هل فهمت “قحت” الدرس، وهل اتعظ العسكر؟

 


 

 

في البدء نهنئ الشعب السوداني المعّلم، الذي تحدى الصعاب، وصنع التاريخ مرة أخرى، والتحية له، فقد ظل يدهش العالم الذي تحّول إلى قرية إلكترونية، أنه قادر على تدبير أمره، وظل يقدم الدليل تلو الآخر على أنه مختلف، وأن اليأس لن يعتريه، مهما تراكمت المتاريس في مسيرته الشاقة، ومهما علت الحواجز في سبيل تحقيق غاياته النبيلة، في بناء دولة الحُلم، الدولة المدنية الديمقراطية.
لا شك أنّ ما يدهش العالم من المشهد السوداني، أنّ الاختلاف بين مكوناته السياسية والعسكرية، لا يفسد للود قضية، وغالباً الوسطية العامة، ترّجح احتفاظ الفرقاء بمساحات تسمح بالتواصل، ورغم لغة التخوين، يظل هنالك قدر من الثقة وحسن النوايا بين المتشاكسين، والشعب السوداني، بطبعه "نسّاي" للمخاشنات السياسية، وهذه رغم تكاليفها الباهظة، لها وجه إيجابي.
راهن الكثيرون من شعوب دول الجوار، أنّ السودانيين، سيستسلمون للقمع العسكري الوحشي، لتضاف ثورتهم العارمة إلى خيبات الربيع العربي، ولكن هيهات، فقد خاب ظنهم فيما يبدو، ولتأكيد هذه الفرضية، دعونا نقف على ما ينبغي فعله، من القوى المدنية وجنرالات العسكر، تجنباً لتكرار إخفاقات وأخطاء الفترة الانتقالية الأولى.
• المآخذ على "قحت" معروفة للقاصي والداني، سيما وأنّها قيمت تجربتها كحاضنة سياسية للحكومة الانتقالية الأولى، وأقرّت بكل شجاعة ومسئولية بأخطائها، وبالتالي غير مبرر أن تكرر الوقوع فيها مرةً أخرى.
• أولى تلك الأخطاء، توقيعها على وثيقة دستورية معيبة في 2019م، فرضت شراكة غير متكافئة بين المدنيين والعسكرين، كبّلت يديّ رئيس الوزراء، وجعلته عاجزاً حتى عن الاضطلاع بصلاحياته الدستورية المنصوص عليها في الوثيقة.
• وبما أنّ "قحت"، قد أجّلت القضايا الشائكة إلى مفاوضات اللحظات الأخيرة، والتي تتمثل في تحقيق العدالة، والعدالة الانتقالية، بما فيها افتراضا، تسليم المطلوبين دوليا من رموز النظام السابق، وتفكيك تمكين نظام الـ 30 من يونيو 89، المأمول منها ألاّ "تدقُس" مرة أخرى، وترتكب أخطاء مميتة في أي من هذه القضايا الجوهرية.
• إن منحت "قحت" الحصانة الدستورية الصريحة أو الضمنية، لقيادات العسكر، أو تعّمدت المداراة فيما يخص تفكيك تمكين النظام البائد من مفاصل الدولة، تكون قد حفرت قبرها بظلفها، وهذه المرة لن تقوم لها قائمة، وإن صارت "بعاتية" عنيدة، أو قطة بسبع أرواح.
• الشيء المؤسف أن "قحت" نكصت بعهدها، وشاركت في السلطة التنفيذية خلال الفترة الانتقالية الأولى، ووجدت لنفسها مبررا واهيا، في اتفاق جوبا للسلام، لتدخل في محاصصات حزبية معيبة، وأجازت بعض الحقائب الوزارية لكوادر حزبية ضعيفة ليست لها مؤهلات، وبدون خبرات عمليه حتى في أدنى مستوياتها. بجد كانت الحكومة الانتقالية التي انقلب عليها العسكر في 25 اكتوبر، حكومة فضيحة بكل المقاييس، والشواهد كثيرة ومعروفه ولا داعِ لذكرها.
• كرر السيد أحمد حضرة، القيادي بمركزية "قحت" مؤخرا، تأكيد ذلكم الوعد مرة أخرى بقوله : "لن تكون لقوى الانتقال مشاركة حقيقية على مستوى المجلس السيادي والوزراء" رغم أن عبارة "مشاركة حقيقية" فضفاضة وحمّالة أوجه. نتمنى أن تلتزم "قحت" بهذا الوعد، وألاّ تكرر النكوص عنه فتردى.
