هل قطر (مؤهلة) لاحتضان (المونديال)؟

 


 

 

عشية افتتاح منافسات كأس العالم لكرة القدم ،في ٢٠ نوفمبر الجاري الى ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢ ظهرت انتقادات جديدة ، منددة بما سمي ( حق) قطر في استضافة (المونديال ) .

كانت حملات ضارية ضد قطر وسياساتها وقياداتها انطلقت قبل سنوات، أي أنها ليست جديدة ، وأسبابها متعددة، وشاركت في الحملات بشراسة جهات اقليمية ودولية ، حكومية، وأقلام وأصوات عبر أجهزة اعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي.

في هذا السياق طفحت في العام ٢٠١٧ اتهامات جديدة وشتائم قبيحة ضد رموز قطر ،رجالا ونساء ، ولم تخل الحملة من ساقط القول وانتهاك فج لأعراض شخصيات لها مكانتها في مجتمعها والعالم.

وهاهي أحدث تصريحات بشأن قضية (الاستضافة) جاءت على لسان وزيرة الداخلية الالمانية السيدة نانسي فيزر، وهي المسؤولة عن الرياضة في بلادها ، وأرى أن تصريحاتها ظالمة، وربما انطلقت من حسابات داخلية خاطئة أو قراءة غير موضوعية لتطورات قطر ، لكنني أعتقد بأنها لا تأتي في اطار حملة مخطط لها أواستهداف مدروس.

الوزيرة استبقت زيارتها إلى الدوحة قبل أيام بانتقاد لاذع،جارح ، لملف حقوق الانسان والعمال في قطر، وقالت إن( حق استضافة قطر للمونديال خادع للغاية، وهناك معايير ينبغي الالتزام بها وسيكون من الأفضل عدم منح حق استضافة البطولات لمثل هذه الدول) وفي جوف هذا الكلام تجن وشيء من الاستعلاء.

القطريون ازعجهم كلام الوزيرة في هذا التوقيت ، و تصريحاتها مزعجة بكل المقاييس ، لأنها جاءت على لسان وزيرة في بلد يرتبط بعلاقات قوية مع الدوحة ، و كان لافتا أن نانسي أشادت بعد تصريحاتها النارية بنتائج زيارتها الى قطر وقالت إنها اطلعت على قوانين جديدة للعمل أصدرتها قطر ، وأعلنت أنها ،أي الوزيرة، تدعم الاصلاحات في الدوحة .

ما يؤكد تراجعها عن موقفها وتصريحاتها الخشنة غير الرياضية ،وربما خجلها أنها أعلنت نيتها العودة الى الدوحة لحضور مباراة منتخبي المانيا واليابان في ٢٣ نوفمبر الجاري .

وكانت وزارة الخارجية القطرية استدعت سفير المانيا لدى الدوحة، واستنكرت في شدة تصريحات نانسي ، كما دخل مجلس التعاون الخليجي على خط الأزمة، اذ دان تصريحاتها وتضامن مع قطر.وبدا واضحا أن مجلس التعاون بدأ يستعيد العافية بعدما تعرض لحالة عدم توازن خلال ما عرف بأزمة (حصار قطر).

معلوم أن قمة العلا في السعودية (٥ يناير ٢٠٢١) أنهت واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ الخليج والمنطقة وكان الموقف السعودي حاسما في تحقيق (مصالحة) بين السعودية والامارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة أخرى، بعد قطيعة استمرت سنوات، وكانت بدأت في ٥ يونيو ٢٠١٧.

هذا يعني ان استضافة كأس العالم تتم في أجواء خليجية ايجابية تخلو من حال الاستقطاب والشد والجذب، وتنطلق في أجواء عنوانها الأبرز أيضا عودة الدفء والعلاقات الطبيعية بين الدوحة والقاهرة،وهذا تطور ايجابي.

دول الخليج كافة ومصر ستستفيد من (المونديال) وستكسب دول خليجية سياحيا من زيارات مواكب وحشود عشاق (المستديرة ).

أكرر قناعتي وأجدد ما كتبته في مقالي عن انفراج أزمة (حصار قطر) اذ قلت إن السعودية دولة كبيرة وكانت وستبقى مركز الثقل الخليجي والاسلامي، وأن قطر دولة حيوية تسعى لارتياد آفاق العصر،وأن الإمارات دولة مهمة ايضا وكذلك البحرين، أما مصر فان في قوتها واستقرارها وأمنها استقرار وصمام أمان للجميع.

