هل يجب وضع دارفور تحت الإنتداب الدولى؟
د. حسين أدم الحاج
7 January, 2009
7 January, 2009
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
كنت على وشك أن أرسل مقالاً غير هذا للأخ الكريم طارق الجزولى لينشره فى موقعه النشط هذا, وذلك بعد إنقطاع لى عن الكتابة لفترة من الزمن بسبب ضرورات بعض النشاطات المتعلقة بدارفور فى هذه البلاد, لكنى وضعت ذلك المقال جانباً, وهو جاهز, لحين إشعار آخر, وإكتفيت بهذا المقال القصير مواكبة لتطورات الأوضاع الماثلة بدارفور وما سيستتبع ذلك من تداعيات قادمة فى مقبل الأيام, وأود أن أشكر الذين إتصلوا بى عن طريق البريد الإلكترونى وخطوط الهاتف يستفسرون عن غيابى فها أنذا أعود مرة أخرى إلى هذا الموقع الجميل والعود أحمد.
ولعلَّ التساؤل الوارد فى العنوان أعلاه يظل من نافلة التساؤل فقط لأنَّ دارفور حقيقة هى اليوم تحت الإنتداب الدولى ورحمة مشاعرها, شاءت الحكومة أم أبت, فالمجتمع الدولى هو الذى يقوم الآن برعاية أهل دارفور, ويوصل لهم الغذاء, ويحفر لهم الآبار, ويجلب لهم الدواء, ويرمم لهم المدارس والمراكز الصحية التى هدمتها قصف الطيران الحكومى, ويوزع لهم المشمعات والخيام لتقيهم الحر وهطول الأمطار, ويرسل القوات العسكرية والمراقبين الدوليين المدججين بالسلاح لحراستهم وحمايتهم من "أهلهم وحكومتهم"! ثمَّ سيساعدهم لاحقاً فى العودة إلى ديارهم وقراهم المحروقة المهجورة المنكوبة ومحاولة إعمارها, كما سيمكِّنهم عبر برامج كبيرة مستقبلاً من إعادة عمارة دارفور من جديد, ثمَّ ها هم وزراؤها ومسؤولوها الدوليون يتدفقون نحوهم بصداقاتهم وصدقات شعوبهم, بملايين الدولارات, لدعم كل ذلك وبالبيان العملى, إذاً ماذا تبقى من مهام لجلالة حكومة جمهورية السودان الإسلامية؟ وما الذى سيتغير فى دارفور لو ذهب آدم حامد أو جاء عطا المنان أو تحكم عبدالرحيم, فكلهم من بعضهم, لكن الشيئ المشاهد هو أنَّ ما حدث ويحدث فى دارفور منذ فترة يبدو أنَّه لا يهم الحكومة فى كثير, فالمهم عندها هو ألاَّ تلام على ما يحدث, أو يوجَّه نحوها أصابع النقد وإشارات الإتهام, فهى لا تعتبر ذلك إلاَّ مؤامرة موجَّهة ضدَّها, ولذلك فقد فقدت مبدأ المبادرة, وغيَّبت نفسها عن دوائر الأحداث, وصارت لا تتعامل إلاَّ تحت تأثير ردود الفعل, وبالتالى فهى ليست لها وجود حقيقى فى وجدان الناس فى دارفور, فقد ذهبت هيبتها مع ذهاب أرواح أهاليهم إلى بارئها, أمَّا ما تبقى لها من مظاهر للحكم والسيادة فهى لا تعدو مجرد لوحات صدئة معلقة على جدران مبانيها المتصدعة, وشعارات زائفة ترفعها تنظيماتها السياسية الكذبة, ودولاب حكومى عاجز لا يقدر حتى على صرف مرتبات المعلمين لسنوات بفعل أجهزته التنفيذية المشلولة, وبقايا فلول من قوات أمنية مضعضعة لا تفى بالدفاع حتى عن نفسها.
القضية:
لعلَّ سلوك الحكومة السودانية فيما يتعلق بحياة الأبرياء من الأهالى بدارفور قد تجاوز كل الأعراف الإنسانية والدينية لتصل إلى حد العبث والإستهتار واللا مبالاة, ويزيد من بشاعة الإحساس بالألم فى ذلك الإنكار المطلق لوجود حقائق حيَّة مشاهدة ومن كل العالم, وأناس وأطفال يموتون على مدار الساعة بسبب سياسات الحكومة نفسها, دون أن يرف لها جفن أو يرق لها قلب أو تقر بوجودها, ناهيك عن الإعتراف بها, وتحمل واجباتها, والتعامل معها بما يستلزم من مسئولية حكمية ومنطلقات أخلاقية, ودعوة المجتمع الدولى ومعاونته للتصدى للحدث وتجاوز الكارثة بالشفافية الصادقة والود المخلص, لكن كل ذلك لم يحدث, ولا نعتقد بأنَّه سوف يحدث, الشيئ الذى يعزز من إعتقادنا القديم, والمتجدد دوماً, بأنَّ أهل دارفور ظلوا دائماً فى دائرة الإستهداف من حكومات الوسط التى حكمت السودان منذ ضمِّ دارفور قسراً لهذا الكيان الشائه, وها هى حكومة الإنقاذ, الوجه الأبرز لدكتاتورية الوسط, لا تترك أدنى سانحة إلاَّ وتؤكد ذلك, وبالمكشوف, على أسلوب على عينك يا تاجر, حتى ولو إشتكى كل العالم من ظلاماتها, فهى قد حكمت على هؤلاء الأبرياء بالفناء وها هى تستمر فى تنفيذ ما عزمت عليه دون هوادة رغم صراخ الضمير العالمى.
