هل الولايات المتحدة على وشك الانهيار
19 August, 2009
تنمية الجنوب
وخدمات روبرت زويك الشفهية
Shawgi Osman [shawgio@hotmail.com]
خلاصة القصة: الولايات المتحدة الأمريكية أفضل زبون عالمي، ولكن زبون "خاص". أنها تشتري من الدول الأجنبية سلعا حقيقية أضعافا مضعفة أكثر مما تصدر لهذه الدول (العالم)، بل حقيقة أنها لا تصدر أية سلع؛ نتج عنه عجز خرافي في ميزانها التجاري. كذلك تنفق ببطر على برامجها الداخلية (فضاء، وسلاح..) أكثر مما تجمع من ضرائب محلية. ولكي تدفع لكل هذه النفقات، على الولايات المتحدة أن تجذب إلى داخل الولايات المتحدة جبال وجبال وجبال من الرأسمال الأجنبي كل سنة، وهذه الجبال من الأموال "تقترضها" الولايات المتحدة من الحكومات الأجنبية والمستثمرين الأجانب (تجبرهم على شراء سندات الخزانة الأمريكية مع فوائد ضئيلة). هذه الدول الأجنبية لا يسرها أن تقرض أموالها للولايات المتحدة عن طيبة خاطر، ولكنها تقرضها فقط لكي تستخدم الولايات المتحدة هذه الأموال لشراء بضائعهم وبضائع الدول الأخرى. ولكن المستثمرون الأجانب لا يمكنهم أن يمضوا إلى الأبد لدفع فاتورة نفقات الولايات المتحدة. الوضع الآن صار أكثر حرجا، فالدولار (بسبب ظهور عملة اليورو) فقد قيمته 40% منذ أكثر من سنة، وفي انخفاض دائم، وهذا سبب كافي لكي يهرب المستثمرون الأجانب ويمتنعون من وضع أموالهم في ورقة أو سندات الخزانة الأمريكية.
هكذا هي خلاصة القصة! وإذا سألت أيا خبيرا اقتصاديا سيقول لك نفس خلاصة هذه القصة، ولكن مع كثير من الرطانة الاقتصادية غير المفهومة! لكي يربكك، ويسحقك "بعلمه"! ولكن كما قلنا، القصة لم تنتهي بالنسبة لنا. عليك أن تسأل نفسك السؤال البسيط، بالاستعانة بمعادلة دكتور البوني وصديقه محمد أحمد: "لزومو شنو اللفة الطويلة دي..". وركز معي، الولايات المتحدة تطبع كميات من الدولار كما تشاء وكما يحلو لها ومن الغباء تخيل شيء آخر غير ذلك، وإذا لم يفعلوا فهم أغبياء. وطالما هي تطبع كما تشاء (طبعا بي تحت تحت) ما لزوم إذن سندات الخزانة الأمريكية، وأن نستخدم تعابير مثل عجز الميزان التجاري، أو أن الولايات المتحدة تقترض من الدول الأجنبية، وميزان المدفوعات المائل، ورفع سعر الفائدة أو تخفيضه، أو خذ العبارة التالية الكبيرة: "الولايات المتحدة مدينة للدول الأجنبية"..الخ. لزومو شنو اللفة الطويلة دي؟
ستكتشف بدون هذه الرطانة الاقتصادية لا يمكن أن تتم الخدعة. تخيل أن العالم استخدم أسلوب المقايضة بدلا من الدولار! لقد عملها هوجو شافيز، ونفذ 18 صفقة سلعية بنظام المقايضة مقابل بتروله..فماذا فعلت به الولايات المتحدة في 12-14 أبريل 2002م؟ مولت وخططت الولايات المتحدة انقلابا على هوجو شافيز على طريقة انقلاب مصدق الإيراني 1953م لإطاحته ولكن الانقلاب فشل لوعي الشعب والجيش الفنزويلي. أو قل لو كل الدول استخدمت نظام سلة عملات بدلا من المقايضة لما كانت الولايات المتحدة يمكنها أن تبطر هذا البطر وتخدع العالم بوضع اقتصاديات الشعوب رهينة لديها. ولكن الملك فيصل في 1974م هو الذي تسبب في الكارثة عندما نفذ أوامر هنري كيسينجر ووليام إدموند سيمونز وزير خارجية نيكسون ألا تبيع دول الأوبيك زيتها إلا بالدولار بدلا من سلة عملات. فأضطرت كل دول العالم لكي تتحصل على "البترول الدولاري" عليها أن تبيع صادراتها بالدولار فقط..مما صنع الطلب الدولي على الدولار! ولم "تكضب" الولايات المتحدة..هاك يا طبع!!
ولكي لا تنخدع بالكلمات الاقتصادية، يجب أن تفهم أن السلع التي تتدفق على سوق الولايات المتحدة بهذه "اللفة" التي تتمثل في "خلاصة القصة" كما رسمناها في بداية المقالة، هي ناتج جهد ملايين البشر لملايين من ساعات العمل خاصة في اليابان وألمانيا في الخمسة والثلاثين سنة الماضية، والآن ضم إليهم الصين والهند وتايوان: أن تعطي سلعتك للولايات المتحدة، ويكتبون لك الأمريكيون في نوتتهم لك المبلغ الفلاني، أو أن يعطونك ورقة استثمارية تسمى سندات الخزانة الأمريكية، شيء مثل أوراق شهامة السودانية. لقد بنت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الوضعية بالبلطجة والترهيب والتجبين، والخداع والإبتزاز الاقتصادي، وعمل الانقلابات والاغتيالات..الخ ولكي تفهم هذه النقطة جيدا، أقرأ كتاب جون بيركينز "اعترافات رجل مافيا اقتصادي"، وهو كتاب جديد نزل في أغسطس 2004م.
نعم هو صحيح أن المتأذي من هذه الوضعية بشكل أكبر هي الدول التي لها قدرة على الصناعات السلعية والرأسمالية مثل اليابان، وتايوان، هونج كونج، كوريا، ومؤخرا الصين والهند، وبالطبع القليل من الدول الأوروبية مثل ألمانيا، ولكن أيضا بشكل كبير دول العالم الفقيرة التي تسلم الولايات المتحدة خاماتها مقابل لا شيء تقريبا عندما يسقطونها في الديون الوهمية مقابل هذا الدولار الوهمي fiat dollar ولكنهم مجملين في الجدول. الآن دعونا نرى الوضع بالأرقام.
هذه الدول التي في الجدول تسلم سلعها للولايات المتحدة منذ 1968-1974م تقريبا وبقيمة هذه السلع تشتري هذه الدول سندات الخزانة الأمريكية مجبرة، وهو نوع من "الاستثمار الإجباري" المفروض كراهية كما أسلفنا، تسلم نقودها لأمريكا لكي تشتري أمريكا المزيد من سلعها – إنها ساقية! فمثلا اليابان لها سندات بقيمة 702 بليون دولار، أرتفع في هذه الأيام إلى 840 بليون دولار (في إحدى مقالاتنا السابقة أخطأنا بوضع هذا الرقم للصين). وبما أنه كان بالإمكان أن تستمر "القصة" إلى ما شاء ربك، لكن ظهور اليورو في أول يناير 2002م هو الذي قلب الطاولة على الأمريكيين وعلى الدولار الأمريكي. السؤال لو سحبت هذه الدول ودائعها الفلكية –أي باعت هذه السندات وأسالتها إلى دولار- لن تستطيع الولايات المتحدة السداد بالكاش، لأن "خزينتها فارغة" –ابلع هذه العبارة- على حسب الشكليات الرسمية. أو خذ، أن الدولار انخفضت قيمته 40% منذ أكثر من سنة، معنى ذلك أن هذه الدول خسرت 40% من قيمة ودائعها، وإذا أنهار الدولار أو الإقتصاد الأمريكي تأكل هذه الدول الخرى كما يقول الفلسطينيون!!