وأضيف أن الكويت وسلطنة عمان تلعبان أدوار مهمة ونافعة في الخليج ، وتساهمان بل ساهمتا في اطفاء حرائق من خلال دبلوماسية هادئة ورصينة .

في سياق كل هذه التفاعلات يبقى السؤال الأهم ، هل تستحق الدوحة احتضان هذا (المونديال)؟ وما هي السمات التي أهلتها لاحتضان هذه المناسبة التي تشد أنظار العالم.

استرجعت شريط مشاهداتي خلال سنوات عملي صحافيا في الدوحة لأكثر من ثلاثين سنة ، في مؤسسات اعلامية قطرية، ومراسلا ثم مديرا لمكتب صحيفة (الحياة) اللندنية ومراسلا لاذاعة مونت كارلو الدولية ولقناة (ال بي سي ) وقد تابعت يوميا وميدانيا تطورات الساحة القطرية، وبينها ملف حقوق الانسان،وهو ملف ليس ساخنا في قطر وحدها بل في كثير من دول المنطقة وحتى في دول كبرى .

قطر اتخذت قرارا ايجابيا في فترة تولي الشيخ حمد بن خليفة ال ثاني مقاليد الحكم ، اذ فتحت أبوابها لدخول وفود من منظمات حقوقية دولية ، التقت العمال وزارت مقار سكنهم، وعقدت مؤتمرات صحافية ساخنة في الدوحة، وأطلقت تصريحات نارية انتقدت ما رأت فيه انتهاكات لحقوق الانسان، ودعت الى اصلاحات.

لم اتردد في نشر تلك التصريحات الساخنة في صحيفة (الحياة) اللندنية أو بثها في مونت كارلو في اطار التزام صارم بقيم المهنة .

أرى أن قرار قطر فتح ابوابها أمام منظمات حقوقية هو قرار حكيم، ويعبر عن ارادة سياسية ورغبة جادة في خوض تحديات الاصلاح ،ليس في مجال العمل والعمال فقط،بل في ميادين حقوق الانسان بشكل عام ويشمل ذلك حقوق المواطنة المتساوية للقطريين والقطريات ،وهذا ما تسعى اليه القيادة و أكده الأمير الشيخ تميم بن حمد عقب تفاعلات ساخنة شهدتها انتخابات (مجلس الشورى) للمرة الأولى في تاريخ قطر ، في اطار سعيه لاحداث تغيير واصلاح في مجالات عدة .

الدوحة ،وفقا لمتابعتي للتطورات، شهدت اصلاحات بينها تطوير قوانين العمل ، كما اتخذت الحكومة اجراءات لتحسين ظروف سكن العمال وتطوير كيفية تلقي رواتبهم عبر مصارف ،والزام أصحاب العمل بضوابط في هذا الشأن.

أرى أن قطر اليوم ليست كقطر قبل عشرين او ثلاثين سنة ، الجديد يكمن في مناخها السياسي وأجواء الانفتاح ،ولغة الخطاب السياسي الرصين لأميرها الشاب تميم (من مواليد ٣ يونيو ١٩٨٠) اذ بدا واضحا من خلال لغة خطابه السياسي أنه مدرك لتحولات ومتطلبات العصر وتحدياته .

الجديد في مناخ الدوحة يبدو جليا مثلا في معالم ونتائج نهضة قطر الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية ( شبكة الجزيرة الاعلامية نموذجا) اضاف الى احترام حقوق المرأة وفتح دروب المشاركة أمامها، ولعبت الشيخة موزا. بنت ناصر دورا تاريخيا رياديا في هذا المجال .

أما بشأن سوق العمل فقد جاءت أحدث التأكيدات على لسان رئيس الوزاء ووزير الداخلية الشيخ خالد بن خليفة بن عبد العزيز آل ثاني لدى استقباله وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر قبل أيام اذ قال ( إن هناك مجموعات حقوق إنسان ومنظمات الأمم المتحدة أشادت بالإصلاحات التي تضمنت عدة جوانب منها إصلاح قوانين العمل والممارسات المتعلقة به، وإلغاء تأشيرات الخروج للمقيمين في البلاد، والسماح للموظفين بتغيير جهة عملهم بحرية دون طلب شهادة عدم ممانعة من صاحب العمل، وتحديد حد أدنى للأجور، فضلاً عن إنشاء صندوق لدعم العمال وتأمينهم لضمان رعايتهم وحفظ حقوقهم).

