هل تعيد جبال النوبة .. درة السودان .. سيرتها الأولى .. فى ظل تداعيات السلام

 


 

 

 

بقلم / آدم جمال أحمد – القاهرة

 

منطق جبال النوة تقع وسط السودان وتمثل درة السودان ، فهى غنية بثرواتها الطبيعية !! .. حيث تسكنها قبائل النوبة وعرب البقارة وقبائل غرب السودان الجغرافى من فلاتة وبرقو وبرنو وقبائل وسط وشمال السودان من كواهلة وكبابيش وشنابلة وحمر وعركيين وجعليين وشايقية .. لذا فهى تمثل سودان مصغر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانى ومدلولات ، وتتميز بموروث ثقافى غنى من التراث الشعبى ، فإنسان جبال النوبة بطبعه يعشق الفن والجمال ، ولكنه فى ذات الوقت يمارس السياسة .. منفتح وقلبه يحمل وحدة السودان .. وسلامة ترابه ومستقبله ومكانته بين شعوب العالم.

 

فإن التطور الذى حدث لإنسان منطقة جبال النوبة .. ونضوجه سياسياً وفكرياً واجتماعياً تمتد جذوره الى عهد التركية والمهدية والحكم الثنائى وقوة دفاع السودان ، حيث ذهبت أعداد كبيرة من أبناء النوبة وسكان المناطق المهمشة الى الخدمة العسكرية ، وعادوا ليأخذوا بأساليب الحياة الحديثة .. وخرج من صلبهم ثوار  ثورة اللواء الأبيض 1924 .. ومن ثم تحرك الوعى السياسى الى تنظيم الكتلة السوداء .. وتضامن قوى الريف ,, ثم اتحاد عام جبال النوبة .. وغير ذلك من تطورات الحركة السياسية فى السودان ، التى تتمثل اليوم فى مفهوم المناطق المهمشة.

 

ويعود التعايش السلمى بين قبائل المنطقة الى عقود عدة ، وقد بنت هذه القبائل بينها نظاماً اجتماعياً واقتصادياً ..!! بموجبه يتفادون التنازع والإقتتال بينهم ، خاصة وهم ينقسمون الى زراع مستقرون .. ورعاة رحل .. هذه العلاقات السلمية تلخصت فى التحالفات والاتفاقيات التى أصبحت بمرور الزمن واقعاً معاشاً.

 

أما من ناحية التعايش الدينى .. فإن أهل منطقة جبال النوبة هم السودانيين الذين لا يرون صراعاً بين الأديان ، فعند الأسرة الواحدة قد تجد المسلم والمسيحى .. ومن هم على الأديان المحلية والأفريقية الأخرى ، لا يختلفون فى إنسياب الحياة !!.. ولكن الحرب أثرت على المنطقة سياسياً واجتماعياً وإقتصادياً ، بما فى ذلك البنيات الأساسية والتحتية ، ولقد ساهمت الضغوط التى عاشها مواطن جبال النوبة فى فترة حكم التركية والحروبات القبلية بين القبائل فى السابق .. وفى فترة الحكم الثنائى فى ظل سياسة المناطق المقفولة التى إنتهجها المستعمر وأثرت على المنطقة سلبياً ، مما أدى الى تأخير التنمية والتعمير .. ومن ثم كان للحكم الوطنى تداعيات سلبياته دوركبير فى تصعيد النزاع ، لأنه لم يتفهم الأوضاع .. بالإضافة الى تطلعات المواطن فى المنطقة حسب خلفيته الاجتماعية والسياسية .. فلم تساهم بأى قدر أو تقدم شيئاً بل ساهمت فى زيادة تخلف المنطقة !!.. وحينما حاول البعض من مواطنى منطقة جبال النوبة الدفاع عن حقوقهم المسلوبة فى الثروة والسلطة تم إتهامهم بالعنصرية والجهوية وغيرها من النعوت غير الكريمة ، وفى مرحلة أخرى مع تصعيد الحرب سعت بعض الحكومات الوطنية الى زرع الفتنة وتسليح بعض القبائل دون الأخرى.

 

لكن لا بد من الإعتراف بأن لجبال النوبة قضية ، وهناك أسباب أدت الى تفاقم المشاكل التى تتمثل فى عدم الإعتراف بالهوية الأفريقية النوبية والثقافة واللغة والتقاليد والتنمية ، وكذلك أخذ الأراضى والمشاريع الزراعية عنوة والعمل على طرد سكان القرى عنها وتقنينن ملكيتها وتمليكها لبعض الشخصيات من خارح إطار المنطقة ( الوافدين ) ، أدت هذه الأسباب كلها الى تصعيد الصراع والغبن الاجتماعى وصغر المساحات الزراعية التقليدية واألراضى المخصصة للرعى ، مما أحدث ذلك إحتكاكاً بين المزارعين والرعاة.