يمكننا استقراء المزيد من النتائج اعتمادا على التحليل السياسي الاقتصادي من هذا الجدول، فمثلا تحاشت الدول الغربية شراء سندات الخزانة الأمريكية، فعمدت منذ منتصف الخمسينيات عمل ما يسمى "بحيرة دولارية" في مدينة فرانكفورت dollar pool لكي تتحاشى وضع إحتياطياتها في الحصالة الأمريكية، ما عدا بريطانيا، فلذا تجد السياسة الدولية البريطانية والأمريكية واحدة (طـ..) في لباس واحد! ويمكن القول لماذا تقف اليابان في صف الولايات المتحدة، ولا تعصي لها أمرا. كذلك المتضرر الأكبر هي الدول الآسيوية في المستقبل إن لم تسارع بالتخلص من الدولار (سندات الحكومة الأمريكية) بشراء أصول ثابتة، أو الدخول في استثمارات حقيقية مع الدول الأخرى، مثلما تفعل الصين في السودان في قطاع البترول وغيره، وفي كندا، وفي أمريكا اللاتينية. وفعلا توجد هرولة صامتة من البنوك المركزية العالمية في هذا الاتجاه تصمت عليه الميديا الدولية التي تمتلكها القبضة اليهودية، بينما تصمت الميديا الغربية- إن كانت غربية- لكي لا تشاغب الولايات المتحدة من جهة وكذلك لكي تستيقظ خراف دول العالم الثالث النائمة. ولقد بلغ الهلع بأصحاب الأموال مبلغا كبيرا حينما توحدت الولايات المتحدة وجروها الثري اليابان سياسيا ضد الصين الأم في قضية استقلال أو ضم تايوان. ولكن هنالك أيضا في الجدول كتلة دولارية مقدارها 93 بليون دولار تحت مسمى الكاريبيان، أي منطقة المحيط الكاريبي، وتملكها البنوك التي تسمى (أوف شور بانكس) وهي بنوك أمريكية، هذا المبلغ الضخم 93 بليون دولار ترجع أصوله للنقود القذرة، مثل نقود المخدرات، وأندية القمار، والدعارة، ولصوص الدول الأفريقية..وحتى الإسلامية، مثل بنك التقوى..الخ كلها مستثمرة في السندات الأمريكية، وطبقا للمصدر الذي أخذنا منه هذا الجدول يبقى الاسم العيني لمالكي هذا المبلغ غير معروف.
وعند هذه النقطة يمكنك السؤال أين موقع الدول الخليجية من الإعراب؟ بعملية جبرية حسابية بسيطة تكتشف أن "دول أخرى other countries" لها مبلغ معتبر، يساوي 715 بليون دولار، ولا شك هي لدول الخليج بما لا يقل عن 500 بليون دولار. فبدلا من أن يذهب هذا المبلغ في تنمية الدول الإسلامية الفقيرة يذهب إلى الولايات المتحدة!! إذن هل يمكن أن يأتي أحدهم وأن يقول لي "اقتصاد إسلامي"..!؟ تعجبك جلساتهم ومؤتمراتهم الإسلامية تلك التي يعملونها عن المصارف الإسلامية، أو المؤسسات الإسلامية..كلها شعارات براقة تختفي أسفلها الأعمدة الخليجية التي تسند الإمبراطور الأمريكي! فإذا فهمنا أن النمور الآسيوية بما فيهم الصين أو الهند، يسلمون إحتياطياتهم الدولارية للولايات المتحدة لكي تستطيع (حسب زعم أميركا!) شراء تلك السلع الآسيوية، فلماذا تسلم دول الخليج مداخيلها وهي ليست دول صناعية؟
عند هذه النقطة يمكن أن نأخذ أنفاسنا ونسأل ما هي العوامل التي تعجل بانهيار الولايات المتحدة؟ يمكن أن نجملها في هذه النقاط: أولها أن تسحب هذه الدول المذكورة في الجدول ودائعها الاحتياطية (إذا استطاعت ولم تلغيها الولايات المتحدة) الحاضرة والفعلية وتحويلها لعملة اليورو، وألا تشتري مستقبلا سندات الخزانة الأمريكية؛ ثانيا تحول دول العالم لعملة اليورو كعملة للإحتياطيات المالية لبنوكها المركزية؛ ثالثا أن تتحول الدول كافة في تجارتها العامة إلى استخدام اليورو كعملة مدفوعات لصادراتها؛ رابعا –وهي قاصمة الظهر- أن تقرر دول الأوبيك التعامل باليورو فقط كعملة مدفوعات لزيتها. النقطة الثالثة تعتمد على الرابعة.
وهنا يمكننا أن ندرس سلوك الولايات المتحدة في محاولتها لوقف الانهيار القادم والحتمي بل بالأحرى لتعطيله لسنة أو لسنوات قليلة قادمة إن استطاعت. أولا بكل ثقة يمكن القول طبقا لهذا التحليل أن الولايات المتحدة، وأجهزتها بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي هما من احدث ضربة نيويورك في 11 سبتمبر وألصقوها بالإرهاب وبابن لادن، لكي يستحدثوا متغيرات وإستراتيجية دولية جديدة تحت دخان مكافحة الإرهاب. فاقتراب ظهور عملة اليورو في أول يناير 2002م ومضاعفات نزوله للسوق فعليا ليست غائبة عن نظر الإدارة الأمريكية ولا غائبة عن أجهزتها منذ بداية التسعينات، وسنؤكد هذه النقطة لاحقا عندما نشرح كيف يصرف جهاز الإحتياطي الفيدرالي بكرم وبذخ شديدين، ومنها الرشوة، على مراكز البحوث الاقتصادية الأمريكية التي هي فقط متخصصة في مجال ال econometrics وهو المجال الذي يدرس المشاكل الاقتصادية اعتمادا على جمع المعلومات وتطبيق العلوم الإحصائية. دعونا نفتش على الروافع الأمريكية!
هنالك روافع داخلية وروافع خارجية. لنبدأ بالداخلية. أهم عمود تجلس عليه الإمبراطورية الأمريكية هو جهاز الإحتياطي الفيدرالي. هذا الجهاز، رغم أن أسمه لا يشير إلى بنك، لكنه هو البنك المركزي الأمريكي، أسس في 23 ديسيمبر 1913م على يد لجنة آلدريش، هذه اللجنة قررها الكونجرس 1911م لعمل إصلاح نقدي بعد "سنة الرعب" 1907م. آلدريش متزوج من أسرة يهودية غنية، فكون في هذه اللجنة ممثلين للديناصورات المالية اليهودية، وبعد أن ساحت اللجنة سنتين في أوروبا لدراسة البنوك المركزية –أمريكا متخلفة في هذا المجال- رجعت اللجنة وضمت لها بشكل غير رسمي باول فاربورج، وهو يهودي ألماني من هامبورج أسرته تعمل في صناعة المال والبنوك، شقيقه ماكس هو الذي هرب لينين 1917م من بازل عبر ألمانيا إلى بطرسبيرج. باول هو "المهندس" الذي صمم "طبيعة" الجهاز لتخصصه في عمل البنوك، فانتظرت اللجنة إلى أخر يوم قبل عطلة الكريسماس، حتى يذهب معظم أعضاء السينات المناوئين لولاياتهم بينما بقى المطلوبين وتقدموا "بورقتهم" في يوم 23 ديسيمبر وافق عليها الكونجرس بالأقلية من الأصوات، ووقع عليها ويلسون وودرو، بعدها بشهور ندم وقال لقد دمرت أمتي بغباء!!