إنَّ حق الإنسان فى الحياة من الحقوق الأساسية فى وجوده لعمارة هذا الأرض, ولذلك فقد أقَّرته كل الشرائع الدينية والإنسانية على السواء, بل وأعطى الله سبحانه وتعالى, واهب الروح, الحق لصاحبها أن يدافع عنها ويقاتل حفاظاً عليها من أى معتدى, وإن مات دون ذلك فهو شهيد, لكن الناس فى دارفور ظلوا يُقتلون وهم فى قراهم الآمنة, ويُبادون ويُطردون منها دون أن تتكرم الحكومة يوماً واحداً بإدانة ما يحدث أو حتى إستنكارها, بل ظلَّت ساكتة أمام تواتر القتل والمجازر البشعة وإستصراخ العالم لها بضرورة فعل شيئ, بل تتصرف وكأنَّ كل ذلك لا يعنيها, أو كأنَّ أولئك الذين يُبادون ليسوا ببشر يستحقون حتى كلمة للمواساة, وعندما تنتبه القوى العالمية وتكشر عن أنيابها للتدخل الإنسانى الحميد يبدأ المسئولون فى لعبة الإنكار والتكذيب ولىِّ الحقائق. وكمثال على مثل هذه السلوكيات اللا مسئولة دعونا نقرأ تصريحات رئيس الجمهورية مؤخراً بشأن ما يحدث فى دارفور, فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط خبراً بعنوان (البشير: كذَّاب من يقول إنَّه أكثر حرصا منَّا على دارفور), تقول الصحيفة فى خبرها "وعلامات التعجب من عندنا": (كشف البشير في لقاء جمعه بالإعلاميين وكتاب الأعمدة بمقر إقامته ببيت الضيافة بالخرطوم ليل أول من أمس، عن وجود مساع جارية لحل مشكلة دارفور وقال «إذا صدقت النوايا فإن مشكلة دارفور يمكن حلها في أقل من أسبوع»!. ونفى أن تكون دارفور مهمشة سياسياً أو تنموياً أو خدمياً!، وأشار إلى أنَّ ما وجدته دارفور من تنمية في عهد الإنقاذ لم تجده في تاريخها!، معتبرا أنَّ الأزمة في الإقليم «مفتعلة»!. وأبان أنَّ التقارير الإعلامية العالمية عن دارفور «كلها كذب»!، ومضى يقول «كذَّاب أي أجنبي من يقول أنَّه أكثر حرصاً منا على دارفور»!. وأعلن البشير عن إتفاق بين حكومته ودولة تشاد المجاورة لجمع السلاح في دارفور والأراضي التشادية المتاخمة لدارفور في وقت واحد. وقال إنَّ «جمع السلاح في منطقة من دون أخرى لن يساعد على حل المشكلة»!. ورفض الرئيس السوداني بشدة الإتهامات التي توجه إلى حكومته بدعم الجنجويد، وقال إنَّ دعاوى دعم الجنجويد «كذب وإفتراء»!، وأوضح أنَّ الجنجويد ليسوا «الدفاع الشعبي أو الشرطة الشعبية أومجموعات الفزع». وأضاف «أنَّها مجموعات تمتهن النهب والسلب وهم موجودون قبل الإنقاذ»!. ووجه الرئيس البشير هجوما عنيفا للمنظمات الدولية وإتهمها بالسعى إلى الحصول على الدعم لموظفيها «المرتاحين» بإسم دارفور! الشرق الأوسط 24/6/2004م)!! ما هذا الإستهتار؟ وكيف يرضى أى حاكم يحترم شعبه أن يتفوَّه بمثل هذه الطريقة أمام كارثة بشعة أدت لهلاك أكثر من ثلاثين ألف مواطن؟ ثمَّ ما الذى فعلته حكومتك يا سيادة الرئيس حتى تسد المنافذ لتلك المنظمات الأجنبية الكاذبة لإراحة موظفيها بإسم دارفور؟ ولماذا لا تطردهم فوراً إلى حيث أتوا إن ثبت لك ذلك؟
هذا كلام خطير, وتنبع خطورته من الآتى:
(1) إنَّ الرئيس البشير يبسط القضية إلى الدرجة التى لا يقر بوجودها من الأساس, بجانب أنَّه ينفى أى إعتراف بدور حكومته فى تأجيج الأزمة وتشكيل وتدريب وتسليج وتمويل مليشيات الجنجويد ويتبرأ منهم, ولو ظاهرياً!
(2) أصبح بما لا يدع مجالاً للشك تبعية مليشيات الجنجويد والبشمركة (قوات الدفاع الشعبى القبلية) للحكومة, بل حتى أنَّ قادتها ومعسكراتها داخل دارفور صاروا معروفين لكل المواطنين والأجانب على السواء.
(3) إنَّ المواطنين فى دارفور يعرفون بالأسماء مسئولى الحكومة, بالإقليم والخرطوم, ومن أبناء الإقليم وخارجه, المتورطين فى رعاية الجنجويد وتوجيههم ودعمهم والتنسيق بين تحركاتهم وتحركات قوات الجيش ومساندة سلاح الجو السودانى لغاراتهم, وتتداول جهات معنية على المستوى العالمى أسماء محددة للمتورطين فى ذلك, نملك قائمة منها, كما أننا نعرف السبب وراء عزل آدم حامد!