هكذا أدت الحرب الى تدمير المدارس والخدمات الصحية ومناهل المياه وأصبحت الحياة لا تطاق .. وتفشى الجهل والمرض وتدهورت البنيات الأساسية ، فأدت الحرب الى تفكك وخلخلة البنية والنسيج الاجتماعى لسكان المنطقة وأصبحوا بين نازح ولاجئ قسرياً ونازح طوعياً داخل وخارج قطر السودان الشاسع المترامى الأطراف .. فترملت بعض النساء وفقد الأبناء الأباء والتعليم فأصبحوا هائمين على وجوهم وتشردوا وصار معظمهم فاقد تربوى ، وتراهم اليوم يعيشون حياة الفقر فى أطراف العاصمة القومية والمدن يصارعون شظف العيش يمتهنون الأعمال الهامشية فى الطرقات والمحلات العامة ، وهم فى كر وفر مع شرطة النظام العام والمحليات ( كشة ) ، وأصبح الأطفال يائسون .. بائسون .. هائمون .. فقدوا أهلهم وزويهم وكل إشراقات المستقبل ، وجل آمالهم البحث عن لقمة العيش والكسب من مسح الأحذية ( ورنيش ) مع دفع وتسديد الضريبة نهاية يوم للمتحصل مندوب الضرائب بالاضافة الى نصيب المحلية وفى حالة العجز تطالهم العقاب والمطاردة ومصادرة أدوات عملهم ومصدر رزقهم.

 

أما إقتصادياً لقد فقد أهالى منطقة جبال النوبة التى هجروها بعد أن خسروا الزراعة والمواشى وكل ما يملكون ، فأستجاروا بالمدن وخاصة حول ولاية الخرطوم وأطرافها والتى يحلو للبعض تسميتها أمثال البروفيسور حسن مكى ( الحزام الأسود حول الخرطوم ) ، والتى لم تحسن إستقبالهم .. فأصبحوا فائض عمالة يعيشون على الهامش والفقر المدقع ، فلا توجد برامج واضحة لاستوعابهم وإنقاذهم .. فصاروا غرباء يبحثون عن اليد التى تمتد لتنتشلهم .. فالنظرة الدونية والتفكير المتعالى وسياسة التهميش وإقصاء الآخرين فى ظل عدم وجود العدالة أدت الى تفاقم المشاكل التى يعانى منها مواطنى منطقة جبال النوبة اليوم ، وملاحقة وإعتقال المثقفين والمتعلمين مما دفعهم للفرار والهروب وطرق أبواب الهجرة واللجو .. فكانت رحلة الإغتراب .. وقطار المعانأة التى يعيشها أبناء النوبة فى دول المهجر.

 

ولتجنب جبال النوبة نزيف الحرب مستقبلاً لا بد للمركز من تحقيق مطالبهم عبر التمييز الإيجابى لكل حقوقهم المشروعة بإزالة الغبن ومرارات المظالم التى أصابتهم وتنفيذ ما بداخل هذا الاتفاق ، ويجب الحفاظ على الاتفاقية والدفاع عنها ومحاولة تنفيذ بنودها وإتفاق الجميع والالتفاف حولها ، وتفويت الفرصة على أعداء السلام والإنسانية .. وذلك بتوحيد صفوف ابناء جبال النوبة بتلاقح الأفكار نحو فهم مشترك لإيجاد الحلول الناجعة لقضاياهم المختلفة نحو السلام العادل .. الذى يتطلب جلوس جميع أبناء المنطقة بمختلف ألوان طيفهم السياسى والثقافى والعرقى للوصول الى معادلات التعايش السلمى بينهم وبين القبائل الأخرى غير النوبية بالمنطقة ، وذلك بدعوة كل القيادات العليا والوسيطة والشابة والساسة والمفكرين والطلاب والعمد والمشائخ من أبناء منطقة جبال النوبة .. للتفاكر حول المخرج الحقيقى لمستقبل المنطقة السياسى وكيفية العمل على إيجاد آلياتتساعدفى عملية تنمية وتعمير المنطقة ورفض التناحر والتحارب والاتفاق على رؤى موحدة للدفع بتنفيذ بنود الاتفاقية والعمل على توحيد الجهود للدفع بعجلة التنمية وتضميد جراحات الحرب والماضى والإحتقان لتمضى بروتوكولات الاتفاقية لغاياتها السامية فى سهولة ويسر ، للإنتقال الى مرحلة ترتيب الأوراق حول كيفية الحكم والدور السياسى المقبل ما بعد الاتفاقية ؟.. وما هو دور الدول الراعية للاتفاقية ؟.. وما هو دور التنظيمات والأحزاب النوبية السياسية فى المرحلة المقبلة .. حتى تتكامل الجهود الفكرية والسياسية والعسكرية  وغيرها .. لكى تعيد جبال النوبة سيرتها العطرة الأولى.

 

القاهرة     14 يونيو 2003             

 

 

آراء