ما هي سر اللعبة؟ أولا لم يسموا جهاز الإحتياطي الفيدرالي بنكا صراحة لأن الشعب الأمريكي كان يكره كلمة "بنك" و"بنوك". تتمحور اللعبة أن أصول هذا البنك المركزي لا تملكها الحكومة الأمريكية، أو الشعب الأمريكي، بل تملك أصوله البنوك التجارية الخاصة فهو إذن بنك مركزي قطاع خاص، وعلى ضؤء ذلك، تقترض الحكومة الأمريكية من هذا البنك بعد دفعها للفوائد، وكل التكاليف مثل طباعة العملة..الخ. عملوا لجهاز الإحتياطي الفيدرالي 12 فرعا تتوزع على 12 "منطقة" على كل مساحة الولايات المتحدة دون الاعتبار للحدود المعروفة للولايات الفيدرالية، حتى لا يخضع لأية دستور ولائي أو لقوانينها. وكل فرع تمتلك أصوله البنوك التجارية الخاصة التي في تلك "المنطقة" وناطقا باسمها، أي يمثل الفرع "المنطقة" ببنوكها. وعلى ضؤء ذلك يعتبر فرع منطقة نيويورك هو الأقوى بالمطلق. وحقيقة بقية ال 11 فرعا ما عليهم سوى أن يبصموا.! وإن تمرد بنك صغير في منطقة ما في أحد الفروع على فرع نيويورك يسحقونه فورا...يتبخر..! طبعا فرع نيويورك بكامله يحوي بنوك نيويورك اليهودية الديناصورية وأصولها المالية!! مع السنين، والكفاح المرير، عمل الكونجرس حوالي 25 "تعديل" في طبيعة العلاقات ما بين الحكومة الأمريكية وجهاز الإحتياطي الفيدرالي، من ضمنها عملت اللجنة التي تتكون من 12 محافظا للبنك governors board ofيعينهم رئيس الولايات المتحدة، مدة عضوية المحافظ 14 سنة، ولكن هذا التعيين شكلي..لا يستطيع أي رئيس أمريكي تحدي هذا الجهاز، وإن فعل..يطيرونه في ثانية!! كذلك لا يخضع للمراجعة المحاسبية القانونية GAO!! الوحيد الذي تحدى هذا الجهاز هو كينيدي..طبعت وزارته، وزارة الخزانة، عام 1963م أربعة بليون دولار مقابل فضة كانت تملكها الحكومة الأمريكية فقتلوه!!
هذا الجهاز رغب اليهود أن يوصلونه إلى البنك المركزي للعالم..!! فماذا فعلوا؟ انتظروا أو بالأحرى نضجوا الحرب العالمية الثانية، ودمروا الدول الأوروبية القوية تماما، وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعام، في 22 يوليو 1944م أسس اليهود البنك الدولي وصندوق النقد الدولي..وتخفت البنوك التجارية اليهودية خلفهما، بالأحرى "جهاز الإحتياطي الفيدرالي"..هل فهمت؟! لقد ثقف يهود الولايات المتحدة منذ 1950م الصقور الأمريكية من المسيحيين (الشركات، والكونجرس..) بفكرة قيام أو عمل إمبراطورية أمريكية أو حكومة دولية واحدة، وأقنعوهم أن جهاز الإحتياطي الفيدرالي هو خير للجميع..!! هذه الوضعية الآن مسلم بها من الدوائر العليا المتنفذة، بينما ربما 90% من الشعب الأمريكي وربما 99% من العالم لا يدركها..مسكوت عنها إعلاميا أو اكاديميا!! يبقى من الغباء أن يتحدثوا عن هذه الرافعة أو الروافع، وهذا التكتم هو في سياق طبيعة لعبة الهيمنة وصنع الإمبراطورية. ويأتي تحطيم اتفاقية بريتون وودز 1944م وتحطيم نظام تغطية الدولار بالذهب بداية من عام 1968م وبقرار رسمي في 1971م لأسباب إرادية تتعلق بتوسيع وتمديد الإمبراطورية الأمريكية، لأن نظام الذهب يشل يدها ويقيدها.
إذن هنالك رافعتين للولايات المتحدة قويتين: جهاز الإحتياطي الفيدرالي، والبنك وصندوقه الدوليين. بينما تكون الماكينة العسكرية الثقيلة هي الرافعة الثالثة، أضف إليهم الإعلام الأمريكي اليهودي الذي يعتبر الرافعة الرابعة. فيمكنك إذن ملاحظة أن كيف أنتقل اليهودي باول فولفوفيتز إلى رئاسة البنك الدولي، ويعتبر هو أحد لوردات الحرب الثلاثة – فولفوفيتز، فايث، وريتشارد بيرل (اقيل) الذين يقودون البنتاجون.
في الحقيقة باول فولفوفيتز منذ فترة الأب بوش وحتى 1992م هو الذي وضع الإستراتيجية المتكاملة لغزو العراق، والدول البترولية الشرق أوسطية وحتى أفغانستان من البنتاجون، ولكن بوش الأب أرجأ تنفيذها، كان يعتقد أنه سيفوز بالفترة الثانية حيث فاز عليه بيل كلينتون، فتأجلت الخطط حتى فاز الابن في 2000م. وبجلوسه في البنك الدولي، يكون باول فولفوفيتز ممسكا برافعتين، البنك الدولي وعصا الجيش الأمريكي. ولأنه هو وحده –وطبعا بوش وتشيني فقط- الذي يفهم ما هو المطلوب، لا يمكن أن يجلسوا شخصا "غريبا" عن الدائرة الضيقة على سنام البنك الدولي. وهذا منطقي أليس كذلك؟ الهدف هو كيف ينقذون الدولار، أو بتعبير آخر كيف ينقذون جهاز الإحتياطي الفيدرالي، وبالطبع إنقاذ الإمبراطورية الأمريكية من الانهيار.
يلعب البترول الورقة الحاسمة في إنقاذ الإمبراطورية، ليس لأنه مادة للطاقة والمحروقات ذات أهمية خاصة، فهذه مسألة ثانوية ومفهومة ضمنا، بل لأن "الطلب" على البترول هو ثابت، وبما أن 191 دولة عليها أن تدفع قيمة فاتورة البترول بالدولار، وبالتالي كان عليها أن تبيع كل صادراتها بالدولار للحصول عليه مما يخلق "الطلب" العالي على الدولار، تنتعش الإمبراطورية بحيث لا تفعل شيء سوى تصدير ورقة مقابل سلع حقيقية، يمكن القول بثقة وبدون مبالغة، أن ظهور عملة اليورو للوجود هو الذي عكنن مزاج الإمبراطور منذ بداية التسعينيات، فأخذ الإمبراطور في وضع الخطط والإستراتيجيات لامتصاص المضاعفات التي سيخلقها المولود الجديد وولد فعلا في الأول من يناير عام 2002م. ولا يمكن فهم 11 سبتمبر إلا أنها ضربة إستباقية والإعلان ببدء تنفيذ الإستراتيجيات الأمريكية فعليا وواقعيا لإنقاذ الإمبراطورية.