(4) إنَّ الرئيس البشير وأركان نظامه لا يعترفون حتى اللحظة بخلو دارفور من أى مشاريع للتنمية ويحاولون مداراة الحقائق وقلبها بخبث ولؤم, ذلك أنَّ القليل من المشاريع التى كانت موجودة أصلاً قبل إنقلابهم تمَّت تصفيتها, فأين هى مشاريع التنمية الجديدة التى أنشئوها؟ وماذا سيقولون عن ما أسموه بطريق الإنقاذ الغربى؟ ولماذا أخفوا ملفه عن التحقيق؟ بل ولماذا طردوا أمين بنانى من الوزارة؟
(5) يقرر الرئيس أن التقارير العالمية بشأن دارفور كله كذب فى كذب! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يسمح الرئيس بفتح دارفور أمام تلك الوكالات للحصول على الحقيقة الناصعة؟ لماذا لا تسمح الحكومة لفرق التحقيق الدولى بالدخول إلى البلاد وتتلكأ فى إصدار التصاريح لها؟ ولماذا تمنعهم إن هى وافقت على زيارتهم من الوصول إلى أماكن محددة تمثل قمة الدمار وتحتوى على المقابر الجماعية؟ ولماذا طردت حكومة ولاية جنوب دارفور مندوبة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالولاية هيلين كينتريك وأمرتها بالمغادرة خلال 72 ساعة؟ هل لأنَّها رأت شيئاً منكراً حاول السلطات إخفائها عن أعين العالم؟ ثمَّ هل قبلت الحكومة بتقرير بعثة جامعة الدول العربية وهى التى رحبت بقدومها فى المبتدأ بالرغم من أنَّ البعثة لم تشاهد إلاَّ طرفاً صغيراً من الصورة الكاملة للمأساة؟
(6) يقول البشير أنَّه إذا صدقت النوايا فإن مشكلة دارفور يمكن حلَّها في أقل من أسبوع, إذاً ما الذى يمنع من ذلك؟ ولماذا لم تصدق النوايا طيلة الفترة الماضية؟ أو منذ مجيئ إنقلاب الإنقاذ؟ ومن هو الذى كان يحكم طيلة هذه الفترة؟
(7) يبدو أنَّ الرئيس قد إنحصر كل همَّه على الجانب الأمنى فقط ومحاولة جر دولة تشاد قسراً للدخول معها فى حرب ضد الثوار, وطالما أنَّ الجنجويد قد أصبحوا مصدر تهمة مجلجلة فى عنق الحكومة, بجانب أعناق المتنفذين فيها, فمن الأفضل البحث عن حليف جديد, أو حتى إجباره على ذلك.
(8) يصر الخطاب الحكومى إزاء قضية دارفور ألاَّ يأتى إلاَّ فاجعاً, لئيماً ومستفزاً للمشاعر, ومستهتراً بالكارثة التى تعصف بالملايين من البشر فى أبشع كارثة يتابعها العالم اليوم, لقد كان ينبغى على الرئيس أن يكون رحيماً, يترحم على موت نفر عزيز من شعبه ويسأل الله سبحانه وتعالى الرحمة والغفران لهم فى مبتدأ خطابه أعلاه, لكن الفجيعة تتمثل فى كونَّه أنَّه لا هو ولا أى أحد من أركان نخبته المتسلطة وقف يوماً ليترحم على أرواح أولئك البؤساء أو أن يتأسى على أحوال المشردين, فأى إستهتار قد يبلغ تلك الدرجة من القسوة واللا إنسانية؟
(9) خطاب الرئيس يكشف عن تصميم أكيد لنظامه بعدم تقديم أى شيئ لأهل دارفور لأنَّها, على حسب تعبيره, قد وجدت من التنمية في عهد الإنقاذ لم تجده في تاريخها! ذلك حديث محشو بالخواء.
(10) ملاحظة أخيرة, هى أنَّ خطاب الرئيس فى تلك الأمسية, وهتافات الهتيفة وحماسهم لتهديداته وتقليله من حجم الكارثة تكشف بجلاء أى منزلة حضيضة تجدها أزمة دارفور وقضايا أهلها عند نخبة المركز, وتبرز بوضوح لا مبالاتهم المفرطة حتى وإن بلغت الأمور من السؤ إلى درجة إبادة الناس هناك وهتك أعراضهم.
إنَّ حديث الرئيس أعلاه, بجانب أراجيف نائبه الأول ووزير خارجيته, يكشف أنَّ هؤلاء الناس لا يتورعون فى مواصلة إذلال هذا الشعب والوطن الذى دمروه, كما أفتى بذلك مؤخراً أحد منظروهم, ولا يودون الإعتراف بالأساس بأنَّ لدارفور قضية بالرغم من شهادة كل العالم على ذلك والوقوف عليه, وعلى خلفية جرائم الإبادة هذه والتصفية العرقية التى تضرب أرجاء عزيزة من دارفور, تحت بصر الحكومة وسمعها ورعايتها, فإنَّها تكون بذلك قد فقدت أى شرعية دستورية أو دينية أو أخلاقية للإستمرار فى الحكم, إن كانت لها شرعية بالأصل.
