هل توقفت عجلة الزمن عن الدواران في السودان؟!

 


 

 




في عام 2007 قاد المُشير/ عبد الرحمن سوار الدهب، واللواء/ عُثمان عبد الله مبادرة "جمع الصف الوطني"، فكتبت ونشرت المقال المُرفق.
خطر لي اليوم أن اُعلق على لقاء البشير والصادق، فلم أجد أفضل من إعادة نشر ذات المقال المكتوب قبل ستة أعوام!!.
اللوم كُل اللوم على قوى اليسار وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني الذي يُريد أن يكبر كومه بالتحالف مع قوى اليمين وتحديداً حزب الصادق المهدي (ولا أقول حزب الأُمة)، متجاهلاً حُلفائه الطبيعيين من قوى الإستنارة والسودان الجديد وغير ملتفت لحكمة "لا تحسب الشحم في من شحمه ورم"
قال إنشتاين "أن تُكرر فعل ذات الشئ وتتوقع نتيجة مُغايرة، فهذا هو الجنون"


مهدي إسماعيل مهدي/ بريتوريا (جنوب إفريقيا)
ما أشبه الليلة بالبارحة

قبل أكثر من عقدين من الزمان، وتحديدا بعد انتفاضة أبريل/1985 المجهضة، قال الراحل/ جون قرنق، عن نظام الحكم الانتقالي الذي أعقب الانتفاضة، قولته الشهيرة السديدة "إنها مايو الثانية- May-2"، وعندها قامت الدنيا ولم تقعد، وتلقى الراحل أقذع الشتائم والنعوت والتي أقلها "ماذا يريد هذا الـ .... ؟". ثم دارت دورة الأيام وأثبتت صدق فراسته، بل لم يكتف أبطال مايو الثانية بالمداراة، وإنما تولوا الأمر خلسة وغدرا في ليل الثلاثين من يونيو 1989، بعد الكذب والافتراء بأن الانقلاب عمل وطني إنقاذي يقوده ضباط لا علاقة لهم بالأحزاب السياسية، ولم ينطل الكذب الصريح إلا على السذج والبسطاء.
وخلال الأسبوع الماضي هللت وكبرت أجهزة الإعلام السوداني لما يسمى بمبادرة "هيئة جمع الصف الوطني"، ومرة أخرى يريدون أن يحشروننا باسم الوطنية محشرا ضيقا، إذ لا أحد يستطيع أن يجهر أنه ضد جمع الصف والوفاق، وقد قال قائلهم سابقا "من خدعنا في الدين (أو الوطنية) انخدعنا له!!"، ولكن هل يلدغ العاقل من ذات الحية مرتين؟.
فلأول وهلة لا بد أن نتساءل، لماذا جمع الصف الوطني الآن؟ لماذا لم يهب هؤلاء النفر الكرام إلى جمع الشمل والإنقاذ تبطش يمينا وشمالا، تقود الجهاد ضد أبناء الوطن الواحد في جنوب القطر، وتقصف المدنيين العزل في دارفور، وتشرد خيرة أبناء الشعب السوداني في المنافي والمهاجر، وتحيل إلى الصالح العام أفضل الكوادر وأكثرها كفاءة ونزاهة؟ لماذا صمت هؤلاء الكرام عن الحق (والساكت عن الحق شيطان أخرس) طيلة ثمانية عشر عاما عجافا؟.
ثم كيف سُمح لهم هكذا وبكل بساطة باستخدام أجهزة الإعلام المسموع والمرأى والمقروء بكل حرية، مع أننا نعرف أن هذه ليست المبادرة الأولى، فقد سبقتها مبادرات لم يلتفت إليها أحد؟ ويبدو أن الهيئة لا تعاني من شح في التمويل، فأوراقها مصقولة واتصالاتها ميسرة (لفتت نظري الحقائب الأنيقة التي تحوي أوراق العمل، والمطبوع عليها "جمهورية السودان") كأنما هي مؤسسة حكومية رسمية، تابعة لجهاز الأمن مثلا!!!.
إن الأمر ببساطة (ولا يحتاج إلى درس عصر) اصطفاف للسودان القديم بكل مكوناته البالية في مواجهة السودان الجديد، وهو حلف انتخابي بتمويل من الحكومة وتسخير لأجهزة وموارد الدولة التي هي رهن إشارة الحزب الحاكم، وهذا تحالف دبر بليل بعد أن أتضح أن الانتخابات القادمة سوف تخلط كثيرا من الأوراق وتعيد صياغة الواقع السوداني صياغة جديدة وتفرز معادلات جديدة يكون القدح المعلى فيها للمهمشين والمستضعفين الذين عبروا عن انتمائهم لفكرة السودان الجديد في استقبالهم الأسطوري لحامل الفكرة والمبشر بها.
ومع أنه لا مانع من الوفاق الوطني، ولو بعد ثمانية عشر عاما من القهر والشتات، إلا أن ذلك لا بد أن يتم على أسس واضحة وليس على طريقة "عصاية نايمة وعصاية قايمة"، وهذه الأسس هي:-
1- أن النظام الحالي والقيادة الحالية هي التي أوردتنا هذا المورد الصعب، ولذا فلا بد أولا من رد الأمور إلى نصابها، وإبعاد هذه القيادة من موقعها الحالي بل ومحاسبتها على ما اقترفته من جرم في حق الوطن والمواطنين، إذ لا يمكن البناء على أساس منهار، ولا بد من تنظيف الجراح من صديدها قبل علاجها، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.
وببساطة متناهية لقد جربت الإنقاذ كل الحيل والألاعيب وفشلت، وعليها الذهاب دون مكابرة أو تهريج، وليكن للبشير أسوة حسنة في "بلير، واولمرت من بعده"، فالحكمة ضالة المؤمن، حتى وإن كانت من عند اليهود والنصارى، لأن من أهم صفات القيادة حسن تقدير الأمور والاعتراف بالخطأ وتحمل المسئولية.

