هموم دارفورية؟

 


 

 


(3/3)

helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية

هذه هى الحلقة الثالثة والأخيرة فى سلسلة هذا المقال, ومع ذلك فقد أكتظ بريدى الإلكترونى بمناشدات عديدة من بعض أبناء وبنات دارفور يطالبوننى بشدة أن أستمر فى كتابة هذه الحلقات لتنبيه أهل دارفور, فى المقام الأول, بنوع وطبيعة التحديات والمشاكل التى تتناوم الآن تحت السطح تنتظر دورها لتفتك بهم مستقبلاً إن لم يهيؤا أنفسهم بعد ويتحسبوا لها بعد تجاوز هذه المحنة العصيبة. وبالرغم من إمكانية إستمرارى فى الكتابة, خاصة وأنَّ الأخبار المؤسفة ظلَّت تصلنا بإستمرار من داخل الإقليم ومن أناس مجهولين, إلاَّ أنَّنى ظللت دائم الإشفاق على مصير هذا الموقع الجميل من جنجويد مسؤولى الإعلام الذين تعلموا من وكلائهم جنجويد الموت والخراب كيف يفتكون بكل شيئ جميل حتى ولو كان ذلك معلقاً فى خيوط شبكة الإنترنت, فأخوك كم زيَّنوه ...! وبالرغم من أنَّ الأخ طارق الجزولى يتسع صدره لكل ما نكتب, ونعلم أنَّه يتحمل فى ذلك أذىً كثيراً وصمتاً نبيلاً فيجدر بنا أن نراعى ذلك "وما نلحسو كلو"! وعلى العموم فإنَّ أكثر ما آلمنى من الرسائل التى إستلمتها مؤخراً تلك التى أرسلتها لى أخت من دارفور مقيمة الآن مع أسرتها فى ضواحى الخرطوم قالت فيها إنَّ جميع أفراد قريتها التى نشأت فيها قد لاقوا حتفهم على أيدى الجنجويد وأنَّها كانت محظوظة إذ لم تكن موجودة بالقرية فى تلك الليلة المشؤومة, وقالت إنَّها علمت من الذين تمكنوا من الهرب من جحيم ذلك الهجوم الصاعق أنَّه لم يستمر لأكثر من ساعة واحدة إختفت القرية على أثرها تماماً, بما فيها ومن فيها, إلاَّ المحظوظين الهاربين من مهلكة الموت. مثل هذه المناظر, التى عاشتها تلك القرية الوادعة, وعاشها أطفالنا ونساؤنا وإخواننا من الشباب والرجال, سوف لن تنمحى أبداً من ذاكراتهم وستظل عالقة بها ما بقوا على قيد الحياة, ولذلك تخطئ الحكومة خطأً كبيراً إذا إنحصر همَّها فقط فى تبرئة نفسها أمام المجتمع الدولى من الإتهامات الماثلة أمامها, فمثل هذه الأخت الكريمة وغيرها من الذين رأوا الحوادث بأمِّ أعينهم مَنِ الذى سيقنعهم ببراءة الحكومة وأعوانها خاصة بعد أن بدأت الحقائق تتكشف رويداً رويداً, ويتعرى المستور أمام مرآة المجتمع العالمى, وتتبدى الأسماء التى ظلَّت تحرك خيوط الفتنة من وراء ساترة المسرح, ثمَّ أى حكمة تلك التى تجعل الحكومة تهتم بمظهر جميل خادع أمام المجتمع الدولى بينما تطاردها اللعنات من شعبها داخل وخارج حدودها السياسية؟ إنَّ الكرة الآن فى ملعبها بجانب إستحقاقات واجبة ولن يجديها الإنكار فى شيئ.

7
وحدة أهل دارفور:

تظل كلمة السر فى سعادة أهل دارفور أو شقاؤهم تتمثل فى كلمة واحدة هى "الوحدة", هذه الكلمة السحرية هى المبتدأ والمنتهى لكل قضايا دارفور, إذا صلُحت صلُح بها حال الناس هناك وإن فسدت فستنقلب حياتهم جحيماً مثلما نرى, ولذلك ظلَّت وحدة أهل دارفور هى الجهة التى يأتى منها الحذر دائماً ومن نافذتها تهب عليها دائماً كل مشاكلها, وبمراجعة سريعة للتاريخ نجد أن معظم القوى الخارجية التى حاولت السيطرة على الأقليم بدأت بسياسات تهدف لشق وحدتها من خلال إستمالة بعض العناصر القبلية وتجييرها لمقاتلة قبائل أخرى, وحتى الثورة المهدية لم تتمكن من السيطرة على الأوضاع فى دارفور بصورة كاملة إلاَّ بعد حروبات كاسرة مع معظم القبائل الكبيرة حيث كانت قيادات جيوش الدولة المهدية هم من نفس أبناء الإقليم يقاتلون أهاليهم بدعوى الحفاظ على وحدة الدولة والدفاع عن الدين, ثمَّ نكتشف لاحقاً أن الإنجليز عندما تحركوا من كردفان صوب دارفور لإحتلالها عام 1916م فإنَّ أول ما بادروا به هو إستمالة بعض القبائل فى جنوب دارفور لمناوشة السلطان والخروج عن طوعه وفتح جبهة أخرى للحرب ضده من الجهة الجنوبية, بينما يتقدمون هم من الجهة الشرقية, وهى نفس الخطة التى نفذها قبلاً الإحتلال التركى المصرى لدارفور عام 1874م عندما تحرك الزبير باشا من الجنوب وتقدموا هم من جهة كردفان إلى دارفور عن طريق أم شنقة, وربما يكون ذلك هو نفس الخطة المطبقة الآن فى تفتيت الإقليم وأهله, إى إستمالة بعض أهل الإقليم ضد إخوانهم فى القسم الآخر, ويتبين ذلك من خلال مشاهدة تكالب متنفذى السلطة الحاكمة على ولاية جنوب دارفور, خاصة النائب الأول, ففى حين أنَّه ظلَّ يطلق لسانه فى حق أهالى شمال دارفور بما يشاء من طاعن القول فإنَّه فى نفس الوقت يغدق معسول الكلام والوعود البرَّاقة بالتنمية والتطور للأهالى بنيالا, غير أنَّ لسان حاله حقيقة يقول لهم "كونوا معانا وحقَّكم محفوظ"! والهدف واضح وهو تطبيق سياسة فرق تسد.