الفزع العالمى نحو دارفور:
فشلت حكومة الإنقاذ فى القيام بأوجب واجباتها الشرعية والدستورية والأخلاقية فى حماية مواطنيها فى دارفور, بل وتنكرت لحقوقهم الإنسانية شرعاً, وأنكرت عليهم حقَّهم فى الحياة, ولذلك جاء المجتمع العالمى فى "فزع" لنجدة أولئك الأهالى من محرقة الموت ومجازر القتل, لكن للأسف تحاول الحكومة "دسَّ المحافير", لقد تنادت كل المنظمات العالمية من حقوق إنسان ومؤسسات دولية كالأمم المتحدة والإتحادين الأوربى والأفريقى وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى, والدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الدائمة فى مجلس الأمن, بل وتنادت المؤتمرات العالمية الكبرى وقمة الثمانية بوجوب تحرك الحكومة لتفكيك آلة الموت (الجنجويد), ودخلت قضية دارفور مجلس الأمن وفرضت نفسها على كل أخبار العالم حتى أزمة العراق الناشبة, والحكومة تسد هذه بطينة وتلك بعجينة, ولا أرى ولا أسمع ولا أتكلم, وإذا تكلمت تكون متثائبة تتناول من أقرب شماعة ما يفيد بأنَّ سبب كل ذلك هم اليهود والصهيونية العالمية تتهمهم بمحاولة تفتيت السودان, وكأنَّ مناسيبها فى "منبر السلام العادل" ومنتسبى الحركة الإسلامية, بل ومحاسيب الرئيس نفسه, يحملون همَّ وحدة الوطن فى قلوبهم ويذودون عنها بالمهج والأرواح؟ ونظراً لشناعة المأساة صرخت دارفور "وا معتصماه" وإستصرخت العالم الحر الكريم الأبى فتدفقت المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة من جهات العالم الأربعة, جاءت من الشرق حتى اليابان, ومن الغرب حتى أمريكا, ومن الجنوب حتى جنوب أفريقيا, ومن الشمال حتى السويد والنرويج, وما بين هذه وتلكم عشرات الدول الأخرى, وكأنَّ كل ذلك لم يكف لإثبات حدوث الكارثة فتظل الحكومة ترتكز بإصرار أخرق على موقفها من أنَّ قضية دارفور مفتعلة, ولا يمر مطلع شمس جديد إلاَّ ويحل على بلادنا مسئول أو وزير أجنبى يسأل ويتفقد أحوال المصابين والبؤساء.
ومع تتابع توافد هذه الجيوش الجرارة من الزوَّار والزائرات ستستقبل دارفور بعد أيام قليلة زيارة المفتشين الدوليين الكبار يقصدوها تحديداً, يحملون وجوه كالحة ورؤى متكاملة وتصميم أطرش تخطئ الحكومة خطأ عمرها إن إستهترت بهم كعادتها, أو إن حاولت إخفاء الحقائق عنهم وتضليلهم إلى وجهات غير سليمة كى تتستر على سوءاتها, وهى منكشفة على أية حال, ومع وصول وفد الكونغرس الأمريكى, ووزير الخارجية الأمريكى كولن باول, ثم الأمين العام للأمم المتحدة كوفى أنان فى بحر هذا الأسبوع فى زيارة نادرة منذ عهد الراحل الأمين العام داج همرشولد إلى الكونغو فى الستينات من القرن الماضى, يكون الحضور العالمى قد إكتمل فى دارفور, وتحت واقع إنكار الحكومة لما يجرى هناك يصبح من الأسلم ليس فقط مواصلة تواجد هذا الحضور الدولى فى الإقليم بل والمطالبة بوضع دارفور بأكملها تحت الوصاية الدولية أو الإنتداب الدولى (لا فرق فى ذلك بالرغم من علمنا بالدلالات القانونية للعبارتين) إلى حين إشعار آخر, حتى يستتب الأمن وتزهر ورود السلام فى ربوع الإقليم, ويتمكن الأهالى من العودة إلى قراهم بأمان وطمأنينة.
المشروعية القانونية لوضع دارفور تحت الإنتداب الدولى:
النفس البشرية أولى, والحق فى الحياة هى من أقدس مقدسات الله فى خلقه, وأعلى المراتب فى مشروعية القوانين الإنسانية الوضعية, وأنبل الأهداف فى ديباجات نصوص حقوق الإنسان العالمية, ولذلك تتراجع جدلية البحث عن المشروعية القانونية لوضع دارفور تحت الإنتداب الدولى حتى تستقيم أولاً معانى ومقاصد وإمكانية حق إنسان دارفور فى الحياة, ثمَّ تأتى بعد ذلك جدليات تبرير الواقع القانونى.
ما هى طبيعة السلطة فى دارفور تحت الإنتداب الدولى:
ليس مهماً تحديد ذلك الآن أو كيف ستكون عليه فالأمين العام للأمم المتحدة سيتكفل بذلك بحكم إختصاصه الأممى, فلنعطى الفرصة أولاً لإمتلاك الحق فى الحياة وتحقيق قدسية الروح, وبكل التدابير الممكنة, ثمَّ لنناقش طبيعة السلطة بعد ذلك, وهل من الممكن أن نبنى سلطة على جثث الأبرياء وهياكل الموتى من الأطفال والنساء والعجزة والرجال؟
نهاية فترة الإنتداب الدولى وإقرار مبدأ تقرير المصير:
تنتهى فترة الوصاية الدولية بعد تحقيق هدفين, الأول هو الأغراض التى أدَّت إلى فرضها وهى الحفاظ على أرواح الأهالى ووقف القتل ومجازر الإبادة, مساعدة الأهالى العودة إلى قراهم وإعادة مسيرة حياتهم العادية, بث الأمن والطمأنينة فى كل أرجاء الإقليم ومساعدة القبائل والإدارات الأهلية تأهيل العلاقات فيما بينها, وأخيراً إنشاء المرافق الخدمية الضرورية من تعليم وصحة ومشاريع مياه لإعادة دارفور إلى سيرتها الأولى, هذه هى المرحلة الأولى, أما المرحلة الثانية فتشتمل على تمكين أهل دارفور على ممارسة حقه فى تقرير المصير ويتم تخييرهم بين البقاء فى ظل السودان الموَّحد تحت ترتيبات جديدة تماماً أو الإستقلال. تقرير المصير لشعب دارفور هو عطاء من لا يملك لمن يستحق, أى رجوع الحق لأهله, ويتسق ذلك مع ماضى وتاريخ دارفور عبر القرون.
