هل ثمّة أزمة جهوية بين الإسلاميين؟ 

 


 

 

ما أن أطل الدباب قائد مليشيا الدفاع الشعبي عبر القنوات الاعلامية، ملمعاً نفسه ومقدمها بديلاً للزعامة التاريخية لجماعته، إلّا وتبارى فريقان من الإسلاميين في التراشق والتلاسن بالعبارات الرافضة والداعمة للوريث الجديد لعرش الكيان، فتبادل الطرفان الاتهامات بالتخوين ما بين مؤيد ورافض لخلافة الدباب للرجال (العظماء) الراحلين منهم والسجناء، من رجالات تيار الحركة التي حكمت البلاد بالحديد والنار ثلاثين عاماً حسوما. ابتدر الأمين العام المكلف للمؤتمر الشعبي الهجوم على هذا الدبّاب قبل أسابيع مضت، ودشّن خطاباً رامزاً أشار فيه لتغول الدبّاب في شئون تنظيمهم ببذر بذور الفتنة الجهوية النائمة بين صفوفهم، ومحاولاته المتكررة لإثناء الشعبيين عن تأييد استمرار علي الحاج في منصبه كأمين عام للحزب، ويُعرف عن هذا الدبّاب أنه سيتحوذ على ثروة كبيرة تؤول أيلولتها إلى التنظيم (البائد)، فعمل على توظيفها في تلميع نفسه للعودة زعيماً روحياً لقيادة التيار العريض الجامع لمجاميع الإسلاميين بمختلف واجهاتهم. هذا الصراع في أصله عبارة عن أزمة قديمة وفتنة نائمة منذ حياة الراحل حسن الترابي الزعيم المؤسس، وهي أزمة جهوية صرفة طفح قيحها منتصف تسعينيات القرن المنصرم، عندما فاز بالأمانة العامة للمؤتمر الوطني قبل الانشقاق الشفيع أحمد محمد المنحدرة أصوله من إقليم دارفور، فأعيد خلط الأوراق سريّاً ليُعلن عن غازي صلاح الدين أميناً عاماً للحزب، لم تنصلح قلوب الذين يخاطبون الناس بآيات الله بكرة وأصيلا، الذين يحثون الناس على التمسك بحبل الله المتين والاعتصام به، فتجددت الأزمة وأفاقت الفتنة من سباتها العميق بعد مقتل النائب الأول بأيدي ذوي قرباه، من إخوته الذين يتواصون على الحق نهاراً ويكيدون لبعضهم ليلاً.

     اصطرع الإخوة حول خلافة الرجل الثاني بالسلطة بعد أن قتلوه، فأجروا تصويتاً شورياً داخل مجلسهم الأربعيني لاختيار البديل، فجاءت الغلبة لعلي الحاج المنحدر أيضاً من إقليم دارفور، فثارت ثائرة الرجل الأول في الحكومة والدولة، وامتعض من هذه المعادلة (غير العادلة) التي تفرض عليه هذا الدكتور القادم من (غرب أفريقيا) شريكاً أصيلاً في الملك، وكالعادة تكون المرجعية الدائمة في حلحلة مثل هذه الخلافات الزعيم الأكبر حسن الترابي، الذي فصل في الحكم بدرء الفتنة وكبت غلواءها باختيار علي عثمان خلفاً للنائب القتيل، فضمر الإخوة المهمشون غيظهم تلبية لرغبة الزعيم الأكبر، إلى أن فاض الكيل بالجميع فحدثت المفاصلة الشهيرة بين الإخوة ذوي البأس الشديد، عبر الإنقلاب الأبيض الذي قاده الجهويون أصحاب مذكرة العشرة، تمايزت الصفوف بين القارئين لكتاب الله المُذكّر بمحاربة الجهوية، فانقسموا إلى ابناء للنيل وابناء للغرب وأعادوا بذلك نفس التاريخ الماضي الذي يرجع لقرن إلى الوراء، حينما انفض سامر الرهط الشريف من حول الخليفة عبدالله بعد وفاة الإمام. خرجت حركة العدل والمساواة من جلباب المؤتمر الشعبي لتغليب مؤسسها لخيار حمل السلاح في وجه منظومة الحكم الجهوي، طبعت ووزعت أعداد مهولة من الكتاب الأسود، السِفر الذي فصّل وبوّب القوائم الاحصائية الدقيقة، الكاشفة عن الظلم التاريخي الذي حاق بدارفور وكردفان والشرق، وبيّن التهميش الممنهج الذي أسست له نخبة مركزية صغيرة رافضة لأي نوع من الشراكة الحقيقية بين ابناء الوطن الواحد في السلطة والثروة، انكشفت الغمة من قلب خليل ابراهيم ورفاقه كما انكشفت من قبل لداؤود بولاد، فحمل لواء الحرب ضد الحكم المركزي المتوارث وخلع عصابة الدباب الحمراء وكفر بالمشروع.

     إنقسم الاسلاميون جهوياً في حرب عسكرية جعلت من أرض دارفور منطلقاً لها، وخاضوا صراعاً سياسياً وجغرافياً صارخاً أبعد كل الوجوه لإسلامية الغربية المؤثرة والفاعلة من ديوان الدولة، تمكنت الجماعة الجهوية الممسكة بمفاتيح أبواب القصر من إيرادات البترول، فخاضت حرباً مدعومة بمال وعرق المواطن، انتقاماً من الذين سوّلت لهم أنفسهم الطموح لأن يكونوا على رأس هرم المال والسلطان. اندلعت ثورة ديسمبر وخلعت الجهوي المغرور وخلطت أوراق الجميع، وقلبت قواعد اللعبة رأساً على عقب، فشلت الأحزاب التقليدية الضعيفة في احتضان جنين الثورة فذهبت للسجون والمنافي كالعادة، بعد أن تآمرت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا مع العسكر في وأد جنين الثورة الشعبية الجامعة، ثم خرج الكرتيون من المخابيء وأفرج عن الغندوريين، وعاد الإسلاميون للواجهة كفاعلين أساسيين في تحريك مياه المشهد الراكدة، لكن، تراهم جميعاً وقلوبهم شتى، أعادوا الاصطفاف الجهوي مرة أخرى، وما استعجال حمدان وجابر و(الكباشي) لعقد فعاليات الحوار المفضي للحل، إلّا واحدة من تخوفات حمدان من مآلات التلويح بالسكين المسنونة، السؤال الملحاح: ما الذي حوّل الكباشي ما بين ليلة وضحاها لأن يكون ضمن فريق حمدان؟، إنّها الجهوية، التي جعلت البرهان يرتد مثل عودة العرجاء إلى مراحها وأن ييمم حمدان وجهه شطر حلفاءه. كل هذا الضجيج كان ساكناً قبل خروج الأفاعي من جحورها، فهل تندلع المعركة الفاصلة بين هذه الأفاعي من باب الولاءات الجغرافية؟، أم أن هنالك معجزة ستحدث لتُحيّد الجميع عن الولوج في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر؟، الأيام القادمات حُبلى بالأحداث الخطيرة والمثيرة.


اسماعيل عبدالله

ismeel1@hotmail.com

 

آراء