالاريوس في الشريعة الإسلامية تخصص أصول الفقه، وحصل على الماجسيتر في إدارة الأعمال في جامعة تكساس التي يحضر فيها للدكتوراة حاليا حيث يعمل مديرا للمركز الإسلامي في أحد مدنها وإماما لمسجدها. وعمل بالتدريس في موريتانيا واليمن ويعمل في أحد مراكز الأبحاث في الدوحة.

 

يستهل الشنقيطي مقاله بإثبات أن لأهل دارفور أن يتوقعوا المساندة من الدول العربية والإسلامية ثم ينتقد  مسألة التأييد العاطفي الذي يميز الموقف العربي والإسلامي فيما يتعلق بقضية دارفور والمتمثل في تأييد المواقف الرسمية للحكومة السودانية ومعارضة كل ما يأتي من الغرب في هذا الصدد ويحدد موقفه في وضوح نادر في الخطاب العربي الشائع قائلا "من حق أهل دارفور على الشعوب العربية والإسلامية أن تتعاضد معهم في وجه نظام الرئيس عمر حسن البشير والكوارث التي جرها على شعبه عمدا بدلا عن هذا النزوع  إلى الرفض العاطفي غير المؤسَّس على إدراك لتفاصيل الواقع والتنكرُ الساذج لما ثبت بالمعاينة والتواتر من جرائم الحرب في دارفور، وكأن ضحاياها ليسوا بشرا يستحقون العطف والمواساة وإهمالا بيد أن الناس في عالمنا العربي الإسلامي اعتادوا على العداء العاطفي لكل المبادرات الغربية في بلادهم، والنظر بريبة إلى كل حديث غربي عن تحقيق العدالة والإنصاف. وهو أمر يرجع إلى ما اعتادوه من الغربيين من التطفيف والازدواجية"  ثم يشير إلى قضية مهمة قلّ أن يتعرّض لها الإعلام العربي والمثقفين العرب في كتاباتهم لتفسير أسباب هذا الموقف العاطفي وهو " أن حكومة السودان تقدم نفسها باعتبارها (حكومة إسلامية) ومن الذي لا يتعاطف مع حكومة إسلامية ضد العدوان الغربي؟!" ثم يضيف "بيد أن هذا المنزع العاطفي يغطي وراءه حقيقة برودة مشاعرنا تجاه ضحايا القمع والاستبداد السياسي في بلادنا، فنقع بحسن نية وطوية في ذات الازدواجية والتطفيف الذي نرفضه من الغربيين" وهذا هو المأخذ الرئيسي على الحكومات العربية ونشطاء المجتمع المدني الذي يتردد كثيرا في أوساط مناصرة القضايا الإنسانية المختلفة حيث يلاحظ الغياب العربي الإسلامي التام في أي مأساة سياسية وإنسانية غير القضية الفلسطينية أو قضية العراق أو السودان، كما لو أن بقية العالم لا تعني العرب والمسلمين في شيئ. كان كوفي عنان قد أشار عند وقوع كارثة السونامي إلى أن المساعدات قد انهمرت من كل صوب لإعانة المنكوبين باستثناء البلدان العربية الغنية، مما جعلهم يتحركون، كالعادة، بعد أن يتحرك الآخرون ويقدمون كشوفات مساعداتهم عن طريق الهلال الأحمر في إطار العون الثنائي ولكنهم لا يقدمون المساعدات بالضرورة من خلال العون الأممي متعدد الأطراف الذي عناه الأمين العام للأمم المتحدة. وكثيرا ما تهتم منظمات المجتمعات المدني في أمريكا وأوروبا بقضايا حقوق الإنسان في فلسطين وتسير المظاهرات من أجل ذلك ولكن قلما تجد جمعيات عربية تهتم بأي قضية أخرى في العالم خارج الوطن العربي. وكثيرا ما يندهش النشطاء الغربيون لهذا الكيل بمكيالين الذي يعاني منه العرب والمسلمين باعتبار أنهم من بين الشعوب المستضعفة ولكنهم يمارسونه بأنفسهم. ولقد كانت قضية دارفور نموذجا لهذا الكيل بمكيالين.