الولايات المتحدة الأمريكية
كنت على وشك أن أرسل مقالاً غير هذا للأخ الكريم طارق الجزولى لينشره فى موقعه النشط هذا, وذلك بعد إنقطاع لى عن الكتابة لفترة من الزمن بسبب ضرورات بعض النشاطات المتعلقة بدارفور فى هذه البلاد, لكنى وضعت ذلك المقال جانباً, وهو جاهز, لحين إشعار آخر, وإكتفيت بهذا المقال القصير مواكبة لتطورات الأوضاع الماثلة بدارفور وما سيستتبع ذلك من تداعيات قادمة فى مقبل الأيام, وأود أن أشكر الذين إتصلوا بى عن طريق البريد الإلكترونى وخطوط الهاتف يستفسرون عن غيابى فها أنذا أعود مرة أخرى إلى هذا الموقع الجميل والعود أحمد.
ولعلَّ التساؤل الوارد فى العنوان أعلاه يظل من نافلة التساؤل فقط لأنَّ دارفور حقيقة هى اليوم تحت الإنتداب الدولى ورحمة مشاعرها, شاءت الحكومة أم أبت, فالمجتمع الدولى هو الذى يقوم الآن برعاية أهل دارفور, ويوصل لهم الغذاء, ويحفر لهم الآبار, ويجلب لهم الدواء, ويرمم لهم المدارس والمراكز الصحية التى هدمتها قصف الطيران الحكومى, ويوزع لهم المشمعات والخيام لتقيهم الحر وهطول الأمطار, ويرسل القوات العسكرية والمراقبين الدوليين المدججين بالسلاح لحراستهم وحمايتهم من "أهلهم وحكومتهم"! ثمَّ سيساعدهم لاحقاً فى العودة إلى ديارهم وقراهم المحروقة المهجورة المنكوبة ومحاولة إعمارها, كما سيمكِّنهم عبر برامج كبيرة مستقبلاً من إعادة عمارة دارفور من جديد, ثمَّ ها هم وزراؤها ومسؤولوها الدوليون يتدفقون نحوهم بصداقاتهم وصدقات شعوبهم, بملايين الدولارات, لدعم كل ذلك وبالبيان العملى, إذاً ماذا تبقى من مهام لجلالة حكومة جمهورية السودان الإسلامية؟ وما الذى سيتغير فى دارفور لو ذهب آدم حامد أو جاء عطا المنان أو تحكم عبدالرحيم, فكلهم من بعضهم, لكن الشيئ المشاهد هو أنَّ ما حدث ويحدث فى دارفور منذ فترة يبدو أنَّه لا يهم الحكومة فى كثير, فالمهم عندها هو ألاَّ تلام على ما يحدث, أو يوجَّه نحوها أصابع النقد وإشارات الإتهام, فهى لا تعتبر ذلك إلاَّ مؤامرة موجَّهة ضدَّها, ولذلك فقد فقدت مبدأ المبادرة, وغيَّبت نفسها عن دوائر الأحداث, وصارت لا تتعامل إلاَّ تحت تأثير ردود الفعل, وبالتالى فهى ليست لها وجود حقيقى فى وجدان الناس فى دارفور, فقد ذهبت هيبتها مع ذهاب أرواح أهاليهم إلى بارئها, أمَّا ما تبقى لها من مظاهر للحكم والسيادة فهى لا تعدو مجرد لوحات صدئة معلقة على جدران مبانيها المتصدعة, وشعارات زائفة ترفعها تنظيماتها السياسية الكذبة, ودولاب حكومى عاجز لا يقدر حتى على صرف مرتبات المعلمين لسنوات بفعل أجهزته التنفيذية المشلولة, وبقايا فلول من قوات أمنية مضعضعة لا تفى بالدفاع حتى عن نفسها.
القضية:
لعلَّ سلوك الحكومة السودانية فيما يتعلق بحياة الأبرياء من الأهالى بدارفور قد تجاوز كل الأعراف الإنسانية والدينية لتصل إلى حد العبث والإستهتار واللا مبالاة, ويزيد من بشاعة الإحساس بالألم فى ذلك الإنكار المطلق لوجود حقائق حيَّة مشاهدة ومن كل العالم, وأناس وأطفال يموتون على مدار الساعة بسبب سياسات الحكومة نفسها, دون أن يرف لها جفن أو يرق لها قلب أو تقر بوجودها, ناهيك عن الإعتراف بها, وتحمل واجباتها, والتعامل معها بما يستلزم من مسئولية حكمية ومنطلقات أخلاقية, ودعوة المجتمع الدولى ومعاونته للتصدى للحدث وتجاوز الكارثة بالشفافية الصادقة والود المخلص, لكن كل ذلك لم يحدث, ولا نعتقد بأنَّه سوف يحدث, الشيئ الذى يعزز من إعتقادنا القديم, والمتجدد دوماً, بأنَّ أهل دارفور ظلوا دائماً فى دائرة الإستهداف من حكومات الوسط التى حكمت السودان منذ ضمِّ دارفور قسراً لهذا الكيان الشائه, وها هى حكومة الإنقاذ, الوجه الأبرز لدكتاتورية الوسط, لا تترك أدنى سانحة إلاَّ وتؤكد ذلك, وبالمكشوف, على أسلوب على عينك يا تاجر, حتى ولو إشتكى كل العالم من ظلاماتها, فهى قد حكمت على هؤلاء الأبرياء بالفناء وها هى تستمر فى تنفيذ ما عزمت عليه دون هوادة رغم صراخ الضمير العالمى.