فطيلة منتصف التسعينيات (فترتي كلينتون) دخلت الولايات المتحدة بالطول والعرض في فرض وجودها العسكري ونفوذها السياسي في دول الإتحاد السوفيتي السابق مثل أذريبجان، ولكن الأهم هن طاجيكستان، كيرجيستان، أوزبكيستان، وتوركيمنستان يجلسن على بحيرة من البترول. وبما أننا كسالى، يكفى أن تلقى نظرة على أطلس الدول حتى تكتشف لتمديد أنبوب بترولي من هذا الدول للمحيط الهندي عبر باكستان أو الهند، له إحتمالان: أما عبر إيران أو أفغانستان. وبالطبع لا يمكن أن تمد الولايات المتحدة الأنبوب عبر إيران، لذا لا بد أن يغزو بوش الأفغانستان بجنوده لكي يقتلع نظام الطالبان ويشتتهم في الاتجاهات الأربعة. ولكن ثبت أن استخراج البترول في هذا المناطق كلفته عالية، هذا إضافة للمشاكل السياسية ما بين الجيران، ولكن الأهم أنه بعيد من الولايات المتحدة..فالترحيل له تكلفته. لذا وضعت الولايات المتحدة عينها على بترول أفريقيا، وحتى الآن تعتبر نيجيريا خامس أكبر دولة من المصدرين للولايات المتحدة حوالي 850 ألف برميل في اليوم، وهنالك أنبوب قد تم تمديده من تشاد للكاميرون للمحيط الأطلنطي، وبالطبع تطمع الولايات المتحدة في بترول السودان..
تخيل دولتين غير بتروليتين (أ) و (ب)، إذا قررت الدولة (أ) أن تدفع قيمة احتياجاتها البترولية للأوبيك بالدولار ستضطر أن تبيع كل خاماتها وسلعها التصديرية بالدولار - للحصول للدولار لشراء الزيت! وبالمثل، إذا قررت الدولة (ب) أن تدفع قيمة احتياجاتها البترولية للأوبيك باليورو ستضطر إلى بيع كل خاماتها وسلعها التصديرية باليورو – للحصول على اليورو لشراء الزيت؟ ماذا يعني هذا ضمنيا؟ يعني ضمنيا: تحت دخان الطلب demand العالي على الدولار أو اليورو من قبل 181 دولة غير بترولية يمكن للولايات المتحدة أو الإتحاد الأوروبي أن يطبعا ورقاتهما بلا حدود، وبالتالي يعيشا عالة على حساب سكان العالم!! هذه هي "الصرعة" الدولية بكلمات بسيطة!
في السابق قبل ظهور اليورو، كان الدولار هو الملك المتوج، وكانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المستفيدة من ميزة ورقة مقابل سلع حقيقية، ولكن بعد ظهور اليورو انقلبت الأوضاع، وأصبح التنافس ما بين اليورو والدولار، أي ما بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في قمته. ولكنك يمكنك أن تلاحظ أن الأوبيك هي مفتاح اللعبة! ماذا ستقرر الأوبيك؟ هل ستنحاز للدولار أم لليورو؟ أم للاثنين؟ على هذا السؤال تتوقف حياة الإمبراطورية الأمريكية.
إذن السودان –بصفته دولة بترولية واعدة- واقع تحت مطرقة الدولار وسندان اليورو، بتعبير آخر هو أحد الكروت التي ستنقذ الإمبراطورية الأمريكية من الإنهيار. ففي أية حكومة أمريكية، هنالك تقسيم للعمل، فلكي يتسيد الدولار وجهاز الإحتياطي الفيدرالي العالم لصالح اليهود والولايات المتحدة عموما يتركون هذه المسألة بالكامل ليهود الولايات المتحدة. يصبح الأمر من السذاجة أن يستغرب بعضهم لماذا تعج الإدارات الأمريكية باليهود. ولقد وصل تقسيم العمل حتى مع أوروبا، فمنذ الخمسينيات وبلحاظ اعتراض الدول الأوروبية على الهيمنة الأمريكية، وصلوا إلى اتفاقية جنتلمان، يرأس البنك الدولي أمريكي، بينما يرأس صندوق النقد الدولي أوروبي، بينما دول العالم الثالث عليها أن تأكل خرى.
يقول البروفيسور الخبير الأمريكي المجري الأصل، انتال فيكته، Antal E Fekete الرياضي المتخصص في علم التحاليل للنظم المالية والنقدية، في مقالته المشهورة "علم النقود الكئيب"، يقول عن الدولار في نص طويل نفرده لك هنا: (كل العجب لهذه العملة الوهمية fiat money ولنتائجها البائسة على مدار 35 عاما عندما يحاول الدولار أن يعمل بدون غطاء ذهبي. ماذا يجعل الخاسر رابحا، والرابح خاسرا؟ تفسيري لهذا الأمر أن الاقتصاديين يتم رشوتهم. يمكن تتبع هذه الرشوة المالية في صلب المؤسسات الوطنية الأمريكية. من فضلك تحملني قليلا لكي أشرح لك قصة الرشوة التي لا يمكن تصورها.
بنوك جهاز الإحتياطي الفيدرالي (عددها 12) تدفع 6% في السنة أرباحا على نسب رأس المال أو الأصول المسجلة من قبل المساهمين، البنوك الأعضاء. (تعليق من كاتب المقالة: لاحظ أن المساهمين أو "البنوك الأعضاء" هي البنوك التجارية التي تتخفى خلف جهاز الإحتياطي الفيدرالي وفروعه ال 12، وليس جمهور العامة). قوانين جهاز الإحتياطي تمنع بنوك الجهاز من دفع أرباح للمساهمين تعلو على ال 6% مهما كانت أرباحها خرافية أو عالية. ويمكنك الاستنتاج، أنها (6%) أرباح خرافية بما فيه الكفاية. أين يذهب الفائض من الأرباح الذي لم يقسم (94%)؟ الجواب لهذا السؤال: بنوك جهاز الإحتياطي الفيدرالي الاثني عشرة يسلمون هذا الفائض لوزارة الخزانة الأمريكية تحت عنوان زائف. في سجلات الدخل، يسمون هذا الدفع franchise tax on the Federal Reserve notes outstanding وبالعربي، (الضريبة المستحقة على ورقات الدولار، التي –الضريبة- لم يبت فيها). الآن أفهم، أن أية "ضريبة" مفروضة يجب أن يصدق عليها أولا الكونجرس دستوريا وتحول إلى قانون بعد توقيع رئيس الجمهورية. الآن أحثك بشدة أن تسأل بروفيسورك المفضل في علم النقود الكئيب أن يشير إلى هذا القانون الضريبي، ويحدد تاريخ تمرير القانون المتعلق بهذه الضريبة المستحقة. ولكن عد نفسك أنك ستنتظر وقتا طويلا سيقضيه البروفيسور في عملية البحث، لأنه لا يوجد قانون بهذا الشكل، ومطلقا لم يقترح في الكونجرس ولم يوافق عليه. القصة لا تصدق، أليس كذلك؟
هل أحد الموظفين في جهاز خدمة المراجعة الداخلية IRS اختار هذا الاسم عبطا للضريبة وبدأ في جمع أموال تلك الضريبة؟ لا بالتأكيد. يمكنك أن تقاتل ضد هذه "الضريبة الشبح" وحتى، إذا أضطررت، إلى المحكمة العليا. هنالك 12 بنكا فرعيا لجهاز الإحتياطي الفيدرالي. كل فرع منهم به وحدة قانونية، مليء بالخبراء القانونيين والمستشارين ويقبضون جيدا. هل تعتقد أن واحدا من هذه الفروع قد تحدى هذه الضريبة غير القانونية والوهمية وراجع شرعية دفع الأموال المتحصلة أو المدفوعة على ضؤها؟ مفاجئة، مفاجئة. لا أحد من هذه الفروع عملها مطلقا. إضافة إلى ذلك، لم يحتج أي مساهم، لم يحتج أي بنك تجاري من الأعضاء، ضد هذا الترتيب لدفع هذه الضريبة غير القانونية. لماذا؟ في نظام "الشيك الطائر" ما بين وزارة الخزانة الأمريكية وبنوك جهاز الإحتياطي الفيدرالي الاثني عشرة، يعتبر الأخيرين هم الأدنى أو الأصغر.