 

ثم يلخّص الشنقطي لقارئه العربي أسباب صراع دارفور كما يراها " إن الصراع في دارفور عميق الجذور، وهو في أصله صراعان: أحدهما صراع على الموارد الشحيحة بين العرب الرحل والأفارقة القرويين من سكان جبل مرة، والثاني صراع بين الطامحين من أبناء دارفور إلى توزيع أعدل للسلطة والثروة وبين الحكومة المركزية في الخرطوم" ثم يعبّر عن دهشته كإسلامي بين " تحوُّل هذا الصراع - في ظل حكم الحركة الإسلامية السودانية - من مناوشات تقليدية إلى حرب طاحنة، ومن حرب موارد إلى صراع هوية يدعو إلى التأمل حقا" ويمضي شارحا لتأملاته عن العلاقة بين الحركة الإسلامية وتفجر الصراع قائلا: فما هي العلاقة بين تفجر الصراع السنوات الأخيرة وبين التجربة الإسلامية السودانية التي بدأت بانقلاب عمر البشير عام 1989؟ وما مدى مسؤولية الإسلاميين في معسكريْ البشير والترابي عن إشعال الصراع واستمراره؟ وما هي دلالة هذا الصراع المدمر على مصير التجربة الإسلامية السودانية، وهي التجربة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وبعثت الآمال العريضة في يوم من الأيام؟"

  

ثم يمضى في محاولة الإجابة على التسآؤلات أعلاه برد الأمر إلى صعوبة التحول من فقه الحركة إلى فقه الدولة:  لم يكن نجاح الإسلاميين السودانيين في الاستيلاء على السلطة عام 1989 صدفة عابرة، أو ضربة حظ وافر، بل كانت ثمرة تطور منهجي في الحركة الإسلامية السودانية على مر السنين: في وعيها العام، وبنيتها الهيكلية، وبنائها القيادي، وعملها في المجتمع، وعلاقتها بالسلطة، وعلاقتها بالحركات الإسلامية.. وهو ما جهدتُ في تقديم عبرته معتصَرة ومختصَرة في كتابي عن "الحركة الإسلامية في السودان.. مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي".  ثم يضيف: لكن نجاح الثورة أكبر من مجرد استلام السلطة، والنجاح الفني ليس معيارا للنجاح المبدئي، خصوصا إذا كان أهله يحملون رسالة أخلاقية، تهدف إلى تحرير الناس لا إلى إخضاعهم" ثم يورد بعض الأعذار لتجربة الإنقاذ نقلا عن كتابه المذكور أعلاه" وفي بلد كالسودان، متسع الأرجاء، ممزق الأحشاء، أنهكته الحرب الأهلية، وهددت فيه الحاجة إنسانية الإنسان، كان على الثورة الجديدة أن تتحمل أعباء زائدة، ومسؤوليات أخلاقية وإنسانية جسيمة، لم تواجه كل الثورات. ومن أهم تلك التحديات كما لخصتها في ختام كتابي المذكور عام 2002: أن على هذه السلطة أن تكف عن كونها حركة، وتقتنع بأنها أصبحت دولة، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات سياسية وأخلاقية.، وأن تسعى لإطعام الإنسان السوداني من جوع، وتأمينه من خوف، باعتبار ذلك أهم بند في رسالتها، وأول خطوة على طريق البناء، وأن تبني شرعية سياسية على غير القوة والإكراه، فلا خير في سلطة تستمد شرعيتها من القوة حصرا، ولا مجال لاعتماد فق الضرورات إلى الأبد، وأن توقف النزف الإنساني الذي سببته الحرب الأهلية، لا بدماء الشباب المتعطش للجهاد والشهادة، بل بحكمة السياسة، ومنهج الحوار والتعايش، وأن تدرك أن جسم الدولة متسع للجميع، بخلاف جسم الحركة، فالعجز عن احتواء واستيعاب المجتمع، معناه العجز عن تغيير المجتمع، وأن تعرف أن الحلول الفنية -على أهميتها وحاجة العمل الإسلامي إليها- لا تكفي. فالدولة الإسلامية دولة فكرة ومبدأ، قبل أي شيء آخر، وأن تعترف بموقعها الحرج في المكان، إقليميا ودوليا، فتتحمل مسؤوليتها بوضوح، وتنأى بنفسها عن أسلوب المغامرات والمهاترات والتخبط والتورط، وأن تعترف بموقعها الحرج في الزمان-حاملة لراية الإسلام أيام غربته- فتعضد ذلك بمزيد من الإقدام والتوكل والحكمة والدراية.

