قنابل موقوتة عديدة تهدد الراهن السياسي الحالي في السودان، مما يستوجب طرح السؤال المحبط: هل حدثت ثورة فعلا في السودان؟
قبل التاسع عشر من ديسمبر، لم تكن هناك تمظهرات موضوعية تشي بانفجار ثورة في السودان. رُغم أن كل المعطيات كانت ترجِحْ الحدث. انسداد افق سياسي وأزمة اقتصادية حادة تخنق الريف والمهمشين. لكن أزمة الدولار والسيولة، وإن كانت ظواهرها تبدو، إلا أنها مختلقة ومفتعلة. حدثت نتيجة تكالب وتسابق "كيزان السودان"، بشقيهم "الوطني" و"الشعبي" على امتصاص السيولة وتخزينها في الخزائن الخاصة، بعد انفجار الصراع (السعودي الاماراتي المصري) من جهة ومعسكر (قطر تركيا إيران) من الجهة الأخرى. انقسم "كيزان" السودان متناحرين اصطفافا في فيلقين خلف المعسكرين. المؤتمر الشعبي وما تبقى من فلول الجبهة الإسلامية، وبينهم عدد غير قليل من "القطط السمان"، يساندون (قطر تركيا). وعصبة التمكين من أكثرية "القطط السمان"، بقيادة حمدي والمتعافي، والتي تسيطر على تجارة الدولار وتهريب الذهب الى دبي، تساند محور (السعودية الإمارات). ومن حينها ارتفعت وتيرة النهب والتهريب بمعدلات فلكية. المؤتمر الشعبي يغذي حسابات الكيزان في ماليزيا وتركيا، والوطني اختار سويسرا، لندن، الإمارات، مصر والسعودية لنفخ الحسابات الخاصة. إذاً ا ليس غريبا انفراط التضخم، هبوط قيمة الجنيه، تجفيف السيولة، شح الوقود وسرقة خزائن البنوك، مما فاقم هموم الأغلبية المسحوقة من سكان الأطراف المهمشين. لكن وللغرابة، وبرُغم كل ذلك، لم يكن هاجس اسقاط البشير أولوية. مسيرة تجمع المهنيين التي تحركت في ديسمبر الماضي تجاه القصر الجمهوري، كانت تنوي تسليم مذكرة تطالب بتحسين الأجور. قبل أن يجبرهم حراك الهامش الهادر في مدن عطبرة والدمازين والقضارف على تبديل الأجندة وتبديل المسار. هناك تشابه حد التطابق بين انتفاضة الجزائر والسودان. كلاهما بدون قيادات سياسية ذات أجندة تدعم الحراكين. وكلاهما مهمومان بملاحقة الفاسدين وسارقي ثروات الشعبين، وكلاهما قبل دعم الجيش ويجاهد حاليا للخروج من قبضة نفس الجيش. ثورة الهامش المغبون في السودان هي الشرارة التي أسقطت البشير. لكن تفكيك مليشيات احمد هارون، وبعض جيوب الدفاع الشعبي، وقبض بعض القطط السمان انتقائيا، جاء بانحياز الجيش (حميدتي تحديدا) لجانب الحراك. وهو انحياز فرضته تقاطعات السياسة الدولية، وكشفته تصريحات وزير الخارجية الإماراتي قرقاش، الذي لم يتحرج في التصريح علانية أن لبلاده الحق في التدخل لترتيب البيت السوداني. وهو تصريح، إن حدث في أية دولة ذات سيادة، لما مر هكذا مرور الكرام. لكن كيف نلوم قرقاش إذا ما أعطى نفسه حق التدخل في الراهن السوداني؟ فرئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي صرح مرةً (مزهوا وبفخر) أن البريطانيين أبلغوه أنهم يرونه الأصلح لتسنم السلطة في السودان. هل قرأ قرقاش تصريحات (المهدي المنتظر) المذهلة، التي تضع شعب السودان بأكمله، وعبر الأجيال، في خانة عديمي الإرادة، قليلي الحيلة، المفعولِ بهم، المنصوبِ عليهم، فقرر التدخل في الشأن السوداني؟ لا يهم سواءا هذا أو ذاك، ما يهم حاليا هو إن إرادة ابوظبي قد انتصرت في السودان مرحليا، بمساندة صلاح قوش، (الغائب الحاضر)، الذي ما زال يدير المجلس العسكري وخيوط هذا الحراك السوداني من خلف الكواليس. انحاز الجيش للثوار وفق معادلة صلاح قوش المحسوبة لإعادة انتاج النسخة الثانية من الإنقاذ. والانقاذ2 ستكرس الهبوط الناعم، بأنعم مما يبتغيه المهدي، سَتُطَبِّعْ مع إسرائيل وستدخل السودان في إطار منظومة (صفقة القرن). وهي مغامرة أخرجت جني الثورة السودانية من القمقم، وسط رمال متحركة محلية وهوامش غبن ومعمعة دولية ستظل تلقي آثارها على الراهن السوداني الحالي سلبا أو ايجابا. الثورات تصنعها عادة الطبقة الوسطى، وغالبية الطبقة الوسطى السودانية، بما في ذلك أحزاب الفكة، كانت وما زالت تقتات على فتات موائد الإنقاذ أو تعيش على تحويلات المغتربين في المهاجر. وسقوط البشير الذي كان مفاجئا حتى لمن أسقطوه، خلط حابل المهنيين بنابل قوى الحرية والتغيير. لذا ليس غريبا مواسم الهجرة المتتابعة الآن للتمسح بالخليج والقفز العشوائي المحموم فوق الأكتاف لاحتلال المواقع الأمامية. غير أن مركز الثقل ما زال في ميدان الاعتصام. وما يجب أن يعيه الثوار الشباب وكنداكات الحراك الفضليات، إن أولويات الدول الغربية والخليجية، وما ترجوه من السودان ليست كأولوياتهم. هناك دولتان افريقيتان، ثريتان. بهما من الموارد المائية والمواد الخام والمعادن النادرة ما يجعلهما دوما هدفا لمؤامرات القوى الكبرى وأطماعها. الدولتان هما الكونغو الديمقراطية والسودان. فيهما من الثروات الكامنة ما يمكن، إن تم استغلاله بالطرق المثلى، أن يضاعف معدلات دخول الأفراد فيهما عشرات أضعاف المعدلات الحالية. كلا البلدان ظلا لعقود يعانيان معدلات فقر محيِّرْ، فيما يتواصل استنزاف وسرقة خيراتهما لصالح مافيا تهريب الماس والذهب واليورانيوم الأوروبية والخليجية والعالمية. مافيا التهريب في الدولتين أفرزت طبقة المنتفعين والعملاء من فاحشي الثراء المترفين على حساب 99% من المعدمين. وفي هذا الإطار يجد السودان، الذي بنى الرعيل الأول من مهندسيه دولة الإمارات، نفسه حاليا تحت رحمة الدول الخليجية التي تواصل نهب ثرواته الزراعية والحيوانية بأبخس الأثمان، فيما يتوالى تسهيل مرور أطنان الذهب المسروق المُهرَّب عبر دبي. ورُغْمَ هذا تترى أحكام (قرقوش) وتصريحات قرقاش. الأهم أن ثورة الهامش المغبون تُهَوِّمْ الآن في الفضاء بحثا عن مهبطٍ آمنْ. والهبوط الآمن ليس الهبوط الناعم بأي حال. لذا من الخطل العُجَابْ أن يرأس الصادق المهدي جلسات قوى الحرية والتغيير ليضع استراتيجية الهبوط الناعم الذي اتفق عليه مسبقا مع قوش والبرهان وحميدتي ومن ثم قرقاش. يبقى السؤال: كيف يستقيم لثورة عفوية تلقائية، تكتب حاليا تاريخا جديدا لنضال بشرية القرن الحادي والعشرين، أن تسلم قيادها لديناصورات سياسية من عبدة أصنام الماضي، لطحالب وكيانات قارضة منقرضة لا توفر للراهن السياسي السوداني الحالي سوى الغطاء الملائم للكيزان لتبييض وجوههم وغسيلهم القذر وصرف الأنظار عن جرائمهم وفسادهم المتراكم عبر السنين. إن كان المجلس العسكري سيفاوض مجموعة صديق يوسف (الشيوعي) وعلي الريح السنهوري (البعثي) والصادق المهدي (الأمة القومي)، فابشرْ بطول سلامة يا عسكري. الشيوعي سيوفر للكيزان دوما الاستمناء الفكري عن متاهات الكفر والالحاد والحجج الواهية عن غياب الشريعة. وحزب البعث، لا صلة له أصلا بأرض السودان ولا واقع السودان. وأتمنى أن لا يكون السنهوري آملا في بعث العرقية العربية العنصرية من جديد، الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة التي ستهزم إسرائيل. أما المهدي المنتظر فحدث ولا حرجْ. فهو الضامن الأوحد لإنقاذ الإنقاذ. أغلب الظن إن (تهتدون) و(تخرجون) و(ترجعون) و(تقبضون)، لم تفلح جميعها حتى الآن في إعادة كل تعويضات دائرة المهدي. .......... التجلة والتعظيم لشباب الحراك الجسور. وكلمة أخيرة: أين تمثيل الميدان والمهمشين في أوساط المفاوضين؟ أين كنداكات بلادي الماجدات اللائي وضعن اسم السودان من جديد بالفخر والإعزاز في خرائط الدنيا؟