حصحصة الغنيمة ليست على أساس 50-50. نصيب الأسد يذهب للشريك الأعلى. لابد أن الشركاء الصغار (12 بنكا) مقتنعون وراضون بالفتافيت. ولكن هذه الفتافيت من الضخامة بحيث يمكنها أن تقيم عليها حفلا. لماذا لا يكونون راضون إذا كانت بنوك الجهاز الفيدرالي هي بنفسها التي تحدد النسبة التي على أساسها تقيم الضريبة؟ هذه البنوك هي حرة أن تستقطع كل المنصرفات والنفقات على كل شيء تافه يمكن أن يتخيلوه قبل أن يصلوا للسطر الأخير لكي يحددوا المبلغ الفائض من الأرباح الذي لم يقسم، وهو الذي يسلمونه لوزارة الخزانة.
وبالفعل هم يسجلون في تسجيلاتهم نفقات وهمية. ولكن هنالك في أوراق السجلات أيضا نفقات مالية شرعية للبحوث الاقتصادية. مبلغ ضخم جدا، لا يغطي فقط البحوث الداخلية داخل جهاز الإحتياطي الفيدرالي، بل أيضا خارجه في صورة منح وهبات مالية لمراكز خارجية على أسس تعاقدية لكثير من الجامعات وبنوك المعلومات البحثية think tanks. الآن قدر، إذا ترغب، حجم المنصرف على الباحثين الاقتصاديين المدفوع لكي يحللوا لماذا هذه العملة الوهمية fiat money مصابة بالهزال وإذا خلصوا أن العلاج يكون في الرجوع لمبدأ الغطاء بالذهب. النتيجة المحصلة: صفر.
من وجهة نظر بنوك جهاز الإحتياطي الفيدرالي، كلما صرفوا المزيد من الأموال على البحوث الاقتصادية كلما دفعوا ضرائب أقل لوزارة الخزانة الأمريكية. لذلك تزيد النفقات التي يحصحصونها للبحوث باطراد، وتعطى بكرم حاتمي لدعم بحوث علم النقود الكئيب dismal monetary science مع وضع الاعتبار غلق أي صوت نشاز يطالب برجوع نظام الذهب.
في عام 1975م، قضيت عاما كأستاذ زائر لجامعة برنسيتون. للصدفة البحتة والغريبة، كان أيضا باول فولكرPaul A Volcker بجامعة برنسيتون كأستاذ رئيسي. كان باول يتنقل ما بين وظيفتين. بعد أن عمل وكيلا بوزارة الخزانة الأمريكية للشؤون النقدية، متجاهلا تخفيض قيمة عملة الدولار، كان في حالة انتظار وظيفة في جهاز الإحتياطي الفيدرالي. لم نكن ندرى ذلك في ذلك الوقت، ولكان سرعان ما أتضح أن الوظيفة الجديدة التي سيشغلها هي رئاسة البنك النيويوركي لجهاز الإحتياطي الفيدرالي، أهم وظيفة دسمة في الجهاز بكاملة، وبالتأكيد أكثر دسامة – وأقل درجة- إذا حسبنا وظيفة رئيس لجنة المحافظين board of governors والتي ستكون من نصيبه لاحقا بعد بضعة سنوات. باول أجرى محاضرات لطلبة الدراسات العليا في الجامعة في مادة تسمى "مادة النقد الدولي" "international monetary stuff" كما يدعوها. كنت أسقط على المحاضرات عفويا، وفي بعض الأحيان أجلس أستمع له مع الطلبة، وتقديم أوراقهم. ولقد ساهمت بنفسي بورقة، كما أتذكر، عن الذهب في النظام النقدي العالمي. باول وشخصي كانا يتقابلان في بعض الأحيان خارج غرف التدريس. يوما ما عزمني للغداء في نادي الكلية الذي كان هو عضوا فيه.
ما يتعلق بالذهب، لم يتحمس باول فولكر للفكرة على الإطلاق. قال: (ليس هنالك اعتراض على الذهب باعتباره الملك الدستوري المتوج. ولكن على الذهب أن يحسن السلوك وأن يخضع لقرارات البرلمان. إذا بدأ الذهب في تأكيد نفسه، وإذا أساء سؤ السلوك، سيخلعونه وسيرسلونه للمنفى). هذا ما حدث للذهب في عام 1971م. الذهب لم يعد يحتملونه كملك مطلق. ولكنني لم أجادل باول أنسنته للذهب. كان بإمكاني القول له ليست القضية أن للذهب السيادة، بل القضية في الناس الذين يتعاملون معه، وكما ينبغي عليهم طبقا لدستور الولايات المتحدة الأمريكية.
لم تكن لباول فولكر في ذلك الوقت أية شكوك في إخلاص الدول التي تسير خلف قيادة الدولار، كما يتبع مستأجر الأرض سيده الإقطاعي. البنوك المركزية الأجنبية تعلم تماما أن نقودهم في نفس ذلك المركب الذي يركبه الدولار. إّذا طوحوا بالمركب، سيغرقون جميعهم. أنهم يعلمون أن عليهم أن يشنقوا مجتمعة وإلا عليهم أن يشنقوا فرادى.
وبالطبع باول فولكر كان يعلم أنني بروفيسور في علم الرياضيات. سألني إذا كانت لدى الرغبة في القيام بعمل معادلة رياضية تفاضلية لتوصيف العلاقة ما بين سعر الصرف الأجنبي والتشتت وما بين سعر الفائدة، ما بين دولتين...القائم بينهما. أخمن إذا قلت "نعم"، كنت حفرت لنفسي طريقا نحو المجد في رحاب علم النقود الكئيب، وبمنحة مالية سمينة ودسمة من جهاز الإحتياطي الفيدرالي التابع لمنطقة نيويورك. ولكنن قلت "لا"، وأضفت عليها، في تقديري، لا يوجد شيء في المعادلات التفاضلية قد يوصف العلاقات السببية. أنها لا تفيد على الإطلاق إذا ما كان الشيء الذي تود فهمه في إطار العلاقات الغائية أو الهدفية. والعلاقة ما بين أسعار الصرف الأجنبية وتشتت أسعار الفائدة هي مشكلة غائية، أو سببية. لا يمكنك معالجة البشر الذين يملكون إرادة حرة كما لو أنهم جزئيات ساكنة في تجربة فيزيائية. هذه هي مشكلة الاقتصاديات الكلية (ماكرواكونوميكس) مقابل الاقتصاديات الصغيرة (مايكرواوكونوميكس). هي تفترض أن الوحدات الاقتصادية لها "روحها" الخاصة، بينما الأفراد في يدها بلا روح، مادة خاملة، يمكن تشكيلها كما نرغب.
موقفي السابق الذكر مع باول فولكر يوضح كيف أنهيت المسألة، وليس محتاجا للقول، أنني تضررت كثيرا من عدم نيل تلك المنحة أو الفرصة الدسمة. ولكنني لست نادما. لم أترك موطني الأصلي المجر عندما دخله السوفييت بدباباتهم 1956م لكي أبدله بوطن آخر منافق.
يجب أن يكون واضحا للجميع أن المنح المالية الضخمة التي تخرج من قبعة الأقسام الخاصة بالبحوث ببنوك جهاز الإحتياطي الفيدرالي هي رشاوى مالية ضخمة لدعم علم النقود الكئيب بشكل حصري، ليس لها أية علاقة بالبحوث الحقيقية التي ترغب للوصول للحقيقية أو نشرها، ولكنها لتحصين ودعم قوة باطشة وساحقة، دعم الإمبراطورية.