إنَّ حق الإنسان فى الحياة من الحقوق الأساسية فى وجوده لعمارة هذا الأرض, ولذلك فقد أقَّرته كل الشرائع الدينية والإنسانية على السواء, بل وأعطى الله سبحانه وتعالى, واهب الروح, الحق لصاحبها أن يدافع عنها ويقاتل حفاظاً عليها من أى معتدى, وإن مات دون ذلك فهو شهيد, لكن الناس فى دارفور ظلوا يُقتلون وهم فى قراهم الآمنة, ويُبادون ويُطردون منها دون أن تتكرم الحكومة يوماً واحداً بإدانة ما يحدث أو حتى إستنكارها, بل ظلَّت ساكتة أمام تواتر القتل والمجازر البشعة وإستصراخ العالم لها بضرورة فعل شيئ, بل تتصرف وكأنَّ كل ذلك لا يعنيها, أو كأنَّ أولئك الذين يُبادون ليسوا ببشر يستحقون حتى كلمة للمواساة, وعندما تنتبه القوى العالمية وتكشر عن أنيابها للتدخل الإنسانى الحميد يبدأ المسئولون فى لعبة الإنكار والتكذيب ولىِّ الحقائق. وكمثال على مثل هذه السلوكيات اللا مسئولة دعونا نقرأ تصريحات رئيس الجمهورية مؤخراً بشأن ما يحدث فى دارفور, فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط خبراً بعنوان (البشير: كذَّاب من يقول إنَّه أكثر حرصا منَّا على دارفور), تقول الصحيفة فى خبرها "وعلامات التعجب من عندنا": (كشف البشير في لقاء جمعه بالإعلاميين وكتاب الأعمدة بمقر إقامته ببيت الضيافة بالخرطوم ليل أول من أمس، عن وجود مساع جارية لحل مشكلة دارفور وقال «إذا صدقت النوايا فإن مشكلة دارفور يمكن حلها في أقل من أسبوع»!. ونفى أن تكون دارفور مهمشة سياسياً أو تنموياً أو خدمياً!، وأشار إلى أنَّ ما وجدته دارفور من تنمية في عهد الإنقاذ لم تجده في تاريخها!، معتبرا أنَّ الأزمة في الإقليم «مفتعلة»!. وأبان أنَّ التقارير الإعلامية العالمية عن دارفور «كلها كذب»!، ومضى يقول «كذَّاب أي أجنبي من يقول أنَّه أكثر حرصاً منا على دارفور»!. وأعلن البشير عن إتفاق بين حكومته ودولة تشاد المجاورة لجمع السلاح في دارفور والأراضي التشادية المتاخمة لدارفور في وقت واحد. وقال إنَّ «جمع السلاح في منطقة من دون أخرى لن يساعد على حل المشكلة»!. ورفض الرئيس السوداني بشدة الإتهامات التي توجه إلى حكومته بدعم الجنجويد، وقال إنَّ دعاوى دعم الجنجويد «كذب وإفتراء»!، وأوضح أنَّ الجنجويد ليسوا «الدفاع الشعبي أو الشرطة الشعبية أومجموعات الفزع». وأضاف «أنَّها مجموعات تمتهن النهب والسلب وهم موجودون قبل الإنقاذ»!. ووجه الرئيس البشير هجوما عنيفا للمنظمات الدولية وإتهمها بالسعى إلى الحصول على الدعم لموظفيها «المرتاحين» بإسم دارفور! الشرق الأوسط 24/6/2004م)!! ما هذا الإستهتار؟ وكيف يرضى أى حاكم يحترم شعبه أن يتفوَّه بمثل هذه الطريقة أمام كارثة بشعة أدت لهلاك أكثر من ثلاثين ألف مواطن؟ ثمَّ ما الذى فعلته حكومتك يا سيادة الرئيس حتى تسد المنافذ لتلك المنظمات الأجنبية الكاذبة لإراحة موظفيها بإسم دارفور؟ ولماذا لا تطردهم فوراً إلى حيث أتوا إن ثبت لك ذلك؟
هذا كلام خطير, وتنبع خطورته من الآتى:
(1) إنَّ الرئيس البشير يبسط القضية إلى الدرجة التى لا يقر بوجودها من الأساس, بجانب أنَّه ينفى أى إعتراف بدور حكومته فى تأجيج الأزمة وتشكيل وتدريب وتسليج وتمويل مليشيات الجنجويد ويتبرأ منهم, ولو ظاهرياً!
(2) أصبح بما لا يدع مجالاً للشك تبعية مليشيات الجنجويد والبشمركة (قوات الدفاع الشعبى القبلية) للحكومة, بل حتى أنَّ قادتها ومعسكراتها داخل دارفور صاروا معروفين لكل المواطنين والأجانب على السواء.
(3) إنَّ المواطنين فى دارفور يعرفون بالأسماء مسئولى الحكومة, بالإقليم والخرطوم, ومن أبناء الإقليم وخارجه, المتورطين فى رعاية الجنجويد وتوجيههم ودعمهم والتنسيق بين تحركاتهم وتحركات قوات الجيش ومساندة سلاح الجو السودانى لغاراتهم, وتتداول جهات معنية على المستوى العالمى أسماء محددة للمتورطين فى ذلك, نملك قائمة منها, كما أننا نعرف السبب وراء عزل آدم حامد!