  

ثم ينظر إلى الوراء ويقدم شهادة نادرة من إسلامي عربي في حق إخوانه من الإسلاميين السودانيين، لأن كثير من الإسلاميين العرب يرون عدم انتقاد التجربة الإسلامية السودانية لأن أعداءها كثر فيما يرون ولا حاجة بهم لإضافة نصل على النصال والسيوف المشرعة للقضاء عليها. أما الشنقيطي فيقول " وبالنظر إلى الوراء عقدين من الزمان أعترف أن ثورة الإنقاذ فشلت فشلا ذريعا في رسالتها، وخيبت آمال الكثيرين ممن علقوا عليها بعض الآمال، وأنا منهم. كما أعترف أن حرب دارفور لخصت هذا الفشل أبلغ تلخيص" ويحاول أن يقدم تفسيرا لأوجه القصور هذه قائلا:  إذا كان لنا أن نجد تفسيرا فكريا لهذا الفشل  -يفترض حسن المقاصد  -ولا شك في حسن مقصد الكاتب فهو ناقد من داخل الصف الإسلامي، فهو تخلّف فقه الدولة عن فقه الحركة لدى الإسلاميين السودانيين ثم يخلص إلى جملة هي فحوى فكرة المقال وجماع الأمر عنده حيث يقول "فلم تنجح تجربة إسلامية على مستوى الحركة كما نجحت التجربة السودانية، ولم تخفق تجربة إسلامية على مستوى إدارة الدولة كما فشلت التجربة السودانية".

  

ويمضي شارحا  لهذه الفكرة من خلال تجربة الحركة الإسلامية والمفارقة بين مرحلة الحركة ومرحلة الدولة. ويذكّر بالربط بين البعد الأخلاقي للحركة والممارسة للسلطة وفي ذلك يقول: لكن التفسير الفكري لا يفسر كل شيء، فهنالك عنصر أخلاقي قد يفوق العنصر الفكري في أهميته، وتخلف هذا العنصر الأخلاقي في تجربة الإنقاذ هو الذي يفسر محنة دارفور، ويدين العديد ممن قادوا تلك التجربة ومن اتبعوهم".

 

ويمضي مذكّرا القارئ العربي العام، وليس الإسلامي المهتم، بالانشقاق الذي وقع في أوساط الإسلاميين بسبب الصراع على السلطة ونتائجه ويشير تحديدا إلى النقاش الذي فجرته كتابات الأفندي والتجاني عبد القادر عن أسباب الصراع. ثم يقرأ ذلك بعين المراقب المعني بالأمر لانتمائه للمشروع الإسلامي حيث يرى أن محنة دارفور ليس بمعزل عن الانشقاق الذي وقع في أوساط الإسلاميين فيقول:  ويمكن للمراقب، من بعيد مثلي، أن يستخلص من تلك المطارحات والردود، ومما تيسر من محاورات مباشرة مع أنصار كل من الترابي والبشير، ملامح ما حصل داخل أحشاء الحركة فتولدت عنه محنة دارفور". ثم يورد اقتباسا مطولا من مقال لعبد الوهاب الأفندي يتفق معه تماما ويعتبره تلخيصا دقيقا وحكما صائبا، وإن رأى أنه لا يعطي الخلفية التاريخية التفصيلية، خصوصا في شقها المتعلق بالحركة الإسلامية، يقول  الشنقيطي: كتب د. عبد الوهاب الأفندي ملخِّصا أسباب الحرب في دارفور فقال "إن التدهور الذي وقع في إقليم دارفور كان نتيجة لسلسلة أخطاء مميتة، بدأت بإساءة إدارة الوضع السياسي وممارسة الإقصاء في حق أهل دارفور، ومرت عبر العجز عن التصدي للتمرد المسلح، ومحاولة مداراة هذا العجز أو تداركه عبر تشجيع الفوضى والإجرام، وأخيرا العجز والتخبط في إدارة الكارثة التي نتجت وذيولها الدولية." 

  