قارن مرة أخرى العلاقة النفعية (الشيك الطائر) ما بين وزارة الخزانة وبنوك جهاز الإحتياطي الفيدرالي رغم أنه من المفترض أن تكون علاقة ضبط ومحاسبة. الأخيرة يمكنها شراء مهنة كاملة من الفتافيت وما زالت تراكم الأرباح، وما زال في جعبتها من المال لتهبه للاقتصاديين من دول أخرى لكي يرددوا مثل الببغاوات نظرية الطلب على النقود لجون مانيارد كينيز. هذا يعكس تسوس النظام الكامل الذي يملك عملة غير قادرة بالوفاء لحاملينها. ليس فقط أنها تسمح لمصاصي الدماء ليلوثوا المدخرين والمنتجين في المجتمع بل أيضا تفتح الأبواب مشرعة لشراء الأصوات السياسية التشريعية. أيضا أنها تفسد العقل وتحبط أي مناقشة جادة غير متحيزة تتعلق بالمبادئ العلمية. فعملة غير قادرة بالوفاء "بقيمة" لحاملينها هي سرطان في الجسم الاقتصادي، والسياسي والأكاديمي). أ.هـ.
نكتفي بما قاله البروفيسور انتال فيكته Antal E Fekete عند هذه النقطة ونشير أن حواره مع باول فولكر هو في فترة منتصف السبعينيات، وفولكر الآن متقاعد بعدما ترأس جهاز الإحتياطي الفيدرالي لسنوات عديدة، وهو الذي يترأس الآن اللجنة الأممية التي تحقق في سرقات الزيت مقابل الغذاء العراقي. كذلك بهذه اللمحة نكون قد نجحنا في إلقاء البصيص من الضؤ على خرافية علمية الإقتصاد، ويمكنك الاستنتاج أن الجوائز التي تمنحها نوبل في الإقتصاد، كلها "مضروبة"..لاقتصاديين يصنعون ملابس الإمبراطور الشفافة!!
والآن سننتقل لجزء آخر لإكمال اللوحة الاقتصادية السريالية، وتأملوا معي الجدول السابق سنلاحظ أن الدول الآسيوية لها قصب السبق في ملأ حصالة الإمبراطور الأمريكي، مثل اليابان والصين وتايوان وهونج كونج، لقد أصابتهم الصدمة ولا يصدقون أنفسهم. لقد راكمت هذه الدول ما فيه الكفاية من الدولارات لكي تصنع لنفسها دفأ لعدة فصول شتوية قادمة. بينما في عز ضوء النهار وشمسه الدافئة، ترقص دول الأوبك والولايات المتحدة طربا لقفزة سعر البترول من 30 إلى 50 دولار وأكثر للبرميل.
هذه القفزة في سعر الزيت تزيد فاتورة العالم لاستهلاك الزيت التي تبلغ يوميا 84 مليون برميل إلى 4.2 بليون دولار، وكان سابقا قيمة الاستهلاك اليومي 2.5 بليون دولار (أو قفزت إلى 1.5 تريليون دولار في العام من 900 بليون دولار). وسيخرج العالم من محفظة نقوده زيادة سنوية مقدارها 600 بليون دولار للدول المنتجة للبترول لكي لا يتوقف عن الحركة والدوران.
ولكن الصدمة الكبيرة على الآسيويين، على كل، هي في انخفاض قيمة المقبوضات الدولارية التي وضعوها في سندات الخزانة الأمريكية وتآكلها. فازدياد أسعار الزيت "تضمن" أن قيمة الدولار الأمريكي ستنخفض للمزيد. وفي هذه الآونة الأخيرة تعتبر الصين رقم أثنين في قائمة أكبر المستوردين للزيت، واليابان رقم 3 – مع بقية دول آسيا العطشى للزيت – يمكننا فهم لماذا الدول الآسيوية يجب أن تجد لها طريقا آخر لحماية نفسها.
وما زلت تسمع الكثير عن "العجز التجاري" الأمريكي، أو عجز "حسابها الجاري". هل هو فعلا عجز تجاري، وعجز في الحساب الجاري؟ لا نظن. كلا. لقد صنعت الولايات المتحدة "بنية" اقتصادية معينة بإرادتها وتخطيطها الحر لصنع الإمبراطورية، ما يسمى "إقتصاد الإمبراطورية"، مستغلة كل الظروف الداخلية والخارجية لتحقيق هذا الهدف، أي لكي تصب كل موارد العالم الحقيقية نحو أو داخل الولايات المتحدة، فجنبا إلى جنب مع البحوث استعملت البلطجة والتجسس والترغيب والترهيب والحروب. إذن، لقد نسخت الولايات المتحدة النظرية الكينيزية سرا، واستحدثت لها نظرية أخرى مبطنة، لا تجدي معها الرطانة الاقتصادية القديمة. ويمكنك تأمل سخرية البروفيسور انتال فيكته وتهكمه من تلك الببغات المدفوعة الثمن (منها على سبيل المثال لا الحصر إسحاق ديوان) التي ما زالت تثرثر بجون مانيارد كينيز لإيجاد "حل" الأزمة الأمريكية أو سخريته من الباحثين الاقتصاديين الذين يخونون الحقيقة العلمية المجردة أو يخونون النظرية الاقتصادية الكلاسيكية لصالح الإمبراطورية. ويمكننا التأكيد، أن من ضرورات إقتصاد الإمبراطورية التخلص من نظام الذهب الصارم كمقياس ومعيار للعملات، استعملت الولايات المتحدة بدله آلية الزيت. والتخلص منه مقصود لذاته وليس لأنه غير مجدي، بل لأنه كان يقيد حركة الإمبراطور في بناء الإمبراطورية في كل الاتجاهات. وكان بالإمكان أن يذهب السيناريو الأمريكي في تحقيق ذاته بلا شروط لعقود وعقود دون أن يوقفه شيء لولا ذلك اللعين اليورو..!!
ومنذ بداية التسعينات تنبأت الولايات المتحدة بلحاظ اليورو أن أنف البنوك المركزية الأجنبية لن يحتمل أن تشتري الدولار لتدفع نفقات الإمبراطورية الأمريكية "وعجزها" المزعوم. وعندما نقول أن عجز الولايات المتحدة التجاري بلغ 650 بليون دولار، يعني ذلك حرفيا أن الولايات المتحدة تستهلك كل إنتاجها المحلي، وفضلا عن ذلك تستورد بحجم المبلغ سلعا أجنبية أيضا تستهلكها. أية من البنوك المركزية إذن تبقت لكي تستخدمها الولايات المتحدة لكي تشتري دولاراتها؟ لماذا لا يكونوا دول الخليج – ولكن من أين سيحصلون على الدولارات لكي يدفعوها لوزارة الخزانة الأمريكية؟ الصينيون يجمعون الدولارات وينموها بشكل جنوني، وحتى الآن سوق الزيت متماسك، ولكن سرعان ما سيزيد الطلب الصيني العالي على الزيت لكي ترتفع أسعاره. وسيدفع بقية الآسيويين الثمن، سيشنقون عندما ترتفع أسعار الزيت لأنه عليهم دفع المزيد من دولاراتهم.