هذا يعني في تحليلي أن الدوحة التي تحولت منذ سنوات الى ورشة عمل، شهدت خلال السنوات الماضية نقلات نوعية في ميادين عدة بينها مجال حقوق الانسان لكنني أرى أن البناء الحقوقي في كل دول العالم وبينها دول كبرى وقطر يحتاح باستمرار الى تطوير التشريعات واقتران الأقوال بالأفعال، في سبيل تحقيق الانصاف والعدالة للعامل والموظف الأجنبي ومن قضوا أجمل سنوات شبابهم في خدمة بلد حباه الله بنعم كثيرة ويمتاز أهله بطيبتهم وكرمهم وحسن المعشر.

موقفي الشخصي يدعم حقوق الانسان في أي مكان ، وهو موقف معلن ومعروف ، وكنت كتبت مقالا في ٥ يناير٢٠٢١ بعنوان (عناق تميم ومحمد بن سلمان .. رسالة دافئة وساخنة) بعد فترة قطيعة وخصام بين السعودية والامارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة أخرى ، وقلت إن ( احترام تطلعات الشعوب المشروعة في حياة حرة وكريمة ومستقرة ومزدهرة، تصان فيها حقوق الانسان يعد من الضرورات الملحة، في أي مكان في العالم، وخصوصا في الخليج والعالم العربي ، لاستعادة صدقية مفقودة..ولتحقيق العناق الدافيء بين الحاكم والمحكوم).

عدت بالذاكرة الى سنوات مضت، ووفقا لمشاهداتي وحقائق الواقع فان قطر شقت بداية طريقها وحراكها نحو الاصلاح العصري حينما تولى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم في ٢٧ يونيو ١٩٩٥، ففي عهده تم وضع دستور دائم صدر بعد موافقة الشعب في استفتاء عام هو الأول من نوعه ،ما يعني أن النظام السياسي القطري تطور وبات نظاما دستوريا ، وهذا تطور كبير ومهم وحيوي.

على سبيل المثال نص الدستور في بابه الثالث على (الحقوق والواجبات ) وشمل ذلك حق الانتخاب وحرية الصحافة وحقوق الانسان، وفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومنح المرأة حق الترشح والانتخاب، فخاضت حواء القطرية انتخابات بلدية للمرة الأولى في ٨ مارس ١٩٩٩ ثم خاضت أول انتخابات برلمانية في ٢ أكتوبر ٢٠٢١ في عهد الشيخ تميم الذي واصل ويواصل حاليا نهج الاصلاح منذ توليه الحكم في ٢٥ يونيو ٢٠١٣، وهو واثق الخطى .

البراهين والأدلة بشأن مسيرة الاصلاحات التي عايشتها في قطر قبل انتقالي الى لندن في العام ٢٠١٥ كثيرة وتشمل مجالات عدة .

في هذا الاطار أعتز بتجربتي ودوري الصحافي هناك وبالتزامي المهنية، وهي شاقة وصعبة، وكانت ومازالت فترة عملي هناك حافلة بانطباعات وذكريات، وفي أمكنة ساهمت في صناعة أحداث وقرارات بينها ما هو ايجابي و خاطيء ، لأن تجربة أي نظام سياسي، وهي تجربة انسانية، قابلة للصواب والخطأ.

أرى ان قطر مؤهلة وتستحق احتضان (المونديال) وهذه قناعة قديمة لم تتغير رغم مغادرتي الدوحة الى لندن ، لأنني - والحمد لله- لا ابدل مواقفي تجاه الحقائق وما أراه صحيحا بتغيير مكان اقامتي أو بسبب حدوث مستجدات ومتغيرات طرأت على حياتي.

والأهم الذي لا أخفيه أن في قلبي ووجداني محبة و مودة واحترام لأهل قطر وقياداتها ورموزها الفضلاء ، الأكارم، في ميادين السياسة والدبلوماسية والاقتصاد والفكر والثقافة والصحافة والإعلام والفنون والرياضة والعمل الحقوقي والانساني والخيري.

