هل يشهد السودان خاتمة الاحتجاجات؟

 


 

 

(1)

شهد السودان قبل 33 عاما انقلاباً عسكرياً، خططت له ونفذته الجبهة الإسلامية القومية، وهو الحزب السياسي السّوداني الذي كان يتزعمه حسن الترابي. أزاح ذلك الانقلاب الحزبين التقليديين، الأمة والاتحادي الديمقراطي، وأسقط حكومة ائتلافية كان يرأسها الراحل الصادق المهدي. في تخابث سياسي غير مسبوق، ارتضى عرّاب ذلك الانقلاب أن يقبع في السجن تمويهاً ذكياً، ثم دفع بالعميد عمر البشير ليتولى رئاسة المجلس العسكري، ويبقى على رأس السلطة في السودان، طوال تلكم السنوات. أما العرّاب فقد واصل الإمساك بخيوط اللعبة السياسية، ولكن إلى حين. إذ أخذ العسكر الإسلاميين شيخهم وعرّابهم على حين غرّة، وأبعدوه بعونٍ من بعض تلاميذه غير الأوفياء، حتى جرى إسقاطه في أبريل/ نيسان 2019، بعد انتفاضة شعبية شملت معظم المدن السّودانية. بلغ إغراء كرسي السلطة عند البشير مداه، فطمع، وهو يخطو بسنواته نحو الثمانين، أن يترشّح لرئاسة الجمهورية لدورة رابعة، فكأنه قصد أن يكون رئيسا مدى الحياة.

(2)

مرّت تحت جسور السّودان ميـاهٌ حملت في فيوضها من ويلات الاسـتبداد ما حملتْ، ومن أشكال قهـر السودانيين، نساءهم ورجالهم ما بلغ درجات الطغيان الأعلى، ومن مكائد الصراعات وإثارة النعرات العنصرية والقبلية، ما عزّز سلطان الطغيان عليهم، ومن مفاسد حكمه، ما فاق التصوّر. ماذا بقي للسودان سوى أن يخرُج من منظومة الدّول الرّاشـدة في المجتمع الدولي، ليصبح نظامه معزولاً، ويضحى رئيسه مطارداً، تلاحقه المحاكم الدولية ببتهم الإبادة الجماعية.

(3)

وعلى الرغم من رايات الإسلام التي ظلّ نظامه البائس يعليها، لم تغفل عـيون السودانيين عـن رصد شهوة الفساد عند أعوانه، فقصموا ظهر البلاد إلى نصفين، ليذهب الجنوب إلى حاله دولة مستقلة، وتنتفخ كروش الإنقاذيين من عائدات البترول السوداني حد التخمة. بقيت البلاد تتردّى في فقرها وتتهاوى في عزلتها، حتى هوَتْ تماماً تحت أقدام شباب ثورة ديسمبر 2018.

بقي يوم 30 يونيو كلّ عام راسخاً في ذاكرة السودانيين، يصعب نسيانه، بل أصبح تجسيداً لأسوأ حكمِ استبدادي جثم على صدورهم ثلاثة عـقـود، غير أنّ التوافق بين المدنيين والعسكريين لإدارة الفترة الانتقالية بعد إسقاط البشير لم يكتب له النجاح المأمول. ولمّا تعثرت مسيرة البلاد نحو الانتقال إلى براح الحريات والديمقراطية، وبمكرٍ بائن من الجنرالات المشاركين في إدارة الفترة الانتقالية، بادروا بالاستيلاء على السلطة بكاملها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وأزاحوا المدنيين بانقلاب عسكري، بمزاعم فشل المدنيين في تحقيق شعارات الثورة خلال الفترة الانتقالية. زعم الجنرالات، بعد الانقلاب، أنهم سيعملون على تصحيح مسيرة الثورة نحو الحرية والديمقراطية. تُرى من يصدّق عسكريين يحققون ثورة مدنية؟

(4)

بالطبع، لن تنطلِي الحجّة الواهية على الشعب الثائر، ولا على المجتمع الدولي المتعاطف مع رغبات الشعب السّوداني القاصدة تحقيق شعارات الحرية والسلام العدالة، والصابر على مكر الجنرالات. واجه نظام الجنرالات احتجاجات السودانيين بقمعٍ مفرط، أودى بأرواح شهداء عُدّوا بالمئات، وجرحى أصيبوا بالآلاف. لم يكن لمكرهم من حدود، بل قادهم إلى التوسّل لأزلام النظام البائد، ممّن نبذتهم ثورة الشباب للاستقواء بهم من جديد. وضح جلياً لأطراف المجتمع الدولي المتعاطفة مع ثورة السودانيين أن جنرالات السودان مراوغون، فمالت أطراف كبرى في المجتمع الدولي إلى إجبارهم للرّضوخ لرغبات شعبهم، كما هدّدتهم بتجميد العون الذي تعهّدت بتقديمه للسودان الصناديق الدولية والمبادرات الساعية إلى إلغاء مديونياتٍ تجاوزت الستين مليار دولار، فما أجدى ذلـك كله فتيـلا. لم تتزحزح الإدارة الأميركية عن موقفها في مناهضة الإنقلابيين والمناداة بحكم مدني ذي مصداقية في السودان. إلى ذلك، أعلن الكونغرس رفضه انقلاب الجنرالات، وهدّدهم بملاحقات وعقوبات فردية لقادته الرّافضين الحكم المدني في البلاد.