وطالما أنَّ الأمر كذلك يكون من أوجب الواجبات على أهل دارفور الإهتمام بهذا الجانب المصيرى فى حياتهم, جانب الوحدة, ولقد وجدتُ من خلال دراسة أقوم بها قبل فترة عن الإدارة الأهلية فى دارفور, لم تكتمل بعد, أنَّ أهل دارفور ومنذ وجودهم على أرض الإقليم, ورغماً عن تقلب الممالك والسلطنات التى حكمتها خلال أكثر من الألف سنَّة لم يحدث بينهم حروبات حملت أى طابع عنصرى أو رغبة فى إنهاء الآخر وما يحدث الآن شيئ مستغرب, وأنَّ معظم الخلافات والإحتكاكات القبلية ظلَّت تحت سيطرة أجاويد الإدارة الأهلية الذين تمكنوا من المحافظة على تراث خالد فى ضبط نسيج المجتمع وحركة القبائل, ولما إنفرط حبل تلك الإدارة, بفعل التدخل الخارجى أيضاً, تفرقَّت قبائل الإقليم فى إتجاهات شتى كما حبات المسحبة المبهولة, فكانت هذه المآسى. ولعلَّ الخروج من هذه الأزمة يستدعى أول ما يستدعى العودة للجذور, متمثلاً فى الوحدة, ليس من باب الحديث السائب والتمنيات المعسولة وإنَّما من خلال برامج نافذة تكون مباشرة وواقعية ومستمدة من جذور ثقافة أهل الإقليم وتراثهم الخالد فى التعايش السلمى, وربما يكون من المفيد هنا أن نطرح شيئاً من هذه المداخل علَّها تساهم فى الولوج مباشرة فى تحقيق هذا الهدف:

* يجب على المثقفين والواعين من أهل الإقليم أن يعلموا جيداً أنَّ إطالة التفكير والإستغراق فى صلب المشكلة القائمة الآن سوف لن تساعد على توفير أى حل مناسب, لكن ذلك لا يعنى بأى حال من الأحوال تجاوز المظالم والآلام التى تسببت فى هذه الكارثة التى هم فيها اليوم, إنَّ متنفذى الحكومة عندما يطالبون بتناسى مرارات الماضى قد لا يفهمون أنَّ ذلك شيئ شبه مستحيل تحت هذه الأجواء المكهربة إن لم يبادروا هم بأنفسهم تقديم طلبهم ذاك فى شكل مقبول. إنَّ حل مليشيات الجنجويد, ومحاكمة قياداتهم والعصاة منهم, والسماح بإجراء تحقيق دولى فى طبيعة المجازر التى إنتهكت أرواح الآلاف من الناس, وتقديم المتورطين من مسؤولى الدولة, أياً كانوا, إلى محاكم عادلة ثم تعويض المتأثرين بهذه الأحداث لهو الوعاء المناسب التى يمكن أن تدس فيها الحكومة رجاءاتها بضرورة تجاوز المرارات, وعليها أن تعلم أنَّه بدون ذلك فسوف لن يجد صوتها وقعاً فى وعى الأهالى, ثمَّ إنَّ محاولة إخفاء الجنجويد فى أى صور وأشكال جديدة سوف لن تنطلى على أحد, فالناس فى دارفور يعرفون بعضهم جيداً, وجملة واحدة من حديث أى شخص قد يكون كافياً لتحديد قبيلته ومنطقته فى دارفور. وبناءاً على كل ذلك يجدر بأهل الإقليم, خاصة الواعين والمثقفين, حمل لواء الوحدة على أن يبدأوا بقبائلهم ومناطقهم أولاً, ثمَّ تجتمع قبائل كل منطقة لتمتين العلاقات بينها, ثمَّ ينداح ذلك تدريجياً ليشمل كل مكوِّنات الإقليم وبشرط أن يكون ذلك بعيداً عن هيمنة الحكومة ومؤامراتها.
* تظل الإدارة الأهلية العامل الرئيسى الحاسم فى مسألة وحدة أهل الإقليم, ومما يفسر أهمية الإدار الأهلية فى حياة أهل دارفور هو أنَّهم, وطوال فترات تاريخهم الطويل, ظلَّوا حريصين وبوجه خاص على عدم المساس بهياكل هذه الإدارة, وحتى عندما إنتهى عهد السلطنة ظلَّت الإدارة الأهلية راسخة بل وتصاعد دورها بعد العناية الكبيرة التى أسبغتها عليها الإدارة الإنجليزية, ومن أجل ذلك يجب أن تعود الإدارة الأهلية وبصورة أكثر قوة وكفاءة وأن تكون مبرأة من الغرض السياسى, والذى يمثل السبب فى كل ما يحدث الآن. إضافة إلى ذلك يجب أن تتطور الإدارة الأهلية أيضاً بما يتناسب مع تطور عامل الزمن, وأن يتم ضخ بعض الأفكار الذكية كقيام البرلمان الأهلى كوعاء إستشارى لكل قبائل الإقليم, كل قبيلة ممثلة بزعيمها فقط, وتكون لها أمانة دائمة مقرها مدينة الفاشر, العاصمة التاريخية لدارفور, وتجتمع مرتان فى السنة على الأقل لمناقشة القضايا الخاصة بالقبائل وتمتين وشائج التعايش السلمى بينها. قيام مثل هذا المجلس أو البرلمان يجب أن يتم بمبادرة من أهل الإقليم ويمكن الإتفاق على لجان أهلية محايدة لوضع تصورات مختلفة يتم نقاشها فى مؤتمرات قاعدية ثمَّ تُستخلص منها التصور الذى يحظى بإتفاق غالبية القبائل.
* يجب الإعتراف بأنَّ القبائل والجهويات فى السودان, ومعظم الدول الأفريقية, هى من الحقائق الإجتماعية التى يجب إستصحابها فى إدارة المجتمع وضبط حركته, ومن المفيد مساعدة القبائل فى تفجير طاقاتها الكامنة وتوجيه ذلك بطريقة سليمة مع مراعاة ضبطها بما يخدم المجتمع العريض وتقريب الناس بمختلف قبائلهم بعضهم ببعض, ولعلَّ تطويرالجانب الإقتصادى فى تفكير وحركة القبائل يأتى فى أولوية الأفكار التى يمكن أن تشكل محوراً هاماً فى تأليف قطاعات المجتمع بدارفور, وقد سبق لى أن تحدثت مع بعض الأصدقاء من أبناء الزغاوة, وهم بيوت وبطون وممالك شتى فى دار الزغاوة بشمال دارفور, عن مدى إمكانية قيام مؤتمر جامع لأبناء هذه القبيلة الكبيرة يكون هدفه رفد الجانب التنموى بمناطقهم من خلال تنشيط المبادرات والمشاريع الإقتصادية المتوافرة هناك, أو إستحداثها إن لم تكن موجودة, مثل هذه الأفكار التطبيقية تجمع الناس بمختلف إنتماءاتهم القبلية لأنَّ فيها منافع ومصالح لهم, ومع تطور مثل هذه الأفكار وتزايد نسبة التعليم والإعلام الإيجابى والتداخل المحلى والخارجى, خاصة وأنَّ المنطقة تجاور دولتين وليست ببعيدة عن مصر, فإنَّ درجة الحساسية القبلية تتراجع تدريجياً مفسحة المجال للتنافس الشخصى وتأكيد الذات كما نعيشه الآن فى العالم المتحضر. مثل هذه الأفكار يمكن أن تنطبق على قبائل البقارة فى جنوب دارفور خاصة وأنَّ ثرواتهم الحيوانية أصبحت لها موقعاً مميزاً ضمن الصادرات القومية, لكنها ومع ذلك تحتاج لتطوير فى مجالات عديدة, وينطبق نفس الشيئ على قبيلة الفور ومحيطها فى, و حول, جبل مرة ووادى صالح واللتان بإمكاناتهما الطبيعية الهائلة يمكن أن تكونا أكبر منتجتين للفواكه بأفريقيا, وكذلك ينطبق الحال على المساليت والتاما والقمر فى غرب دارفور, وعلى البرتى والزيادية والميدوب فى شمال وشرق دارفور, خاصة وأن بلدات مثل مليط واللعيت صارتا منذ فترة السبعينات من القرن الماضى من أهَّم المدن التجارية بالإقليم. خلاصة الأمر هى أنَّ دارفور بحاجة فى المرحلة القادمة إلى "الأفكار الذكية" فى مجال التنمية الإجتماعية والتنموية والإقتصادية, ولا بد أن يتم ذلك بإندفاع وقوة يتلاقى فيها الجهد الحكومى بالجهد الأهلى, والتدفقات المالية الدولية بالتغطيات المالية المحلية, وعندما يتنافس المتنافسون حول ذلك فسينبلج واقع جديد مختلف, نأمل أن يكون صحيَّاً ومعافى, لأنَّ لكل وضع أزماته ومشاكله لكن تتوقف درجة ذلك على كيفية تخطيط الأسس المبدئية التى ترتكز عليها مثل هذه الأوضاع الجديدة.
* وأخيراً, أصبح أبناء دارفور المنتشرين حول العالم يمثلون تياراً مؤثراً فى تحديد مسار ومستقبل الإقليم ولا يمكن تجاوزهم فى ذلك بأى حال من الأحوال, وقد لا نبالغ إن قلنا أنَّ إمكانية خروج الإقليم من أزماته الحالية يتوقف عليهم بدرجة كبيرة, فبجانب الوعى والتعليم والخبرات التى إكتسبوها فى منافيهم المختلفة ظلَّوا قريبين رغماً عن بعدهم من معاناة أهاليهم بدارفور, بل وساهموا مباشرة فى تصعيد قضية دارفور إلى أعلى المستويات العالمية كما هو مشاهد. ومن الإيجابيات الهادفة لوحدة أهل دارفور فإنَّ أبناء دارفور بالخارج ظلوا, ومنذ وقت مبكر قبل تصاعد هذا النزاع بالإقليم, يكوِّنون روابط وإتحادات قطرية جامعة بإسم "أبناء دارفور", محققين بذلك وحدة وجودهم بالخارج, بجانب جهود موازية لتكوين رابطة عالمية جامعة تتناول المسألة الدارفورية بطريقة منهجية وتضعها فى قالب إستراتيجى أساسى وشامل. قيام مثل هذه الرابطة العالمية, بجانب تجمع روابط طلاب دارفور بالجامعات والمعاهد العليا السودانية, وتجمع شبكة دارفور للعمل والنشاط الإنسانى, وتجمع اللجان الشعبية لتنمية دارفور, ثمَّ إعادة نظام الإدارة الأهلية على أساس وحدوى كلها سمات إيجابية لتحقيق الوحدة المنشودة, وبإستكمال بناء مثل هذه الكيانات, بجانب قيام الحكومات الولائية النزيهة والمنتخبة ديموقراطياً, يمكن التعامل بينها بسلاسة وثقة لفائدة إنسان الإقليم ومستقبله ولترسيخ مفاهيم الوحدة وتأمينها من أى محاولات إختراق خارجى.

8
إعادة تأهيل بيئة دارفور:

تشير معظم التقارير المتعلقة بالنزاع فى دارفور إلى أنَّ أساس المشكلة القائمة الآن يتمثل فى الصراع على الموارد الطبيعية المحدودة والتى نتجت بفعل التدهور البيئى الذى ضرب الجزء الشمالى من الإقليم نتيجة لموجات الجفاف والتصحر فى العقود الثلاثة الأخيرة, وبالرغم من صحة هذه المقولة إلاَّ أن أسباب أخرى موازية لا تقل خطورة عنها قد ساهمت بدرجات مختلفة فى تفجير النزاع بصورة أشد عنفاً كما هو مشاهد وقد فصَّلنا ذلك فى مناسبات أخرى, لكن ما يهمنا هنا هو ضرورة التنبيه لمعالجة الخطر البيئى بالإقليم, وسيظل جزء كبير من المشكلة بدارفور قائماً طالما ظلَّ التدهور البيئى على ما عليه من إستمرار. ومن المؤسف أنَّه عندما تتحجج الحكومة بأنَّ أسباب الصراع هى الإحتكاكات المستمرة بين الرعاة والمزارعين فإنَّها فى ذات الوقت لا تفعل شيئاً إيجابياً لمعالجة تلك الأسباب وتجفيف بؤر الصراع الذى ينتج منها, إنَّ مجرد إنشاء مشروعات قليلة لتوفير للمياه كحل لتلك النزاعات لا تكفى ولا تعالج القضية من أساسها, وإنَّما المطلوب وضع وتنفيذ إستراتيجية طويلة المدى لمعالجة كافة الإختلالات والتشوهات البيئية ليس فى إقليم دارفور فحسب وإنَّما فى بقية الأقاليم الأخرى بالسودان. إنَّ المدخل السليم فى هذه الناحية يتمثل فى محاولة إعادة تأهيل البيئة عبر طرق وخطط علمية مدروسة وتوفير بدائل مناسبة للطاقة تغنى المواطنين عن الإعتماد على الحطب والفحم النباتى كوقود أساسى للطبخ والتدفئة والإنارة فى كثير من المنازل والخلاوى والفرقان. ولذلك فإنَّ برامج إصلاح البيئة وإعادة تأهيلها تنطلق دائماً من جملة مفاهيم مجربَّة يتمثل أهمِّها فى الآتى:

(1) إنَّ عملية تأهيل البيئة والحفاظ على تجددها تعتمد بدرجة كبيرة على الإستمرارية والمتابعة والعامل الزمنى, ولذلك فهى ليست مشروعات محدودة بمدى زمنى معيَّن بل على العكس تظلُّ مشروعات إستراتيجية طويلة المدى يقع مراعاة تنفيذها على كل قطاعات المجتمع والدولة بجانب التخطيط العلمى السليم.
(2) عمليات التأهيل لا تشتمل على تطوير الموارد الطبيعية فحسب, مثل التشجير وتوفير مصادر المياه, بل تعتمد على جملة من السياسات والتشاريع القانونية التى تحد من التعامل الجائر مع الطبيعة, بجانب الوعى الشعبى من خلال وسائل الإعلام والتثقيف البيئى ومناهج التعليم المدرسى.
(3) فى البلدان النامية, والسودان فى قعر قائمتها, يجب أن يكون الحد أو التقليل من الإعتماد على الإشجار كمصدر أساسى للحصول على الطاقة هو الهدف الرئيسى فى برامج تأهيل البيئة, والسبب منطقى هو أنَّ تقليل إستخدام الفحم والحطب سيعطى الطبيعة فرصة لإلتقاط أنفاسها وإعادة نمو الأشجار وتجدد الغطاء النباتى الأخضر.
(4) إنَّ الدمار غير المنظور الذى يحدثه التدهور البيئى هو دمار هائل بحيث يستحيل تقديره مادياً, فعملية التصحر مثلاً إن لم يتم التعامل معها بطريقة علمية وعملية فإنَّها ستلتهم الأراضى الزراعية الخصبة فى مساحات شاسعة بلا رحمة وتحيلها إلى خراب, بجانب أنَّ إنحسار الموارد الزرعية وتناقص معدلات إنتاج الحبوب يؤدى إلى المجاعات وتُمزِّق النسيج الإجتماعي بالهجرات والفرار من المناطق المتأثرة, إضافة إلى خلق إشكالات جديدة فى مناطق النزوح نتيجة لإكتظاظها بالسكان وتنافسهم على الموارد المحدودة, ثمَّ إنَّ إختفاء الأشجار أو الغطاء الأخضر يؤدى مباشرة إلى تفكك التربة وتعريتها من العناصر المعدنية الخصبة للزراعة فتتحول الأراضى إلى بلاقع جرداء فقير القدرة على الإنتاج الزراعى, ومن المعلوم أيضاً أنَّ توفر الغطاء النباتى يساعد على هطول الأمطار ويؤثر فى سيكلوجية المجتمع بما توفره من راحة للنفس وإطمئنان بأنَّ الحياة تسير على مايرام.
(5) تظل عملية التشجير وإستزراع الأشجار والنباتات الخلوية هى محور عملية التأهيل البيئى ويحتاج ذلك إلى تفريغ علماء وباحثين للقيام بذلك, بجانب تخصيص ميزانيات مالية كافية لتنفيذ البرامج المختلفة, ومهما بلغت قيمة هذه المتطلبات المالية فإنَّها سوف لن تساوى قطرة فى بحر الخسائر الكارثية التى ستصيب المجتمع فى حال عدم توفيرها لمعالجة الكارثة المتشكلة.

ولذلك فإنَّه بسبب دورات الجفاف والتصحر التى ضربت أجزاء واسعة من إقليم دارفور فقد تدنت إنتاجية الأراضى الزراعية فيها بحيث أصبحت لا تلبي معه الإحتياجات الأساسية للسكان من الغذاء والمراعى، وقد إنعكس ذلك ليس على معيشة الأسر في الريف فحسب، بل وعلى القدرات المالية لمؤسسات الحكم أيضاً، مما إنعكس سلباً على مقدراتها في إدارة شؤون المواطنين من توفير للخدمات الضرورية ودفع المرتبات وغير ذلك, والمحصلة النهائية فى مجملها هى ضمور فى الموارد المتاحة وإهتزاز في الأوضاع المحلية وإختلال فى المجالات الأمنية تجسد في عدم الإستقرار والبطالة وإفرازات النهب المسلَّح، إضافة إلى معدلات الهجرة العالية خاصة في المناطق التي تعاني من حدة الظاهرة مثل شمال دارفور، ونتيجة لذلك فقد توجهت معظم الهجرات إلى المدن والبلدات الكبيرة وأدت إلى ظاهرة ترييف البيئة الحضرية بكل ما في ذلك من معطيات سالبة, وعليه فإنَّ الحاجة تفرض النظرة المستحدثة والتفكير الإيجابى للتعامل العلمى والمنطقى مع كارثتى الجفاف والتصحر فى دارفور بتصميم ووعى كاملين بمخاطرهما على أوضاع الإنسان والحيوان معاً, ومعالجة التفاعلات المختلفة التي يحدثها على مختلف الأصعدة الأجتماعية والحكومية مما يتطلب وضع إصلاح البيئة كأسبقية في السياسات الموجَّهة نحو حل الأزمة فى دارفور وجعلها أكثر إستدامة.