2- لا بد من إنصاف كل المظلومين (فالعدل أس الحكم) وإعادة كل المفصولين والمحالين بفرية الصالح العام إلى أعمالهم فورا، ثم النظر في المعالجات الأخرى المتعلقة بهذه المسألة، وهذا يستدعي تشكيل هيئة وطنية نزيهة بإشراف مكتب العمل الدولي ومنظمة حقوق الإنسان، ليس لإعادة المفصولين وحسب، وإنما لفصل كل من تولى منصبا دون كفاءة أو دربة أو دراية، ولا يخفى على أحد أن دواوين الحكم وأروقة الخدمة المدنية والعسكرية متخمة بالنكرات من أصحاب الولاء والانتهازيين، الذين انحدروا بها إلى أسفل سافلين.
3_ إن الوفاق الوطني وجمع الصف الوطني يتحقق من خلال التطبيق الصادق والمخلص لاتفاقيات السلام التي تم التوصل إليها، وعلى رأسها اتفاقية نيفاشا (اتفاقية السلام الشامل-CPA)، واتفاقية أبوجا (اتفاقية سلام دارفور-DPA) بعد إكمال نواقصها، واتفاقية أسمرة (اتفاقية سلام الشرق). وإذا ما تخلى حزب المؤتمر الوطني عن المكايدات وشراء الذمم والمراوغة في تنفيذ هذه الآليات، والالتزام بالدستور (على علاته) وإجراء انتخابات نزيهة، فلن تكون هنالك حاجة لهيئة جمع الصف الوطني، أو أية مبادرات جديدة أو قديمة.
وليقيني بأن هذه النقاط الثلاثة المختصرة لن تتحقق (فمن جرب المجرب، حاقت به الندامة)، فإني أترك هذا الجانب وأتوجه بالقول الواضح الجاد إلى قوى السودان الحديث، وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان وقوى الهامش السوداني في الريف والحضر ومنظمات المجتمع المدني والهيئات والنقابات العمالية، وسائر الشرفاء المهمومين بقضية الوطن، الذين لم تتلوث أيديهم بكبائر الإنقاذ، أن ينتظموا في جبهة عريضة واحدة من أجل الدفاع عن "السودان الجديد" المرتكز على مبادئ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والوحدة الطوعية القائمة على الاختيار الحر، والعدالة الملتزمة بحقوق الإنسان وكرامته والتنمية الاقتصادية/الاجتماعية/والثقافية، وسيادة مبادئ المحاسبة والشفافية والحكم الرشيد، وكل ذلك في إطار دولة مدنية علمانية شعارها "الدين لله والوطن للجميع"، دون إرهاب أو دجل أو سوء استغلال للعاطفة الدينية.
كلمة أخيرة، وهي أن هذا التحالف الجديد/القديم ليس مستغربا، بل إنه إفراز طبيعي متوقع منذ انهيار التجمع الوطني الديمقراطي وموته موتا طبيعيا، لأنه كان تجمعا قائما ضد طبائع الأشياء، إذ ما الذي يجمع دعاة العلمانية مع كيانات تستمد كينونتها من الإرث الديني والطائفي الضيق، ولم يك يجمع بين قادة التجمع سوى هم التخلص من نظام الإنقاذ، وهذا ليس كافيا لتحالف استراتيجي طويل المدى لاختلاف الأسس والأهداف بل وتناقضها، وعليه فإنه من الطبيعي أن تصطف قوى السودان القديم في تحالف مرتكز على الاستعلاء العرقي والديني والثقافي، ومسنود بالاستحواذ على السلطة والثروة وأجهزة الأمن والحكم، ولكن من الطبيعي أيضا أن تصطف قوى السودان الجديد في جبهة عريضة متطلعة نحو المستقبل تاركة خلفها أوهام وجراحات الماضي البغيض.
أما القول بأن دعوة الوفاق الوطني دعوة وطنية جامعة، بدليل مناشدة قادتها لسلفاكير ونقد ورافضي أبوجا، للانضمام إليها، فليس سوى ذرا للرماد في العيون ورفعا للحرج والعتب، وربما في أحسن الأحوال "تمومة جرتق" أو فرض كفاية "إذا قام به البعض سقط عن الباقين"، فمن دبر الأمر يدرك تماماً أن من حمل السلاح ضد الهيمنة وكل مكونات السودان القديم لا يمكن أن يتحالف مع جلاديه.  
وقد يقول قائل إن مقالي هذا دعوة للاستقطاب والشتات، ولكن بالله عليكم، ألم يكن نظام الإنقاذ قائما على التمييز والتمكين؟، أو لم يكن مُمثلا لأقلية ضيقة الأفق من فئات الشعب السوداني؟ وهل كانت الإنقاذ في أي لحظة من لحظات جبروتها نظاما قوميا يجسد آمال وتطلعات كل الشعب السوداني؟.
أترك الإجابة لضمائركم.



mahdi osman [mahdica2001@yahoo.com]

 

آراء