أخلص الى ان استضافة قطر استحقاق نالته لتوافر مناخ ومعايير محددة أي ان استضافة البطولة الدولية ليست منحة من أحد .

كتبت مقالا نشر في صحيفة (الأحداث) السودانية وصحيفة (سودانايل ) الاليكترونية في ٢٠ سبتمبر ٢٠١٠ أي قبل فوز الدوحة بالاستضافة في عملية تنافسية معلنة ومعروفة لمتابعي الرياضة والسياسة وقبل موعد (المونديال) ب ١٢ سنة وكان عنوانه(دلالات السعي القطري لاستضافة كأس العالم ٢٠٢٢) (رابط المقال القديم في نهاية هذه السطور ) وتطرقت فيه أولًا الى النجاح في البناء الداخلي، وقلت إن النجاح القطري نتاج رؤية وفلسفة عمل وليس بسبب وجود نفط وغاز فقط .

أشرت في مقالي بتاريخ قديم قبل أن يفكر كثيرون في الاهتمام بسعي الدوحة للترشح لاستضافة كأس العالم الى صدقية القيادة وتمتعها بارادة سياسية حقيقية لتحقيق التغيير ، ثم تناولت عددا من العناوين بينها النجاح في بناء شبكة علاقات دولية ، والدفاع عن استقلاية القرار السياسي ، والاستقرار السياسي والأمني ، واحترام ثقافة الآخر.

لخصت رأيي بالقول إن من يزرع الشجرة ويسقي الوردة، ويمد جسور التواصل الحميم مع الآخرين في كل مكان في العالم يستحق أن يقطف ثمار نهجه الذي يعمق مناخ التعايش بين الناس ومن كل لون وجنس ودين .

وهاهم القطريون يقطفون اليوم باحتضانهم (المونديال) ثمار رؤية حمد بن خليفة وحيوية تميم الذي أشرف ويشرف منذ سنوات على(رؤية قطر ٢٠٣٠)وهي رؤية إصلاح شامل و بناء وتحديث تشمل المجالات كافة .

وهاهي قطر أكملت استعداداتها لكأس العالم ولبست ثوبا زاهيا وقشيبا ، زاد من نضارها وشبابها المتجدد وجمالها المعهود ونظافتها ،وحيويتها التي تعكسها مواقع عدة .

أطلق عنان التأمل والخيال لأرى من على البعد (سوق واقف) الشعبي العريق بمحاله التجارية ومطاعمه وايقاعات فنونه وتراثه وقد لبس ثوب (المونديال) الزاهي والباهر ، وهو يزدحم بالناس من كل لون وجنس ودين ويغمرهم إحساس بالبهجة. والطمأنينة والأمان.

أرى الحي الثقافي (كتارا) وهو ينبض حيوية ودفئا وجمالا ، وشارع (الكورنيش) باطلالته على مياه الخليج ، وموقعه المطل على سيد الفنادق -شيراتون الدوحة- وهو الأكبر والأعرق والأكثر احتضانا للمؤتمرات الاقليمية والدولية وسكنه قادة و سياسيون وشخصيات من دول لا حصر لها .

هناك قضيت ساعات طويلة في سنوات انعقاد مؤتمرات واجتماعات ، أتابع المصادر وأبحث عن خبر أو حوار تنفرد به صحيفة (الحياة) اللندنية التي كانت مدرسة للمهنية بكل المقاييس، وكذلك هي اذاعة مونت كارلو الدولية العريقة وصاحبة الأداء المهني المتميز والايقاعات اللطيفة،المريحة .

من لندن أتأمل أيضا الأبراج تتلألأ في منطقة (الدفنة ) وغيرها من مناطق الجذب والابداع الجميل داخل الملاعب وخارجها .

برقية: مبروك للقطريين ، رجالا ونساء ، وللمقيمين شركاء البناء و الأفراح ، والخليجيين والعرب ،وكل المنصفين في العالم عرس (المونديال) في (دوحة الجميع) .
لندن- ٣ نوفمبر ٢٠٢٢

https://sudanile.com/%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%B1%D9%8A-%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B6%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%83%D8%A3%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7/

دلالات السعي القطري لاستضافة كأس العالم عام 2022 … بقلم: محمد المكي أحمد – سودانايل (sudanile.com)

 

آراء