ولعلَّنا نجد فى تراث الحكم الإنجليزى بدارفور فى فترة الإستعمار ما يفيد بجدوى التخطيط الإدارى الذكى الذى قد يستفيد من حركة المجتمع فى تأهيل بيئته والحفاظ على تجدد موارده الخضراء, فقد كان المفتشون الإنجليز بنيالا, مركز جنوب دارفور فى ذلك الوقت, يحرصون على جمع أكبر قدر من بذور الأشجار والنباتات الخلوية ويقومون بتخزين الأطنان منها إنتظاراً لفترة نزوح قبائل البقارة جنوباً عقب إنتهاء فصل الخريف, هؤلاء يسيرون ببطء مع أبقارهم يتبعون المراعى ومصادر المياه ويتوغلون بسبب ذلك, وما يزالون, إلى داخل أدغال جنوب السودان وأفريقيا الوسطى, هذه المسيرة الهادئة الضخمة تأخذ شهوراً للبلوغ إلى نهاياتها وبإقتراب فصل الخريف من العام التالى تبدأ تلك القبائل فى النزوح تدريجياً فى الإتجاه العكسى إلى الشمال هرباً من الأمطار الغزيرة والحشرات المؤذية. وعلينا أن نتخيل كيف إستفاد المفتشون الإنجليز من إستغلال تلك التحركات السنوية جيئة وذهاباً وتسخيرها لصالح إصلاح البيئة, فقد كانوا يوزعون على الرعاة من أفراد تلك القبائل كميات كبيرة من البذور مع إرشادات محددة فى كيفية نثرها أثناء غدوهم ورواحهم, لقد أخبرنى شيخ من جنوب دارفور أنَّ تلك السياسة التى إتبعها الإنجليز كانت هى السبب الرئيسى فى منع التصحر من التمدد إلى جنوب دارفور بسبب كثافة الغطاء النباتى, وإذا كان ذلك قد حدث قبل أكثر من ستين أو سبعين عاماً فما المانع من أن يحدث الآن أيضاً وبصورة أكثر تطوراً مثل نثر البذور بالطائرات مثلاً؟

لقد أثار عضو الجمعية التأسيسية فى عهد الديمقراطية الثالثة النائب محمد إبراهيم نقد مسألة نثر البذور بإستخدام طائرات الرش فى أرجاء مناطق شمال السودان المتصحرة, أو التى باتت عرضة للتصحر, وذلك أثناء خريف وفيضانات عام 1988م الشهيرة, والتى سالت خلالها الأودية حتى داخل جمهورية مصر, ولكن نسبة لإنشعال السياسيون بسفاسف الأمور إضافة لعدم تنامى الوعى الرسمى والشعبى بأهمية البيئة فقد فاتت على البلد فرصة نادرة لإعادة تأهيل مصادرها البيئية. لقد كانت الأرض فى ذلك الموسم المطير مبتلة ومشبعة بالرطوبة أعلى بكثير من المعدلات الطبيعية الشيئ الذى كان من الممكن معه تشجير, أو "تنبيت", مساحات كبيرة من الصحراء, وعلى الرغم من مرور عدة مواسم مطيرة منذ ذلك العام إلاَّ أنَّ الدولة ما زالت عاجزة عن القيام بالتخطيط السليم لرعاية البيئة بالرغم من إنشاء وزارة للبيئة وقيام عدة كليات ومعاهد جامعية وجمعيات بيئية تهدف كلها لمعالجة قضايا البيئة السودانية. لقد أوردت صحيفة الرأى العام تقريراً أشارت فيه عن أنَّ 13 ولاية فى شمال السودان تعانى من الزحف الصحراوى (الرأى العام 10/8/2003م), وأبرزت فيها جملة من الإفرازات الخطيرة التى تستصحب ذلك خاصة في المجالات الإنتاجية، والإقتصادية، والإجتماعية، والجغرافية, وخلص التقرير إلى أنَّ مشكلة التصحر تمثل كارثة حقيقية, خاصةً وأنَّ السودان لا يزال بلداً زراعياً ترتبط نظم إقتصاده المحلي بما تنتجه الأرض، سواء أكان ذلك في مجال الزراعة، وتربية الحيوان، أو الأنماط الأخرى المصاحبة, وتركزت إقتراحات الحلول التى وردت فى ذلك التقرير إلى ضرورة إحداث تنمية تلبي على المدى المتوسط الإحتياجات الأساسية للسكان، وأنَّ تفصيل مثل هذه السياسات يحتاج إلى مقومات منها إنتهاج الأسلوب العلمي في تقييم الأوضاع الراهنة للولايات المتأثرة بالتصحر، وتحديد المعالجات في الجانبين البيئي والتنموي لإنفاذ السياسات على المستويات المحلية والولائية والقومية, بجانب الإلتزام بالتمويل, والتنسيق الأمثل ما بين السياسات القطاعية لوزارات الموارد الطبيعية المختلفة كالزراعة، والغابات، والثروة الحيوانية، والري، والبيئة والتنمية العمرانية، والتعاون الدولي، وسياسات منظمات الأمم المتحدة التي تشمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، ومنظمة الزراعة والأغذية العالمية، والآلية العالمية للبيئة، ومنظمة إيقاد، والمنظمة العربية للتنمية الزراعية والصناديق المانحة ومنها البنك الدولي، وبنك التنمية الاسلامي، وبنك التنمية الافريقي، والمنظمات الطوعية العاملة بالقطر، الأجنبية منها والوطنية، فكل هذه الجهات يجب التنسيق بين سياساتها المطروحة عن طريق إستحداث آليات يتحقق بواسطتها قدر من توحيد الجهود نحو أداء أفضل لمكافحة التصحر, كما أكد التقرير أيضاً على ضرورة الإهتمام بالعنصر البشري كعامل أساسي وراء التصحر بتأكيد شراكته في إستنباط الحلول، وصياغة البرامج، وتنفيذها، بتنظيمه وتقوية مؤسساته المجتمعية, وتحويل السياسات إلى برامج تقوم على نسق يربط بين التنمية وصيانة الموارد الطبيعية ويتطلب ذلك أن يكون للحكومة دور ريادي في إدارة النشاطات ببلورة سياسات عملية وهيكلة الأجهزة التنسيقية وتقييم ورصد ومتابعة أداء السياسات بما يحقق الأهداف المطروحة, وعن طريق ذلك يتحقق التكامل بين سياسات مكافحة التصحر وبرامج التنمية الكلية من صيانة الموارد وتنميتها بصورة مستدامة، وتلبية إحتياجات السكان بتوفير الغذاء، وتحسين الدخول، وتحقيق معدلات إنتاجية أعلى، وبناء المصادر المالية لمؤسسات الحكم القاعدية من محليات وولايات، وتوفير الصرف على الخدمات مما يرفع من أدائها.. وكل ذلك فى النهاية سيؤدي إلى إستقرار المجتمعات، ومكافحة الفقر، وتحقيق معدلات أعلى من الرفاهية.

