هل يعلم البرهان أن الولاء وحده لا يكفي للهيمنة؟

 


 

 

تكشف إقالة مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لقمان أحمد أخيرا جانبا مهما من لعبة الإعلام المستمرة، ويعتقد بعض المسؤولين أنه بإمكانهم السيطرة على الرأي العام بمجرد إقالة شخص غير مرغوب فيه وتكليف آخر موال لمجلس السيادة الانتقالي، يضع أخبار رئيسه والجيش في مقدمة نشرات الأخبار، بما يوحي بأهمية إعلامية وسياسية كبيرة. عندما اختير لقمان لقيادة هذا المنبر، بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، كانت تلك إشارة إلى أن مرحلة جديدة من الحريات سيشهدها الإعلام الرسمي من واقع خبرته في عدد من المحطات العربية والدولية.وعندما أقيل تلاشت هذه الإشارة وتأكد أن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون عادت إلى حظيرة مجلس السيادة، وهي دلالة معنوية على أن قائد الانقلاب البرهان يفرض قبضته الحديدية على مناحي الحياة المدنية بجانب العسكرية.
وجاء تمسك رئيس الحكومة السابق عبدالله حمدوك بوجود لقمان على رأس هذه الهيئة لطمأنة القوى المدنية أن هناك انفراجة كبيرة في مجال الإعلام الذي لعب دورا مهما في التمهيد لسقوط البشير، والتأكيد على أن هناك مرحلة مختلفة، وهي رمزية سياسية يحاول مجلس السيادة تكريسها والتخلص من ممثليها، فالإقالة خطوة في طريق طويل يريد من وضعوا معالمه استكمال هندسته بالصورة التي تبقيهم في الحكم.
شير الفحوى العامة إلى استمرار نمط التفكير القديم القائم على فكرة امنحني تلفزيونا أمنحك شعبا طيعا، وهي قناعة هدمتها التطورات السريعة في تعدد وتنوع أدوات الإعلام، حيث يستطيع كل فرد أن يصنع وسيلته بنفسه بهاتف نقال لا يتجاوز كف اليد، وأصبحت قبضة الحكومات وقدرتها على التحكم في تدفق المعلومات من القمة إلى القاعدة أقل، فهناك فضاء فسيح يمرح فيه الناس ويحددون خياراتهم بسهولة، لذلك فالعبرة في ما جرى بالسودان تتجاوز إقالة مسؤول كل تهمته أنه كان يتجاهل الأخبار الرسمية أو يضعها في ذيل نشرات الأخبار أو أنه يمنح المعارضة مساحة تطل منها على المواطنين من التلفزيون الرسمي للدولة.
تتعلق العبرة هنا برغبة مجلس السيادة في تدجين الإعلام وردع العاملين فيه والتعامل مع أخبار المؤسسة العسكرية بالمزيد من الاهتمام والتقدير، ما يجعلها مقدمة لإجراءات أخرى أشد صرامة الغرض منها تفريغ المهنة من مضمونها الأخلاقي والسياسي، وأن الولاء أولا وأخيرا للسلطة الحاكمة وليس للمواطن السوداني. يعتقد مجلس السيادة أن القناة الرسمية محل اهتمام ومتابعة من الرأي العام السوداني والعالمي على حد سواء، كنوع من تبرير خطوة إقصاء لقمان، وهو تبرير لا يوحي بجنوح أو إسراف في الخيال، فلا يزال هناك من الجمهور من يتعامل مع الإعلام الرسمي على أنه لسان حال الدولة، وما يتضمنه من قضايا انعكاس صريح لتوجهاتها.