كلما زادت أسعار الزيت كلما زادت الدولارات في حصالة الدول الخليجية. وبوضع وزارة الدفاع الأمريكية كل قواتها في كل الخليج، محوطة بالكامل بحاملات الطائرات والطرادات البحرية وعلى استعداد لتصدير "صدمة ورعب الديموقراطية المفاجئة" لممالك الخليج، يمكننا المراهنة بالتأكيد أن صبيان الولايات المتحدة داخل الأوبيك سيهرولون لتسليم ما قبضوه من الدولارات الآسيوية بشراء تلك سندات الخزانة الأمريكية القديمة السيئة الصيت! بهذه السياسة البسيطة لتمويل العجز المزعوم، لا عجب إذن أن تصل الولايات المتحدة لأهدافها بدون أن تستخدم وزارة الخزانة أية جهد فكري. وفي الحقيقة، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الخليجيين يمكن القول قد عملت عملية سطو مسلح على البنوك المركزية بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. لقد ارتفعت أسعار الزيت 60% أو أكثر، وتقدر الزيادة الطارئة بحوالي 3.4 تريليون دولار صافية تدخل تحت المقبوضات الأجنبية في الأصول المالية الأمريكية. وليفتخر الأمريكيون بحكومتهم الحاذقة التي نشلت جيوب شركائها التجاريين والماليين بحركة بارعة. إضافة إلى ذلك، تغصب الولايات المتحدة العرب لكي يدفعوا نصيبا ضخما لكي يسدوا الثقب في عجزها المالي، ولدعم أسعار الفائدة، ولكي تحافظ الولايات المتحدة على معدل منخفض من الضرائب لسنة قادمة – بتعبير آخر ودعك من تلك الرطانة الاقتصادية تتحصل على البترول مجانا.
الولايات المتحدة الأمريكية، الإمبراطورية، تفرض على دول العالم "جزية" جراء استهلاكهم للبترول. إذا كان العالم يرغب في نفط الشرق الأوسط، يمكنهم الحصول عليه من وزارة الخزانة الأمريكية عبر فرعها في المملكة العربية السعودية. لماذا يتمسك المسؤولون بالدولار في السعودية، والكويت، وأبو ظبي، والبحرين، وقطر.الخ؟ لماذا يتمسكون بالدولار؟ العائلة الحاكمة في السعودية تسيطر على 25% من إحتياطيات العالم البترولية، وبشكل كامل تعتمد على مداخيل البترول في معيشتها. عشرات الآلاف من الأمراء يعيشون في بذخ ملوكي. فكر في العائلة السعودية الحاكمة كشركة أو اعتبرها شركة. إذا انحدرت قيمة الدولار نحو الأسفل العائلة السعودية الحاكمة ما زال في إمكانها الحصول على مئات البلايين من الدولارات. ولكن، إذا لم يرغبوا في شراء الدولار، لماذا تحتفظ بهم الولايات المتحدة في قمة الحكم؟ تذكروا صدام حسين الذي قرر تسعير الزيت العراقي باليورو ماذا فعلت فيه الولايات المتحدة؟ استخدمت الولايات المتحدة سلاح "الصدمة والرعب"!
فبرنامج الإمبراطورية الأمريكية، الزيت مقابل الدولار، والدولار لسد عجز الخزانة الأمريكية هو جزية بسيطة، بإمكان دول العالم، والولايات المتحدة كإمبراطورية، ونحن كذلك، توقعه. يجب دفع جزية للولايات المتحدة لأنها تحافظ على إمدادات الذهب الأسود لكي يحصله الجميع- هكذا يفعل آل كابوني! وبعكس حرب فيتنام - عندما كانت الولايات المتحدة تحاول تمويل السلاح والزبدة- الآن يجب على الآخرين أن يدفعوا لها تكلفة السلاح والزبدة بحلب البترول من باطن الرمال وتحويله لزبدة. السؤال التالي هو كيف سيتصرف الآسيويون بعد الزيادة في أسعار البترول التي بلغت 60%؟
عند هذه النقطة، نقف لنأخذ أنفاسنا، مع السودان والسودانيين، مع المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، مع أحزاب المعارضة، مع الشعبي، ومع الشيوعيين وقبيلة اليسار، الأمة والاتحاديين، وعموم الشعب السوداني الطيب. هذه المقالة تعكس بالضبط اللوحة التشكيلية للصرعة الدولية. فماذا نحن فاعلون؟ انظروا للعراق ماذا فعلوا فيه؟ أنه على شفا حرب عرقية ومذهبية دينية؟ نهبوه ودمروه بالكامل. قارن ما وصل له العراق ما قبل الحرب 1991م وبعد الحرب والحروب؟ يجب أن تستنتج أن الولايات المتحدة ليست في مقدورها فعل ما فعلته في العراق دون الدعم اللوجستي الذي وفرته لها الدول الخليجية. وبما أن السودان سيصبح دولة بترولية واعدة، كيف تتصور أيها السوداني أن يكون شكل السودان أو موقعه من الإعراب في الخريطة الأمريكية؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تفترض على الجميع ألا يستغرقوا أنفسهم في لعبة السياسة بل يجب عليهم التحديق في الإقتصاد، وخاصة اقتصاديات البترول. فهل ترغب أن يكون السودان مثل فنزويلا؟ أم السعودية؟ نيجيريا؟ أو كولومبيا؟ هل ترغب أن تسلم نقودك لوزارة الخزانة الأمريكية؟
إذا كانت الولايات المتحدة قد صنعت كيرازي في أفغانستان، ومئات مثله في العراق، فما الذي يمنع أنها صنعت أمثالهم من السودانيين في الفيافي الأوروبية والأمريكية، وجاهزون لكي يخلقوا فوضى سياسية وبعدها يدمرون السودان ويسلمونه للولايات المتحدة لقمة سائغة؟ هذا متوقع مائة في المائة. إذن عندما يعارض السوداني الحكومة السودانية يجب ألا يتطرف، يجب ألا ينساق بعواطفه وبغرائزه، يمكنه المعارضة، والمعارضة مطلوبة، ولكن يجب عمل كل الحسابات اللازمة مع النفس، إلى أين ستقود هذه المعارضة. إلى الأحسن أم إلى الأسؤأ؟ هذه القدرة لا تأتي إلا بتثقيف الذات.
انظروا إلى روبرت زويك، اليهودي، مساعد وزير التجارة الخارجية، يذهب إلى جون قرنق في رومبيك ويبشرنا بنية الولايات المتحدة تقوية جيش الحركة الشعبية، والسؤال هنا، لماذا؟ هل هذا الزويك تابع لوزارة التجارة أم الحرب؟ هل السوداني الجنوبي يحتاج إلى مدرسة وتنمية أم يحتاج إلى سلاح؟ فكروا جيدا. ما سلحت الولايات المتحدة دولة وإلا قصدت أن تحدث فيها انقلابا هكذا يقول نعوم تشومسكي. السلاح والتدريب، هما سلاح تكتيكي لإحداث انقلاب، فما أن تكثر الأسلحة بأنواعها في أيدي الجنرالات، حتى يفتكون ببعضهم، بهذا النموذج قلبوا الليندي. هل لا يعجبهم جون قرنق؟ ربما. ولكن في تقديري حقيقة الدكتور جون قرنق وانحيازه للثوابت الوطنية أو عدمه سيظهره أسلوب التنمية الاقتصادية القادمة في جنوب السودان.
ونطمئن الجميع، خاصة الدكتور جون قرنق، أنهم لن يدفعوا أموالا لتنمية الجنوب أو السودان ككل دون دفع الثمن. وهذا الثمن لا يقل عما وصفناه في صلب هذه المقالة. ولكن رئيس الجمهورية كان واعيا بهذه النقطة، وكررها في كذا تصريح، أن تنمية البلاد ستقوم اعتمادا على سواعد السودانيين أولا وأخيرا. وهذا هو بالضبط الذي يغضب الغربيين، أو الأمريكيين، ولذا حنقهم على حكومة المؤتمر الوطني لا يعادله أية حنق في العالم. فهذه الحكومة ليست غبية كما تظهر، وتمتلئ بالوطنية إلى مشاشها.