ومن الإيجابيات التى لا بد أن نوردها فى مسألة الوعى البيئى بالسودان ومحاولة إعادة تأهيلها تتمثل فى الرغبة العارمة لبعض المهتمين والعارفين بأهمية أمر البيئة على فعل شيئ, فقد نشرت الصحف قبل أكثر من عام مضى قيام منظمة بيئية بإسم "كردفور" (إختصاراً لكردفان دارفور) تبنَّت برنامجاً لتشجير مساحة 20 ألف ميل مربع, فى قطاع بطول ألف ميل وعرض عشرين ميل, يمتد من شمال دارفور مروراً بشمال كردفان ومناطق شمال الخرطوم إلى أواسط كسلا وتخوم جبال البحر الأحمر, وقد عقدت تلك المنظمة مؤتمراً صحافياً بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم لكن لم نسمع عنها شيئاً بعد ذلك, ونخشى أن تكون قد إنهارت مثلها ككل الأحلام الجميلة فى سودان اليوم.

وحتى يمكننا إستثمار كل هذه المداخل والأفكار للتصدى لكارثة الجفاف والتصحر بدارفور فإنَّه ينبغى تطبيق برامج عملية محددة لتأهيل البيئة فى تلك المناطق نجمل بعضها فى النقاط التالية:

* تكثيف إستخدام البوتجاز والكيروسين (الجاز الأبيض) لمقابلة الإستخدام المنزلى فى مدن وقرى دارفور, ومن المناسب إستخدام مواقد الجاز الأبيض فى عمليات الطبخ بجانب الإنارة خاصة فى المناطق الريفية, فمعظم مثل هذه المناطق فى دول الخليج مثلاً تستخدم هذه المواقد, وهى ذات أحجام مختلفة يتناسب كل حجم مع طبيعة الأستخدام المطلوب, ويمكن للحكومة تشجيع إستيراد مثل هذه المواقد بإلغاء الجمارك عليها ودعم وقود الكيروسين إضافة إلى زيادة إنتاجها فى المصافى السودانية, إذ أنَّ إنتاجها بكميات كبيرة ليست مجدية إقتصادياً للمصافى البترولية ولكن يمكن تلافى ذلك عن طريق تقديم بعض المغريات والتحفيزات (incentives) الإقتصادية الهادفة.
* تشجيع عدم إستخدام الفحم النباتى والحطب فى الإستخدام المنزلى والمطاعم وإصدار قوانين يحظر كلياً إستخدام "جدول" الأشجار فى حرق الطوب الحرارى, ويمكن إدخال أفران الطوب الحرارى الحديث التى تعتمد على البوتجاز أو الجازولين فى عملية الحرق, بجانب تشجيع إستخدام بلوكات الأسمنت.
* وضع برنامج طموح للتشجير (forestation), وإستحداث التشجير فى المناطق غير المشجرة من قبل (afforestation), وإقامة المحميات الطبيعية, ونثر البذور, وإنشاء إدارة إقليمية متخصصة لتنفيذ ذلك تكون مجهَّزة ولو بطائرة صغيرة واحدة لنثر البذور من الجو وعلى مساحات واسعة من الأراضى المتصحرة والهشَّة على السواء على أن يكون ذلك قبل بدء مواسم الخريف.
* إصدار التشريعات البيئية المختلفة التى لها قوة القانون لحماية البيئة وتطبيق مجموعة من السياسات الزراعية تتضمن قيام أى مزارع بتشجير ما لا يقل من 5% من مساحة مزرعته بالأشجار الدائمة. للأسف نحن نعلم أنَّ مثل هذه التشريعات وغيرها موجودة فى أضابير وملفات وزارات الزراعة والغابات فى كل ولايات السودان لكنَّ العبرة بالتطبيق والمتابعة.
* إعادة الإحتفال السنوى بأسبوع الشجرة ونفر الأهالى للقيام بعمليات التشجير ليس على مستوى المناطق الحضرية فقط بل وفى المناطق الريفية والخلاء أساساً, وكمثال على ذلك ماذا لو توقف العمل الحكومى لمدة أسبوع واحد فى كل عام مع بدء فصل الخريف وإنتظم العاملون فى معسكرات بعيدة فى المناطق الجرداء لتنفيذ أنشطة التشجير ونثر البذور؟ لو تمَّ تنفيذ مثل هذه الفكرة ضمن برنامج منظَّم, بجانب متابعة تأهيل البيئة, لتغيرت أوضاعها تماماً فى فترة زمنية وجيزة نسبياً قد لا تتعدى العقد الواحد.
* إستغلال العطلات الصيفية لطلاب الجامعات والمعاهد العليا والمدارس المحلية فى متابعة عمليات تشجير المدن وإنشاء الحدائق وميادين الترفيه الإجتماعى داخل الأحياء ومنتجعات الرحلات الخلوية على أطراف المدن.
* الإهتمام بتكثيف الوعى الشعبى بالبيئة كعنصر حاسم لنجاح أى برنامج تأهيلى وتسخير الأجهزة الإعلامية فى مد الوعى الشعبى, بجانب تبنى مواد البيئة فى المناهج الدراسية منذ السنوات المدرسية الأولى, وتشجيع قيام جمعيات طوعية بيئية للتشجير ومكافحة الزحف الصحراوى ومساعدتها بالمدخلات اللازمة والتوجيهات العلمية لإنجاح برامجها.
* تطبيق مفهوم الغابات الإقتصادية (economic forests), وهى الغابات التى تُستزرع من أجل الحصول على مواد معيَّنة, كالأخشاب مثلاً, وعلى هذا المبدأ يمكن تشجيع إستزراع غابات الهشاب لإنتاج الصمغ العربى خاصة وأنَّ دارفور أحد الولايات المنتجة لمادة الصمغ, وهو كما هو معلوم فقد أصبحت هذه المادة من أهمِّ الصادرات الوطنية, ويمكن تشجيع القبائل فى تطبيق ذلك من خلال إستغلال أجزاء من داراتها لإستزراع غابات الهشاب تكون تحت رعاية أفراد القبائل نفسها, إنَّ مثل هذه البرامج ستساعد القبائل على إنتهاج سياسات جديدة لإستغلال مواردها الطبيعية دون تدخل كبير من الدولة.
* مع تصاعد الإهتمام الدولى بحل قضية دارفور حلاً ناجزاً يجدر التخطيط لقيام مؤتمر عالمى لتأهيل البيئة فى دارفور على أن يخرج بتوصيات وبرامج تطبيقية محددة لإصلاح وتأهيل البيئة تلتزم بها الحكومة الإقليمية القادمة المنتخبة جماهيرياً مع إنشاء صندوق دولى للمساعدة فى تمويل ذلك.