وحتى يعطي الخلفية التاريخية التي يعتقد أن الأفندي قد أهملها يضيف قائلا: إن الجذور الاجتماعية للصراع في دارفور كانت موجودة دائما، مثلها مثل الكثير من الصراعات الكامنة في دول العالم الثالث، لكن تفجُّر الصراع التقليدي إلى حرب إبادة وتهجير بدأ ببداية الصراع بين جناحي الحركة الإسلامية". ثم يمضي بقارئه في شرح مفصّل عن قصة الخلاف ومخطط الحركة الإسلامية في التدرج عن الإفصاح عن وجهها وما إلى آخر القصة المعروفة للقارئ السوداني فيما عرف بالمفاصلة في القاموس السياسي السوداني. وربما  كان من المفيد هنا أن نكرر جزئية مهمة وردت في سياق ذلك ساقها الكاتب للاستدلال على فكرته الرئيسية وهي أن بذرة صراع دارفور قد وجدت في صراع الإسلاميين، حيث يشير إلى أن من تداعيات الشقاق ومحاولة كل طرف أن يأمن نفسه وقع استبعاد لبعض ضباط الجيش والأمن من الإسلاميين من أبناء دارفور كانوا هم فيما بعد نواة حركات التمرّد خصوصا تلك التي يقودها الإسلامي المعروف خليل إبراهيم. ويقول في ذلك: وانضم الإسلاميون المنحدرون من دارفور في غالبيتهم الساحقة إلى جناح الترابي، ربما لأنه كان مساندا لفكرة المركزية الإدارية وتقوية الحكومات المحلية، وهو ما عمق الحنق عليهم من الجناح الآخر".

  

ويمضي في شرح مسؤولية الحركة الإسلامية عن محنة دارفور بقوله: كان أهل دارفور من الإسلاميين المشاركين في الحركة الإسلامية يعلقون آمالا عريضة على ثورة الإنقاذ، أقلها أن ترفع الضيم عن إقليمهم، وتكفل لهم حضورا منصفا في جهاز الدولة ونصيبا منصفا من خدماتها، لكن سرعان ما خاب ظنهم. ولم تكن خيبة الظن هذه، جديدة مع الأسف، فقد بدأت بوادرها في الثمانينات، حينما استقال عدد من القادة الإسلاميين المنحدرين من دارفور من الجبهة الإسلامية القومية التي يقودها الترابي آنذاك احتجاجا على دعم الجبهة للقبائل العربية في دارفور ضد قبيلة الفور الأفريقية". ويورد في ذلك أن "حكومة الإنقاذ  قد قضت على التمرد بسهولة وأعدمت بولاد نفسه، مما ترك جرحا عميقا لدى أهل دارفور، خصوصا الإسلاميين منهم. وينظر أهل دارفور اليوم إلى بولاد على أنه شهيد قضيتهم، وأنه رجل سابق على عصره، كما تمدحه أدبياتهم بأنه كان حافظا للقرآن الكريم عميق التدين ومهندسا متميزا. بينما وصفته دعاية حكومة الإنقاذ حينها بأشنع الأوصاف والتهم، ومنها أنه ارتد عن الإسلام ومزق المصحف الشريف. وقد اعترف الترابي فيما بعد – حسبما أفضى به إليَّ أحد المقربين منه-  بأن حكومة الإنقاذ لم تأخذ العبرة من تمرد بولاد، فكانت حرب دارفور الأخيرة عاقبة لذلك".

  

ثم يعضد استدلاله بسير خليل إبراهيم على خطى داؤود بولاد ليخلص إلى أن "مشكلة دارفور لا يمكن فصلها عن مشكلة الحركة الإسلامية السودانية وعجزها الفاضح في بناء دولة العدل التي بشرت بها السودانيين خلال نصف قرن قبل انقلاب 1989. ثم يعبّر عن حسرته كإسلامي في عبارات تذكّرنا بحسرة الأفندي والتجاني عبد القادر وغيرهما من الإصلاحيين الإسلاميين، حيث يقول فضلا عن ما ذكر عن العجز في بناء الدولة " ثم الأنانية السياسية التي اتسم بها قادة الحركة في صراعهم الداخلي، ثم كيد بعضهم لبعض بطريقة انتهازية لم تحترم أسس التعامل الإنساني، فضلا عن الأخلاق الإسلامية" ويختم بقوله: لقد حفر الإسلاميون السودانيون قبرا جماعيا في دارفور لأنفسهم، ولحركتهم وتجربتها الرائدة، وهم يتحملون نتائج ذلك بؤسا وشقاء لهم ولشعبهم، وصدا عن الإسلام، وتيئيسا للناس من تحقيق العدل في ظلاله" ويوجه نداء إلى الشعوب العربية والإسلامية التي عليها أن تدرك ذلك "بدلا من التعاطف الساذج لأن دماء الفقراء المشردين في دارفور وكرامتهم الإنسانية لا يقلان وزنا عند الله عن دم الرئيس البشير والدكتور الترابي وكرامتهما، والاستصراخ في وجه العدوان والتطفيف الغربي لا يصلح مبررا للوقوف إلى جنب الظلمة من المسلمين. فمتى تفهم الشعوب العربية والإسلامية ذلك؟"