دفع هذا التفكير البرهان إلى ضرورة القبض على زمام الأمور في الهيئة العام للإذاعة والتلفزيون وإزالة انطباع أنه لا يستطيع السيطرة على إعلامه، فوجود لقمان على رأس الهيئة العامة بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي ضد القوى المدنية يعني أن هناك مفاصل حيوية في الدولة بعيدة عن السيطرة. تبدو الإقالة مثالا كلاسيكيا على قتل حامل الرسالة، طالما أنها لم تعجب من وصلت إليه، وأن مسؤولا رفيعا في الإعلام لا يتفق مع توجهات الدولة لن يكون له مكان فيها، وهو الغرض المراد تعميمه لردع كل من يتصور أنه قادر على تغيير الواقع من خلال تقديم محتوى إعلامي لا يتسق مع الأهداف التي يريدها النظام الحاكم. لا أحد يفكر اليوم في الحق والباطل، والصواب والخطأ، والفضيلة والرذيلة، فالإعلام يستطيع إعادة تغليف أي شيء وكل شيء بغلاف لماع ويسوّقه للجمهور، أو بغلاف ممزق وشاحب فيحرقه، ما يدفع الكثير من القادة إلى الحرص على أن يكون الإعلام ضمن الوسائل الرئيسية التي يسعون لإحكام هيمنتهم عليها بشتى الطرق.
يستريح القادة الذين ينحدرون من خلفيات عسكرية إلى وجود موالين لهم في الإعلام، يتلقون التعليمات وينفذونها بلا مناقشة أو حتى تفسيرات، من دون النظر إلى المدى الذي يمكن أن تحققه هذه الطريقة في الإدارة أو مراعاة ما وصلت إليه التكنولوجيا من تطورات تقلل درجة التأثير الذي تحدثه الطريقة التقليدية في الإعلام.تؤمن القيادات التي قفزت على السلطة في ظروف الثورات والانقلابات أن الاستحواذ على الإعلام المحلي أولى خطوات البقاء في السلطة، ولا يخشى هؤلاء كثيرا استهدافهم من جانب الإعلام الأجنبي الذي لا يملكون سيطرة أو نفوذا عليه، ويتعاملون معه وكأنه ينسج مؤامرة محكمة على الدولة، وهو الدور المنوط بالإعلام المحلي القيام بالتشويش عليه وإرباك المضمون الموجه إلى الداخل.
يختار مسؤولون كبار في دول عربية عناصر غير موهوبة عمدا يعلمون أن ما يقومون به لا توجد له مردودات حقيقية على الأرض، ويضر بالنظام نفسه أحيانا، عندما يكون مطلوبا أن تتصدر هذه النوعية المشهد، ليفقد المواطنون أو شريحة منهم الثقة تماما في العاملين بالإعلام مع أو ضد الدولة. تحمل هذه الرسالة الخبيثة تقديرا يشير إلى أن السيطرة التامة عملية مستحيلة، والأسهل تخريب المهنة وتشويه صورة قطاع كبير من العاملين فيها ليتسنى تفريغها من القيم النبيلة التي تنطوي عليها وإثارة اللغط والفتن في أوساط الجماعة الإعلامية. بات وجود مسؤول قوي متمرس ونزيه ومعجون في الإعلام هدفا غير مرغوب فيه من قبل بعض القيادات ، ولو كانت ميوله منسجمة مع القيادة السياسية، لأنه في لحظة ما يمكن أن يقول لا، وقد لا يتعرض هؤلاء لمضايقات مباشرة من السلطة، لكن لا تسند إليهم مسؤوليات محددة تعكس فلسفتها، فوجودهم على حالتهم هذه يمكن أن يحرف الدور الذي تقوم به المنظومة الفاسدة عن مسارها. تظل لعبة الإعلام في السودان، بالصورة التي كشفت أبعادها الإقالة، نموذجا مصغرا لما يجري في دول عدة من نظرة قاصرة ورغبة في الاستحواذ بلا أفق حقيقي سوى البقاء في الحكم، بزعم أن من يسيطر على الإعلام يسيطر على عقل الشعب وقلبه.
وربما يريح رحيل لقمان أحمد رئيس مجلس السيادة في عملية تغطية أخباره وترتيبها ويقوض ظهور معارضيه على التلفزيون، لكن يمكن أن يتحول إلى باب تدخل منه المزيد من الرياح السياسية عندما يتيقن الجنرال البرهان أن الولاء له لا يكفي للهيمنة.

mido34067@gmail.com
///////////////////////

 

آراء