المرحلة القادمة فى دارفور هى مرحلة تعمير وتأهيل فى كافة مناحى الحياة, والبيئة جزء لا يتجزأ من ذلك.

9
معاناة أبناء دارفور بالخارج:

مثلما يعانى أهلونا فى دارفور من إستمرار هذه الأوضاع المشينة والشائنة يعانى بعض من إخوتنا فى المهاجر من أوضاع بئيسة بالمثل, مع فارق واحد هو أنَّ حياتهم حيث يوجدون ليس فى خطر, فالدول التى تحترم مواطنيها والمقيمين على أرضها تحرص على ألاَّ يمسَّهم أذى من أى جهة كانت. ولعلَّ تفاقم الأمور وقسوة الحياة بإقليم دارفور, ماضياً وحاضراً, قد دفعت بأعداد كبيرة من الشباب الواعد بالهجرة إلى الخارج وأقرب منفذ لذلك هو الجماهيرية الليبية, حيث يعيش هناك أكثر من مائة ألف من أبناء دارفور فى معاناة دائمة بسبب العطالة المتفشية والتفرقة العنصرية التى يتحملونها بصبر أليم, وإذا كانت الأوضاع الإقتصادية بليبيا جيدة خلال عقود السبعينات والثمانينات من القرن الماضى إلاَّ أنَّه, وبسبب تزايد قبضة المقاطعة الإقتصادية والسياسية الدولية بتلابيب الإقتصاد الليبى, تدهورت الأوضاع فيها بصورة سالبة كان أكثر القطاعات المتضررة منها هو سوق العمالة, وبطبيعة الحال قطاع العمالة غير المدربة والتى تحتضن نسبة كبيرة من أبناء دارفور. لقد ظللت أستلم رسائل منتظمة من بعض هؤلاء الإخوة يجأرون فيها بالشكوى من أوضاعهم بل وناشدوا السلطات الليبية, من خلال القنوات الممكنة, مرات عديدة بتحسينها, ونأمل أن يتم ذلك فى القريب العاجل خاصة وأنَّ ليبيا فى طريقها لتطبيع أوضاعها مع المجتمع العالمى والخروج من عنق الزجاجة التى ظلَّت تعيش فيه خلال الثلث قرن الماضية, ولذلك, ومن خلال التشاور والتنسيق المستمر بيننا نحن أبناء دارفور بالخارج, فقد نصحتهم بتكوين رابطة جامعة لهم, بالرغم من صعوبة ذلك مع القوانين الليبية, لكن الأهم فى تلك الفكرة هو أنَّها ستمثل لهم صوتاً معبراً وتشكل لهم منبراً يمكنهم من خلالها طرح قضاياهم بتأثير أكبر, والحمدلله, برغم الخلافات والعراقيل المتوقعة فى إنشاء مثل هذه التجمعات, بجانب تشجيعنا الدائم لهم فقد تمكنوا من تنظيم أنفسهم فى رابطة جامعة مانعة هى "رابطة أبناء دارفور بالجماهيرية الليبية" كأكبر رابطة لأبناء دارفور بالخارج, وأكثرهم قرباً إليها, ومن هذا المنبر أزف إليهم تهنئتى وأمنياتى السعيدة كإضافة قوية مطلوبة بشدة لدعم جهود أبناء دارفور بالخارج نحو قضية أهلهم.

وبالرغم من سعادتنا بالأخبار القادمة من ليبيا إلاَّ أنَّ نفوسنا إنقبضت فجأة عندما شاهدنا من على أخبار البى بى سى بضع وثلاثين شاباً من إخوتنا أبناء دارفور يهيمون على سفينة فى البحر تتقاذفهم شواطئ الدول وترفض موانئ القدوم دخولهم إليها, وبرغم تفاعل الإعلام العالمى والمنظمات الكبرى بهذه القضية إلاَّ أننا لم نسمع شيئاً من حكومتنا الرشيدة عن ذلك بالرغم من التأكيد المتكرر للأنباء أنَّ أولئك الأشخاص هم سودانيون من إقليم دارفور, وبالرغم من أنَّ ذلك شيئ مؤسف إلاَّ أنَّه ليس بشيئ جديد فى علاقة الحكومة بالمغتربين السودانيين, فهناك تاريخ طويل من عدم الثقة المتبادل بينهم يتمثل فى حقيقة لا بد من الإعتراف بها وهى عدم إهتمام حكومتنا, وسفاراتها بالخارج, بمواطنيها فى الغربة ومنافى الشتات إلاَّ بمقدار ما تحصلها منهم من ضرائب وجبايات باطلة, والأمثلة كثيرة على ذلك فإخواننا أبناء دارفور بليبيا ظلُّوا يتذمرون بإستمرار من تجاهل السفارة هناك لحل قضاياهم بل ومعاكستهم فى بعض الأحيان, وقد خصص موقع سودانيز أون لاين بشبكة الإنترنت (فكَّ الله أسره فى داخل السودان) قبل أشهر قليلة مساحة رحبة فى ركنها الحر وفتحت نقاشاً للفت الإنتباه لمشاكل السودانيين بلبنان, وبالرغم من وجود سفارة سودانية هناك إلاَّ أنَّ أوضاع السودانيين, خاصة داخل السجون اللبنانية, وكثير منهم إخوة لنا من أبناء دارفور, بجانب السب العنصرى اللئيم تجاههم من قبل اللبنانيين, إلاَّ أنَّه يبدو أنَّ لأفراد السفارة مهمَّات أخرى خارجة عن إطار رعاية أولئك اللاجئين البؤساء, وقد كتب أحد المشاركين فى ذلك النقاش, وهو من أبناء دارفور بلبنان, أن القنصل السودانى نظر إليهم شذراً عندما عرضوا عليه بعض ما يعانونه من مشاكل وسألهم بضجر: "إنتو الجابكم البلد دى شنو"!! هكذا تتعامل الحكومة مع شعبها فى الخارج, كما لا ننسى تعاملها مع القضية التى تتفجر مع نهاية كل عام دراسى حول قبول أبناء المغتربين فى الجامعات السودانية برغم تفوق الكثير منهم بدرجات ممتازة خاصة فى مدارس الخليج.