• فشلت "قحت" في الالتزام بالتواقيت الزمنية للاستحقاقات الدستورية، ومن يتساهل مع الزمن الدستوري، لا نظنه سينجز عملا، يجب على "قحت" في الفترة المقبلة، الابتعاد عن ثقافة إعادة جدولة المصفوفات الزمنية المترهلة، فالزمن باتر، سيما إن كان انتقاليا، ويستحق احترام الجادين.
• يجب أن تكون مواقيت تعيين رئيس الوزراء، وتشكيل الحكومة، وتعيين حكام الولايات، وافتتاح المجلس التشريعي، وتعيين رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني، وتعيين رئيس القضاء، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية، وتعيين رئيس مفوضية الانتخابات، وتعيين رئيس العدالة الانتقالية، يجب أن تكون تواريخ هذه الاستحقاقات الدستورية مقدسة، احترامها مقدم على التوافق على شاغليها، هنالك قيادات سياسية، مدمنة للتشاكس، وكما قال القيادي جعفر حسن، الشعب السوداني لم يتوافق على استقلال البلاد، ولن ينتظر منها التوافق التام على شيء دون ذلك. إن نجحت "قحت" في اجتياز هذه المواقيت الدستورية، تكون قد قطعت نصف مشوار نجاحها.
• من مآخذ الشعب السوداني على "قحت" وباعتراف قياداتها، ابتعادهم عن الشارع الثوري، ولا شك أنّ التقّرب من شباب الثورة، في ظل معارضتهم "للتسوية" الأخيرة، يحتاج إلى أولي العزم من الرجال. ذلك أنّ الكثيرين من قيادات قوى الحرية والتغيير، من الذين تولوا مناصب دستورية وتنفيذية، خلال الفترة الانتقالية الأولى، ظلوا يدافعون عن حكومتهم العرجاء، بدلاً عن الدفاع عن ثوابت الثورة، إلى أن غشيتهم رياح انقلاب الـ 25 أكتوبر.
• من أكبر الأخطاء المتوقع تكرار وقوع "قحت" فيها، السكوت عن قتل المواطنين السودانيين أينما وجدوا عدوانا وظلما، سيما شباب المقاومة السلمية، أصحاب "الساس والراس" لثورة ديسمبر المجيدة، في شوارع المدن الثائرة، بسلاح القوات النظامية، الآيلة قيادتها لرئيس الوزراء، الآمر والناهي لتصرفاتها.
• لا نستبعد أنّ العسكر سيخرجون مرة أخرى من ثكناتهم إن صدقوا وعادوا إليها، بموجب توقيعهم على وثيقة ديسمبر 2022م، لذا نذّكرهم بأنهم لن ينجحوا في مغامراتهم المتوقعة، على الأقل وهم شعث اللحى، مرجعيتهم أمثال علي كرتي، وقدوتهم أمثال العقيد إبراهيم الحوري، ولن ينجحوا في وجود "الفريق" حميدتي، لحسابات خاصة به شخصيا وبقواته (الدعم السريع)، إن أدمجت في القوات المسلّحة، أو ظلت قوات مستقله.
• هل أتعظ العسكر أن القوة التي يمتلكونها ليست كافية للي ذراع الشعب السوداني، وإرغامه على التخلي عن أشواقه في تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، وأنّ المجتمعين الدولي والإقليمي، لن يكونا بذات الأريحية تجاه الحكومات العسكرية الانقلابية، سيما الثيوقراطية منها، وأنهم قد أخطأوا حين سمحوا بأدلجة القوات المسلّحة السودانية، وسمحوا بتلطيخ سمعتها حين فتحوا بواباتها للإسلاميين تجار الدين.
• خوفنا على "قحت" ألاّ يصبر عليها الشارع، إن لم تتعظ من ماضيها القريب، لهو أكبر من خشيتنا عليه من بارود العسكر، المبلول بدماء الشهداء. خوفنا على "قحت" من السقوط المدوي، إن هي فشلت أن تطعم الشعب السوداني من جوعٍ، وأن توفر لهم الأمن من خوفٍ على أرواحهم وممتلكاتهم.

ebraheemsu@gmail.com

 

آراء