تجاربنا في تطبيق تصور الإخوان المسلمين في قوانين الدولة، لن تفيد دولة ناشئة ترغب النهوض. ولن تنهض الأمة، ولن تُحَلّ مشكلاتها، بل تزيدها تعقيداً كما هو حادث اليوم في جميع المجالات. منْ الذي اعتقد أن قوانين التي تصورها فقهاء السلف عن الدّين الحنيف ، تصلح لقيادة السياسة المعقدة للدول ، وبالتالي إن بساطة الأماني لا تصلح لقيادة الأمم السودانية سياسياً وقانونيا واقتصادياً، لتلحق بالأمم التي سبقتنا في العلم والتصنيع والاقتصاد والتعليم.
(2) إن الدين نشأ في السودان بالترغيب منذ أكثر من أربعة قرون، وكل الأديان انتشرت بالترغيب، والتي اتبّعت سبيل القهر تراجعت. كلها الآن أرست سفنها وجرّبت العمل الأهلي العام، دون أن تفرض نفسها على الحياة والناس و السياسة. لقد عشنا أياماً سود حين تجرأت الدولة منذ سبتمبر 1983، أن تُلغي دفاتر ومُجلدات فقه القوانين الحديثة التي تُليق بالإنسان في هذا العصر. بدلاً عن ذلك تمّ تفريغ صياغة قوانين الإجراءات والقوانين الجنائية ، وفق تجريب ناشئة القانونيين آنذاك : ( عوض الجيد ، النيّل، بدريّة ). على منهج السُنة، وإعمال فقه واجتهاد أحد أعلام الفقهاء الذي شبعوا موتاً منذ قرون ، على أن يكون الاستدلال بنهج اجتهاده و أن تطبق بقوانينه، السابقة لعهد التنوير، على الناس في أواخر القرن العشرين، بل لم نزل في هذا الضيم نُعارك أبجديات الحياة حتى تاريخ اليوم.
في الوقت الذي صار العالم الذي يسبقنا، قد اتفق إنسانه على صياغة قوانين تحمي الإنسان حيث يكون، له حرية الاعتقاد بأي دين يشاء، لا تفرقة بين الذكر والأنثى، ولا تمييز باللون أو العرق أو الثقافة أو اللغة. جميع البشر سواسية في حضرة القانون، حتى صدح كثير من الناس أن أوربا قد أقامت دولة العدل، وفشلنا نحن أصحاب الشهادتين في أن نُقيم عدلا، يملأ الأرض بعد أن غرقت دولة الإخوان المسلمين في بحر الجور، وتلونت بألوان الظلم والقهر وانعدام الحرية !.
(3) لم نزل نتهيّب أن نتحدث بصراحة عن ضرورة فصل الديانات عن قوانين البشر، وأن البشر جميعهم، يتساوون أمام القانون. وأن الدولة الوطنية، هي شرف الانتماء وبهجة الصادحين بغنائهم، والمنشدين أفراحهم في السرّ والعلانية.
لقد أسرف الإخوان المسلمين حين أعاقوا كل سبيل للوحدة الوطنية بين السودانيين. و تآمر الجميع وسادتهم الجهالة، بنزع جنسية مواطنين سودانيين، من أصول جنوب السودان، في حين أفسحوا لتجنيس، غير السودانيين من الأحباش والأريتيريين والشاديين والماليين والنيجريين والسوريين والحماسيين وإخوان مصر المسلمين وكافة الإرهابيين في العالم. لأن دولتنا استباحها الإخوان المسلمين ومن ورائهم المنظمة الإسلامية العالمية ، وهم يعملون على إعادة دولة الخلافة، التي هي صنيع عصر غير عصرنا الإنساني، نمت حتى صارت مُلكاً أيام معاوية بن أبي سفيان وصارت ملكاً عضوضا. ها هم الإخوان المسلمين يبشروننا بالدكتاتور العادل!.