(4) إنَّ الرئيس البشير وأركان نظامه لا يعترفون حتى اللحظة بخلو دارفور من أى مشاريع للتنمية ويحاولون مداراة الحقائق وقلبها بخبث ولؤم, ذلك أنَّ القليل من المشاريع التى كانت موجودة أصلاً قبل إنقلابهم تمَّت تصفيتها, فأين هى مشاريع التنمية الجديدة التى أنشئوها؟ وماذا سيقولون عن ما أسموه بطريق الإنقاذ الغربى؟ ولماذا أخفوا ملفه عن التحقيق؟ بل ولماذا طردوا أمين بنانى من الوزارة؟
(5) يقرر الرئيس أن التقارير العالمية بشأن دارفور كله كذب فى كذب! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يسمح الرئيس بفتح دارفور أمام تلك الوكالات للحصول على الحقيقة الناصعة؟ لماذا لا تسمح الحكومة لفرق التحقيق الدولى بالدخول إلى البلاد وتتلكأ فى إصدار التصاريح لها؟ ولماذا تمنعهم إن هى وافقت على زيارتهم من الوصول إلى أماكن محددة تمثل قمة الدمار وتحتوى على المقابر الجماعية؟ ولماذا طردت حكومة ولاية جنوب دارفور مندوبة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالولاية هيلين كينتريك وأمرتها بالمغادرة خلال 72 ساعة؟ هل لأنَّها رأت شيئاً منكراً حاول السلطات إخفائها عن أعين العالم؟ ثمَّ هل قبلت الحكومة بتقرير بعثة جامعة الدول العربية وهى التى رحبت بقدومها فى المبتدأ بالرغم من أنَّ البعثة لم تشاهد إلاَّ طرفاً صغيراً من الصورة الكاملة للمأساة؟
(6) يقول البشير أنَّه إذا صدقت النوايا فإن مشكلة دارفور يمكن حلَّها في أقل من أسبوع, إذاً ما الذى يمنع من ذلك؟ ولماذا لم تصدق النوايا طيلة الفترة الماضية؟ أو منذ مجيئ إنقلاب الإنقاذ؟ ومن هو الذى كان يحكم طيلة هذه الفترة؟
(7) يبدو أنَّ الرئيس قد إنحصر كل همَّه على الجانب الأمنى فقط ومحاولة جر دولة تشاد قسراً للدخول معها فى حرب ضد الثوار, وطالما أنَّ الجنجويد قد أصبحوا مصدر تهمة مجلجلة فى عنق الحكومة, بجانب أعناق المتنفذين فيها, فمن الأفضل البحث عن حليف جديد, أو حتى إجباره على ذلك.
(8) يصر الخطاب الحكومى إزاء قضية دارفور ألاَّ يأتى إلاَّ فاجعاً, لئيماً ومستفزاً للمشاعر, ومستهتراً بالكارثة التى تعصف بالملايين من البشر فى أبشع كارثة يتابعها العالم اليوم, لقد كان ينبغى على الرئيس أن يكون رحيماً, يترحم على موت نفر عزيز من شعبه ويسأل الله سبحانه وتعالى الرحمة والغفران لهم فى مبتدأ خطابه أعلاه, لكن الفجيعة تتمثل فى كونَّه أنَّه لا هو ولا أى أحد من أركان نخبته المتسلطة وقف يوماً ليترحم على أرواح أولئك البؤساء أو أن يتأسى على أحوال المشردين, فأى إستهتار قد يبلغ تلك الدرجة من القسوة واللا إنسانية؟
(9) خطاب الرئيس يكشف عن تصميم أكيد لنظامه بعدم تقديم أى شيئ لأهل دارفور لأنَّها, على حسب تعبيره, قد وجدت من التنمية في عهد الإنقاذ لم تجده في تاريخها! ذلك حديث محشو بالخواء.
(10) ملاحظة أخيرة, هى أنَّ خطاب الرئيس فى تلك الأمسية, وهتافات الهتيفة وحماسهم لتهديداته وتقليله من حجم الكارثة تكشف بجلاء أى منزلة حضيضة تجدها أزمة دارفور وقضايا أهلها عند نخبة المركز, وتبرز بوضوح لا مبالاتهم المفرطة حتى وإن بلغت الأمور من السؤ إلى درجة إبادة الناس هناك وهتك أعراضهم.
إنَّ حديث الرئيس أعلاه, بجانب أراجيف نائبه الأول ووزير خارجيته, يكشف أنَّ هؤلاء الناس لا يتورعون فى مواصلة إذلال هذا الشعب والوطن الذى دمروه, كما أفتى بذلك مؤخراً أحد منظروهم, ولا يودون الإعتراف بالأساس بأنَّ لدارفور قضية بالرغم من شهادة كل العالم على ذلك والوقوف عليه, وعلى خلفية جرائم الإبادة هذه والتصفية العرقية التى تضرب أرجاء عزيزة من دارفور, تحت بصر الحكومة وسمعها ورعايتها, فإنَّها تكون بذلك قد فقدت أى شرعية دستورية أو دينية أو أخلاقية للإستمرار فى الحكم, إن كانت لها شرعية بالأصل.