إنَّ موضوع ركَّاب السفينة التائهة فى أعالى البحار قد وجدت تعاطفاً دولياً من جانبها الإنسانى لكنَّها دخلت فى متاهة التفسيرات القانونية التى تحكم أوضاعهم كلاجئين, وزادت تعقيداتها أيضاً بسبب الصراع حول ذلك بين إثنين من أهم الدول الأوربية, إيطاليا وألمانيا. فقد أوردت قناة الجزيرة أنَّ إيطاليا سمحت بتردد بنزول 37 أفريقياً, غالبيتهم سودانيون, فروا من دارفور, وتحطمت سفينتهم في البحر المتوسط وأنقذتهم سفينة معونة ألمانية ونقلتهم إلى ميناء بورتو أمبيدوكلي في جزيرة صقلية, بعد مفاوضات إستمرت حوالي ثلاثة أسابيع (الجزيرة نت 12/7/2004م), وكانت إيطاليا قد تعرضت لضغوط من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين للسماح بنزول أولئك اللاجئين إلى صقلية ودعا الفاتيكان لمساعدتهم, وبالرغم من أنَّها فعلت ذلك فقد رفضت فى نفس الوقت إعطاءهم حق اللجؤ السياسى بحجة انَّ السودانيين كانوا أقرب إلى مالطا منهم إلى إيطاليا, حين تم إنتشالهم, ومن ثمَّ ينبغي أن يتقدموا بطلب لجوء إلى مالطا. ونتيجة لذلك طالب حزب الخضر الألماني باعطاء السودانيين ال37 حق اللجوء السياسي بألمانيا (سودانيز أون لاين 12/7/2004م) بعد الرفض الإيطالى, وبالرغم من أنَّ جريدة الشرق الأوسط أوردت فى عددها يوم (13/7/2004م) أنَّ السلطات الألمانية قد وافقت على منح اللجوء السياسي لهؤلاء السودانيين إلاَّ أنَّه قد تأكد لاحقاً غير ذلك وأنَّ السلطات هناك قد رفضت بشدة قبولهم.

وفي هذا الصدد فقد صرَّح مسؤول في وزارة الداخلية الألمانية إنَّ القانون الأوروبي الذي أقر في دبلن عام 2003م يؤكد وجوب رعاية اللاجئ السياسي والسماح بتقديمه طلب حق اللجوء في البلد الذي نزل فيه في البداية، بعدها تتخذ السلطات المختصة كل الإجراءات القانونية مثل رفع بصمات أصابعه مع منعه من التجول في أوروبا لتفادي تقديمه طلبات لجوء في بلدان أخرى، وقال إنَّه يجب على اللاجئين السودانيين تقديم طلباتهم في إيطاليا وليس في مالطا أو ألمانيا لأنه ثبت تواجدهم منذ البداية في المياه الإقليمية الإيطالية (المشاهير 14/7/2004م), لكنَّ بعض المراقبين يرون أنَّ تشدد الحكومة الإيطالية يعود إلى رغبتها فى إستغلال هذه القضية بالتعامل معها بالشدة وإرسال إشارات تخيف الراغبين في عبور البحر الي شواطئها من مواطني المغرب العربي وغرب أفريقيا, لكن من وجهة نظر منظمات حماية اللاجئين السياسيين فإنَّهم يطالبون بالنظر إلى قضية اللاجئين السودانيين بمنظار آخر قانوني وإنساني ويقولون بأنَّ على الحكومة الألمانية البحث مع روما حول حلِّ للقضية بعيداً عن التمسك الصارم بالقوانين. ومن جانب آخر فقد أوردت صحيفة نيو برس الألمانية فى عددها بتاريخ (13/7/2004م) أنَّ قضية اللاجئين السودانيين قد دفعت بالعديد من البرلمانيين الألمان ومدير مكتب غوث اللاجئين فرع ألمانيا شتيفن تلكون للمطالبة بتطوير قانون اللجوء الأوروبي، وما حصل مقابل السواحل الإيطالية دلَّ على غياب فقرة مهمة في قانون حق منح اللجوء تدعو إلى تقاسم المسؤوليات بين الدول الأوروبية وتوفير إمكانية تقديم طلب لجوء سياسي أوروبي، لكن وقبل كل شيء تحمل كل بلد عدد من اللاجئين لأن معظمهم يدخل إلى أوروبا ويتوجه في النهاية إلى ألمانيا. وما تزال القضية عالقةً بلا حل لكنَّ الجديد فيها ورود أنباء بالإعلام الألمانى يوم أمس تشير إلى أنَّ السلطات الإيطالية قالت أنَّ ال 37 شخصاُ من أولئك اللاجئين ليس بينهم أى سوداني وأنَّهم من نيجيريا ومالي والنيجر, ولذلك فقد تمَّ نقلهم من سجن الترحيل بإيطاليا إلي المكان الذى سوف تنظر الجهات المختصة في أمرهم للتعجيل بترحيلهم إلي دولهم.

مهما تكن من مآلات لهذه القضية فقد كان من الواجب أن تشكل الحكومة السودانية حضوراً ولو بإصدار بيان ينفى أو يثبت أنَّ من بين أولئك اللاجئين سودانيين طالما إمتلأت وكالات إعلام العالم بذلك, يحدث كل ذلك بينما توجد سفارات وقنصليات سودانية بكل من إيطاليا وألمانيا, لكن إلى من تدق الأجراس! وقد ظللنا نشاهد صور أولئك المشردين فى نشرات أخبار البى بى سى والسى إن إن فنتألم زيادة على تألمنا لحال أهلنا فى دارفور ومنافى الشتات, ولا بد من أن ينبلج الفجر.

التحية لأبناء دارفور بالجماهيرية الليبية.

 

آراء