وعليه نقول، ولكي يمضي السودان إلى الأفضل، عليه أن يركز على ثلاثة أبعاد في المرحلة القادمة. أولها إرساء الصناعة الورقية. فمخلفات صناعة السكر السلولوزية كافية لعمل أرقى مؤسسات صناعية للورق، بدلا من تضييعها في عمل الأمباز والأعلاف. المتتبع للثورات، والانتقالات النوعية في حياة الشعوب، يكتشف أن صمود هذه النقلة لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحصين عقل الشعب ضد التدخلات، والمؤامرات التي تنسج لدفن تلك الثورة وتحطيمها. فخذ حتى ثورة عبد الناصر التحررية أسست دورا للنشر ضخمة في مصر، أو قوت من المتوفر منها قبل الثورة، مثل دار المعارف، ودار الكتب، ودار الشعب للكتاب، ودار الهلال، فاصبح الكتاب في متناول أفراد الشعب المصري حتى 1970 بملاليم. ولكن بعد هذا التاريخ، اكتسحت مصر كتب دول الخليج السلفية والوهابية، وأصبحت مئات المطابع المصرية الصغيرة في خدمة هيمنة الجناح السلفي الخليجي بقيادة ابن تيمية ففقدت مصر البوصلة..ودخلت في نفق عميق من الدخان وأخذت تترنح!!
إذن فما أحوجنا نحن السودانيين بالذات لهذه الصناعة الورقية، لأنه إذا اعتبرت شعب السودان خليطا ضخما من الأعراق والثقافات المتنوعة يعتبر "الكتاب" بلا شك عامل تقريب للثقافات والاختلافات، مزيل للإحن خاصة الوهمية منها، وعامل للتجانس والتآلف والتقارب. ومن باب أولى، يعمل الكتاب على تأصيل الروح الوطنية والقيم الإسلامية السمحة، وخلق تيار فكري رئيسي مشترك ومتجانس يعني بالقضايا الاجتماعية التحويلية الضخمة، مثل قضايا الاقتصاد والتنموية.
البعد الثاني هو عمل مراجعة كاملة للبنية التعليمية. فمن المعروف، أن القاعدة التعليمية، بما فيها الجامعية، هي التي تخلق الإنسان لاحقا، وتشكل ليس فقط تطلعاته الروحية والفكرية، بل إعداده إعدادا جيدا للانخراط في مسيرة تثمير الثروة وتعظيمها لقتل الفقر. وهنا الثروة لا نعني بها النقود، بل نعني الثروة في صورتها المادية في كل أشكالها وتعابيرها. ليس أقل من أن نندفع في تغليب التعليم المهني والفني إبتداءا من القاعدة التحتية، بدلا من الثانويات الأكاديمية التي لا تخرج سوى أفندية. ليس من مصلحة السودان أن يكون القابضون على المستشاريات التعليمية على كل المستويات أناسا حركيين لا هم لهم سوى تجذير مذهبهم الإسلامي الأيديولوجي والمأثور والمنقول من تصوراتهم الحزبية الضيقة والقصيرة النظر.
وكرمية جانبية، مثلا استغربت أن تقوم وزارة التعليم الاتحادية بتأجير شركة بريطانية، تقليدا لدولة قطر وربما تشبه الرشوة، لكي تزرع ماد اللغة الإنجليزية في التعليم الأساسي. ولا أدرى هل هذه القضية قام بها أفراد معينين على مسئوليتهم الشخصية، أم أنها فهم عام قاعدي في التخطيط التعليمي. وحجتهم أن الطلبة أصبحوا ضعفاء في مادة الإنجليزي. ولنفترض؟ هل هذا الضعف يبرر هذه النقلة؟ فمن المعروف، أن الدول الاشتراكية لكي تؤسس بنيتها في مطلع الثلاثينات صنعت ما يسمى بالستار الحديدي، ولكن بشكل سافر وفج. هذه العزلة الحديدية هي مهمة لرعاية النبتة من الرياح! ولكن اليابان فعلتها بطريقة أذكي من الدول الاشتراكية، عندما لم تشجع مواطنيها تعلم الإنجليزية، ولا حتى الأجانب تعلم اليابانية فضربت ستارا حديديا حتى فجرت نهضتها الصناعية وفاجأت بها العالم الغربي.
فخذ كمية الطاقة النفسية والعقلية المهدورة عندما يهجص شبابنا بمايكل جاكسون – هذا على سبيل المثال لا الحصر! ودعك من القضايا الاقتصادية مثل حقوق الطبع وكم شريط تم بيعه كما يحدث في الخليج! ودعك من الاختراقات التي يفعلها بغال طروادة الناطقة بالإنجليزية! ولكن قد يتبادر لبعضهم أن الإنجليزية مهمة كلغة علمية..!! نقول لهم أيضا آسفين! العلمية لا تعني أنك تحفظ تلك الكتب الإنجليزية، بل تعنى "قوة الملاحظة" لظاهرة ما، والقدرة على استنباط علاقات مكونات الظاهرة..الخ – ومن ثم وصفها بأية لغة. حتى ولو كان بالدنقلاوية أو الشلكاوية أو الدينكاوية! ولكن الأهم وصف الظاهرة باللغة الوطنية الأشمل والأوسع انتشارا. ماذا يمكننا الاستفادة من دكتور أو بروفيسور لا يستطيع توصيل علمه لمستمعيه إلا لمن يجيد الإنجليزية؟ وكم يكون عدد المستمعين؟ إن التعريب هو صح، بينما الكتب العلمية التي بالإنجليزي وغير الإنجليزي يمكن ترجمتها. إذن عملية زرع اللغة الإنجليزية على مستوى الأساس –في تقديري- ضرب من الجهل المركب.
بل تعمل الأمم التي تفهم هذه النقطة بحق وحقيق التالي: أن تقوم بتوسيع قاعدة اللغة الأجنبية في اتجاه مصالحها الإستراتيجية. فمثلا تجدني ملاحظا جيدا في ألمانيا كيف أنهم وسعوا من قاعدة تعليم اللغة الصينية في كافة ألمانيا، بينما لم يفعلوا ذلك مع العربية لأنه ثبت أن دول الخليج (وهي الأهم في نظرهم) تتحدث الإنجليزية أفضل من العربية! لو كان بيدي الأمر لكنت فرضت اللغات الإسلامية التالية في المدارس الثانوية وليختار الطلبة منها ما يعجبهم: الفارسية، والتركية، والأوردو الباكستانية، والهندية، والماليزية، والإندونيسية..وأيضا السواحلية.
أما النقطة الرابعة والأخيرة، هي أن نخلق ثقافة اقتصادية، خاصة في ثقافة البترول. وأن نسعى لأن نفهم في كل كبيرة وصغيرة في المجال الاقتصادي، ليس فقط النظري التقليدي والكلاسيكي الذي يدرس في الجامعات، بل أيضا بالتحديق في الإقتصاد الوضعي والقدرة على استنباط مفاهيم ومبادئ لحماية مصالحنا، وكذلك الدفع لاستحداث مفاهيم اقتصادية أكثر إنسانية، نثرى بها من حولنا والعالم...!! ولا شك، أن أية نهضة أو نهوض نوعي لا بد أن يصاحبه أيضا نهضة إعلامية قوية..ومع الأسف لا أرى في الإعلام السوداني أية عمل طليعي جدي يفتح الطريق للنهوض. فخذهم كيف هم مبهورون بجان برونك، أو بكولين باول..الخ، أو أن جماهيرنا السودانية لا تفهم طبيعة الصراع الدولي بكفاءة، هذا الصراع الذي تدور رحاه حول أنفنا..يتدخلون في أدق شؤون حياتنا بينما تعجز صحافتنا المطبوعة في تفسير كل ذلك. إذن الثقافة الاقتصادية هي المطلوبة، والتنمية وأبعادها الإنسانية..الخ وليس الطنطنة السياسية!!
شوقي إبراهيم عثمان
ميونيخ – ألمانيا
shawgio@gmx.net