الفزع العالمى نحو دارفور:
فشلت حكومة الإنقاذ فى القيام بأوجب واجباتها الشرعية والدستورية والأخلاقية فى حماية مواطنيها فى دارفور, بل وتنكرت لحقوقهم الإنسانية شرعاً, وأنكرت عليهم حقَّهم فى الحياة, ولذلك جاء المجتمع العالمى فى "فزع" لنجدة أولئك الأهالى من محرقة الموت ومجازر القتل, لكن للأسف تحاول الحكومة "دسَّ المحافير", لقد تنادت كل المنظمات العالمية من حقوق إنسان ومؤسسات دولية كالأمم المتحدة والإتحادين الأوربى والأفريقى وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى, والدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الدائمة فى مجلس الأمن, بل وتنادت المؤتمرات العالمية الكبرى وقمة الثمانية بوجوب تحرك الحكومة لتفكيك آلة الموت (الجنجويد), ودخلت قضية دارفور مجلس الأمن وفرضت نفسها على كل أخبار العالم حتى أزمة العراق الناشبة, والحكومة تسد هذه بطينة وتلك بعجينة, ولا أرى ولا أسمع ولا أتكلم, وإذا تكلمت تكون متثائبة تتناول من أقرب شماعة ما يفيد بأنَّ سبب كل ذلك هم اليهود والصهيونية العالمية تتهمهم بمحاولة تفتيت السودان, وكأنَّ مناسيبها فى "منبر السلام العادل" ومنتسبى الحركة الإسلامية, بل ومحاسيب الرئيس نفسه, يحملون همَّ وحدة الوطن فى قلوبهم ويذودون عنها بالمهج والأرواح؟ ونظراً لشناعة المأساة صرخت دارفور "وا معتصماه" وإستصرخت العالم الحر الكريم الأبى فتدفقت المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة من جهات العالم الأربعة, جاءت من الشرق حتى اليابان, ومن الغرب حتى أمريكا, ومن الجنوب حتى جنوب أفريقيا, ومن الشمال حتى السويد والنرويج, وما بين هذه وتلكم عشرات الدول الأخرى, وكأنَّ كل ذلك لم يكف لإثبات حدوث الكارثة فتظل الحكومة ترتكز بإصرار أخرق على موقفها من أنَّ قضية دارفور مفتعلة, ولا يمر مطلع شمس جديد إلاَّ ويحل على بلادنا مسئول أو وزير أجنبى يسأل ويتفقد أحوال المصابين والبؤساء.
ومع تتابع توافد هذه الجيوش الجرارة من الزوَّار والزائرات ستستقبل دارفور بعد أيام قليلة زيارة المفتشين الدوليين الكبار يقصدوها تحديداً, يحملون وجوه كالحة ورؤى متكاملة وتصميم أطرش تخطئ الحكومة خطأ عمرها إن إستهترت بهم كعادتها, أو إن حاولت إخفاء الحقائق عنهم وتضليلهم إلى وجهات غير سليمة كى تتستر على سوءاتها, وهى منكشفة على أية حال, ومع وصول وفد الكونغرس الأمريكى, ووزير الخارجية الأمريكى كولن باول, ثم الأمين العام للأمم المتحدة كوفى أنان فى بحر هذا الأسبوع فى زيارة نادرة منذ عهد الراحل الأمين العام داج همرشولد إلى الكونغو فى الستينات من القرن الماضى, يكون الحضور العالمى قد إكتمل فى دارفور, وتحت واقع إنكار الحكومة لما يجرى هناك يصبح من الأسلم ليس فقط مواصلة تواجد هذا الحضور الدولى فى الإقليم بل والمطالبة بوضع دارفور بأكملها تحت الوصاية الدولية أو الإنتداب الدولى (لا فرق فى ذلك بالرغم من علمنا بالدلالات القانونية للعبارتين) إلى حين إشعار آخر, حتى يستتب الأمن وتزهر ورود السلام فى ربوع الإقليم, ويتمكن الأهالى من العودة إلى قراهم بأمان وطمأنينة.
المشروعية القانونية لوضع دارفور تحت الإنتداب الدولى:
النفس البشرية أولى, والحق فى الحياة هى من أقدس مقدسات الله فى خلقه, وأعلى المراتب فى مشروعية القوانين الإنسانية الوضعية, وأنبل الأهداف فى ديباجات نصوص حقوق الإنسان العالمية, ولذلك تتراجع جدلية البحث عن المشروعية القانونية لوضع دارفور تحت الإنتداب الدولى حتى تستقيم أولاً معانى ومقاصد وإمكانية حق إنسان دارفور فى الحياة, ثمَّ تأتى بعد ذلك جدليات تبرير الواقع القانونى.
ما هى طبيعة السلطة فى دارفور تحت الإنتداب الدولى:
ليس مهماً تحديد ذلك الآن أو كيف ستكون عليه فالأمين العام للأمم المتحدة سيتكفل بذلك بحكم إختصاصه الأممى, فلنعطى الفرصة أولاً لإمتلاك الحق فى الحياة وتحقيق قدسية الروح, وبكل التدابير الممكنة, ثمَّ لنناقش طبيعة السلطة بعد ذلك, وهل من الممكن أن نبنى سلطة على جثث الأبرياء وهياكل الموتى من الأطفال والنساء والعجزة والرجال؟
نهاية فترة الإنتداب الدولى وإقرار مبدأ تقرير المصير:
تنتهى فترة الوصاية الدولية بعد تحقيق هدفين, الأول هو الأغراض التى أدَّت إلى فرضها وهى الحفاظ على أرواح الأهالى ووقف القتل ومجازر الإبادة, مساعدة الأهالى العودة إلى قراهم وإعادة مسيرة حياتهم العادية, بث الأمن والطمأنينة فى كل أرجاء الإقليم ومساعدة القبائل والإدارات الأهلية تأهيل العلاقات فيما بينها, وأخيراً إنشاء المرافق الخدمية الضرورية من تعليم وصحة ومشاريع مياه لإعادة دارفور إلى سيرتها الأولى, هذه هى المرحلة الأولى, أما المرحلة الثانية فتشتمل على تمكين أهل دارفور على ممارسة حقه فى تقرير المصير ويتم تخييرهم بين البقاء فى ظل السودان الموَّحد تحت ترتيبات جديدة تماماً أو الإستقلال. تقرير المصير لشعب دارفور هو عطاء من لا يملك لمن يستحق, أى رجوع الحق لأهله, ويتسق ذلك مع ماضى وتاريخ دارفور عبر القرون.