(4) لقد جرّبنا لهيب الإخوان المسلمين في السودان وقد وثبوا وثبتهم الأولى عام 1977 بعد ما كانت تسمى بالمصالحة. صعدوا كل مفاصل السلطة في الجيش والأمن، وصنعوا من اقتصادهم الاستهلاكي أو النبت الشيطاني، لا تنمية ولا تصنيع، بل تجارة هامشية، أهلكوا غابات السودان، وتغيّر المُناخ. وعمّ الجفاف كل السودان. لم يأت الأمر غضباً من السماء، بل هو اختلال للبيئة وخراب لدورة الحياة بفعل فاعل.
تآمروا على الديمقراطية السودانية الثالثة، وعطّلوا المصالحة مع الحركة الشعبية عام 1988 ، وصعد الإخوان المسلمين فترة من الزمان بتحالفهم مع الصادق المهدي ، حيث أكملوا فيه نسيج تآمرهم، حتى انقلاب 30 يونيو 1989. وجاءوا بخراب للدولة ما شهدت له مثيلاً . تتوج بانفصال الجنوب حتى يخلوا لهم الأمر ويستفردوا بحكم شريعتهم ، وهي الصورة الكاذبة لدولة اللصوصية والقتل والفساد.
هذا الأمل الكاذب بالدولة الحضارية التي بشرت به، قد جربناه في السودان ثلاثة عقود. انهزم مشروع القرن الزراعي في الجزيرة، وتم تدمير سكك حديد السودان التي أنجزها المُستعمر بأموال مصرية. وتم تدمير التعليم، فصارت الجامعات خلاوي عصرية، يدفع فيها المواطنون الملايين ثمناً باهظاً للتعليم المتدني الأفق. ونهبَ الإخوان المسلمين كل شيء بقي للناس، وصرنا آخر الأمر دولة صغيرة، تقع في ذيل الأمم الفاشلة.
بعد كل الذي صرنا إليه عمّ الفساد الدولة كلها، وسرق الإخوان المسلمين البترول والذهب وباعوا الأراضي، وحولوا المال في دُبي وماليزيا، وأصبح الإخوان المسلمين يملكون مزارع المطاط وبنايات ولهم أسهم في جامعات ماليزيا. وتركوا أرض السودان خراب.
(5) إن الرُقي والتطوّر، لا ينتج عن الجهل، ولا عن الغفلة ولا عن الغباء، ولا عن الذّل والخنوع ، ولا من المشوهة نفوسهم بالغلّ والحسد والأثرة، إنما تصدر عن النفوس المثقفة المهذبة الكريمة العزيزة، التي تؤمن بأن الشعوب السودانية سوف تنال حريتها، وإن طال الزمان. وأن هؤلاء الحفنة من الموتورين سوف يذهبون إلى مكانهم الطبيعي وراء الظلام. فلن تطلع الشمس من المغرب، ولن تقع السماء على الأرض. من أراد الغاية فقد سار بالوسيلة، ومن أراد القوة فعليه أن يتخذ السبيل إليها. لا يُعقل المواطنون ألا يصرف أموالهم التي أودعوها البنوك!. أين الدولة الحضارية، وأين الشفافية والنقاء الأخلاقي، والسلوك الربّاني !؟. إن الذين يريدون أن نسلك معهم الشريعة، يريدون إشغالنا بقول الحق الذي أريد به الباطل، فنحن نُجادل بغير حق ، لا يدفعنا إلى المراء فيه إلا الكسل وفتور العزيمة وحب الراحة وإيثار العافية وخمود جذوة العقل. نحن مدفوعون إلى الحياة المتقدمة الحديثة، دفعاً عنيفاً. تدفعنا عقولنا وطبائعنا وأمزجتنا، التي لا تختلف عن عقول وطبائع وأمزجة أهل الدول التي سبقتنا، بسنوات ضوئية، وبلادنا لم تزل تقتل من يغير دينه !!