  

ومرّة أخرى يجد أنه يحسن به أن يستشهد بشهادة الأفندي، ولا عجب فالأفندي رجل عليم بمظهر الأمر وبمخبره، حيث يدعو الأفندي الإسلاميين في السودان إلى "أن ينصروا إخوانهم بكف أيديهم عن الظلم اتباعا للنصيحة النبوية، وأن يسارعوا إلى نجدة المنكوبين والتضامن معهم، وأن يطالبوا من داخل الحكومة بمساءلة ومحاسبة ومعاقبة المسؤولين عن هذه الكوارث السياسية والعسكرية والانسانية التي لم تهدد النظام فقط، بل تهدد اليوم وجود السودان" ويضيف الشنقيطي إلى ذلك: هذا إضافة إلى ما وجهته من ضربة للعلاقات العربية الأفريقية، ولمستقبل العمل الإسلامي في دارفور".

  

ويقدم نصيحة عامة للإسلاميين، وربما المسلمين عامة، من خلال قراءته للتاريخ الحديث فيقول: إن سوء صنيعنا في علاقة بعضنا ببعض وتسويغنا ما لا يستساغ هي الثغرة التي يدخل منها الآخرون دائما. وقد وقفنا مع صدام حسين في إبادة شعبه وغزو جيرانه، فكانت النتيجة أن خسرنا العراق وشعبه. وها نحن نقف اليوم مع البشير في إبادة شعبه وتشريده وستكون النتيجة أن نخسر السودان وشعبه. فهل ننظر أخيرا في المرآة لنرى الخشب في أعيننا، بدل البحث عن القذى في أعين الغير؟

 

 ويختم المقال بقوله: كم هو حق ما كتبه الأفندي "نعم هناك بالقطع خطر يتهدد الإسلام في السودان اليوم، ولكنه خطر مصدره الخرطوم، لا نيويورك أو واشنطن".

 

وبعد، فهذه شهادة من داخل صف الإسلاميين بالمعنى العريض تميزت بالرؤية النقدية وليس التعاطف ودفن الرأس في الرمال بدعوى عدم إضافة نصل من الإخوان إلى نصال الأعداء. فمتى سيكف يا ترى أهل الإنقاذ والإسلاميون منهم على وجه الخصوص عن ترديد نجاح تجربتهم غير المسبوقة وأننا سنفوق العالم أجمع وأن المشروع الحضاري هو الحتمية التاريخية الجديدة على الرغم من الفشل والإفلاس المبين للمشروع والفكرة التي احترقت على نار الواقع وإدارة الدولة لا لصعوبة إدارة الدولة في عالم اليوم المتشابك ولكن بسبب السقوط الأخلاقي قبل المادي الذي وقعت فيه الحركة والذي كان الأفندي والتجاني عبد القادر أول من أشار إليه من داخل الصف الإسلامي. ولا نملك في الختام إلا أن نكرر ما قاله الشنقيطي أعلاه:"فلم تنجح تجربة إسلامية على مستوى الحركة كما نجحت التجربة السودانية، ولم تخفق تجربة إسلامية على مستوى إدارة الدولة كما فشلت التجربة السودانية". ونحن، جمهور الشعب السوداني العريض من خارج الإسلاميين، لا يعنيه الجزء الأول من المقولة أعلاه عن النجاج الكبير للحركة وإنما يعنينا الجزء الثاني وهو هذا الإخفاق المدوي للتجربة الإسلامية في إدارة الدولة وهي دولتنا جميعا. أما آن الأوان لأهل الإنقاذ، والإسلاميين منهم على وجه الخصوص، للإقرار بهذا الفشل المدوي وأن يدعوا أهل السودان، من غيرهم، أن يتداعوا للنهوض ببلدهم وأن يكون لهم رأي آخر بعد أن خبروا ورأوا أن فكرة المشروع  الإسلامي العروبي في السودان قد وصلت إلى  أقصى مدى يمكن أن تبلغة تحت قيادة الإسلاميين السودانيين وخبروا كيف كانت نهاية الأحلام وعودة التاريخ.

  

أسامة عثمان، نيويورك

  نشر الجزء الأول من هذا المقال في جريدة الصحافة بتاريخ 26 مايو 2009، ولكن الرقيب حجب الجزء الثاني منه من النشر في جريدة الصحافة بتاريخ 2 يونيو 2009، ولقد أوردنا المقال هنا بجزئه المنشور والمحجوب.

 

آراء