(5)

بقي الجنرالات على عنادٍ مرضي، فيما شباب الثورة لا يكلّ عن مناهضتهم ومحاصرة سياساتهم، فيما أخذت قدراتهم في إدارة البلاد تتهاوى يوماً بعد يوم، فلم يعُد من بطاقةٍ بأيديهم سوى الاستقواء، آخر أمرهم، بعناصر العهد البائد وإعادة تمكينهم في جميع مفاصل الدولة. أعاد الجنرالات قضاةً طردتهم الثورة إلى مناصبهم، كما أعادوا الدبلوماسيين والسّـفراء من أزلام النظام البائد إلى مواقعهم. جاءوا بالمصرفيين إلى مصارفهم، وضباط القوات النظامية الذين أدلجهم نظام البشير، أعادوهم إلى مراكزهم، وكأن لم يبق لهم إلا إعادة البشير رئيساً. اتّبع الجنرالات أسلوباً مُمنهجاً لتصفية شعارات ثورة السودانيين وخلخلة مجدها، فلم يعد يرى الناس أو يسمعون من شـعارات الحرية والعدالة والسلام، إلا أصداء تكاد الرياح تذروها.

بلغ الاستعصاء في الأزمة السودانية حدود الانسداد الكامل، لم تفلح المبادرات والوساطات، ولا جهود الميسّرين من هنا وهناك، وفوق ذلك: لا الأمم المتحدة وبعثتها، ولا الاتحاد الأفريقي، ولا منظمة الإيقاد، قد حقق أي منهم شيئا من الفلاح. لم يبقَ من تجليات الأزمة إلا الإنفلات الأمني في الولايات البعيدة وفي العاصمة الخرطوم، وفي عجـز دواوين الدولة عن الحراك، ثم ما بدا من إفلاس القيادة العسكرية المشلولة إلا البحث عن خطط الهروب، والبحث عن الملاذات الآمنة، على نسقٍ جرّبه قبلهم زين العابدين بن علي الذي فرّ من قصر الرئاسة في تونس ليموت بعد سنوات المنفى الاختياري في قصر خاوٍ في السعودية. قبله مات منفيا وفي فصر خاوٍ أيضا جنرال أفريقي اسمه عيدي أمين دادا، رئيس يوغندا المستبد في أواخر سبعينات القرن العشرين.

(6)

راقب السودانيون حراك السفير السعودي في الخرطوم، يسعى من دارته، محاولا، قدر ما تتيح له دبلوماسيته، بذل ما قد يساعد لحلحلة أزمةٍ لا يقدر أحدٌ أن يمسك بقرون وعولها، فيما هو مدركٌ تمام الإدراك ما قد تخبئ الأقدار لجنرالات السودان من مصائر. بدأت هموم الجنرالات تكبر، والعـدّ التنازلي يقترب من يوم الثلاثين من يونيو 2022، إذ شباب الثورة السودانية يعدّ العـدّة لمليونية مفصلية، يقـدّر أن تجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ويرجّح المراقبون أنها المليونية الأخيرة، وأنّ ما بعدها لن يكون كما قبلها.

لن تحمل هذا المقال إشاراتٍ تشي بما يشبه النبوءة، بل هي خاتمةٌ تختزل قراءة ثاقبة لمجمل ما يدور في الخرطوم. ثمّة مساعٍ غربية وأخرى أفريقية، تجاهد، بشقّ الأنفـس، وبقدر من الضغوط، لتحقق اختراقاً في جدار الأزمة السّـميك. ثمّة مبعوثون يتسـابقون إلى العاصمة السودانية، وقـد التقطوا إشـارات شباب السودانيين الثائرين، يريدون لتظاهرات 30 يونيو (2022) أن تكون خاتمة مليونيات الاحتجاج لإزاحة الجنرالات من المشهد السياسي في السودان. ثلاثة من الجنرالات غائبون، أحدهم بعيدٌ عن عاصمة البلاد واثنان خارج البلاد، فهل ذلك الاستعصاء العصيّ مُفضٍ إلى انفـراج؟
///////////////////////////////////

 

آراء