هوياتنا.. وثورة العرب الحقيقية!

 


 

رباح الصادق
22 February, 2011

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لنقل في البدء إن (العروبة) برأينا تعني انتماءا مفتوحا لا مغلقا يضم في أحشائه كل من نطق أو امتص قدرا من الثقافة العربية. وكان رسول الله (ص) قال ليست العربية لأحدكم من أب أو أم من تكلم العربية فهو عربي! فلا نتحدث عن عروبة بالدماء، والاستعراب في العرب قديم: من العرب المستعربة، وهم أبناء إسماعيل الكنعاني وهاجر النوبية، جاء محمد (ص) النبي الذي اتبعه جل العرب والذي اقترن اسمهم بدينه!
هوياتنا المختلفة
لنقل كذلك إنا نعتبر الانتماءات والهويات أمر مختلط ليس حصريا على منبع وحيد. ونحن النساء نظرنا لذلك التشابك في الهويات فقلنا إن لنا هويات ثلاث: هوية الأنثى، والمواطنة، والأم. ودائما ما يختزلنا بعض الناس في الهوية الأولى وفي جانب الجسد المحض منها بينما حتى الأنوثة نفسها ليست محض جسد وفيها من الروح ومن العاطفة ومن العقل! بيد أنه كلما غلب الطين على امرئ أو امرأة كلما غابت عنه المعاني وأخذته الهياكل، وهذا أمر آخر.
وكواحدة لها هويات متعددة:
-       كوني إنسان أندغم في آمال الإنسانية وآلامها وعذاباتها على البسيطة يؤرقني الظلم أينما يكون وقد جعل له في كل بلد أساطين وحط كلكله متفاوتا بين ظلم تحاربه القوانين وتدفع نحوه أنانية الإنسان الجهول كما في معظم دول العالم الأول وبين ظلم تؤسس له القوانين ويدفع ضده الناس المساكين كما في بلادنا ومعظم عالمنا الجنوبي؛
-      وكوني امرأة أنتمي للنساء في كل العالم وأعلم أن لي اختا صينية تعاني من الوأد قبل أن تولد، وأختا هندية كانت تحرق مع زوجها وأختا كندية لا تأخذ الأجر المتساوي للعمل المتساوي وأختا سودانية تجلد إذا لم يرق لشرطي أمن المجتمع زيها! وأختا تركية تحظر من دخول الجامعة إذا لم تخرج شعرها، وأختا أمريكية ضجت من تسليعها في الإعلانات، والآلاف من أشكال العنف والرق والعبودية والمذلة والإهانة والتسليع للإناث؛
-         وكوني مواطنة سودانية تعاني كل ذل الحاضر السوداني وسخفه وتفاهات المرئي ورقصه المشروخ، وسياط الجلاد وضحكه المربك كما في شريط الفيديو الشهير، وعذابات ذهاب الجنوب ومرارات الندم، وأهوال الاغتصابات والقتل والنزوح في دارفور، وتخوفات المستقبل على وطن أن يضيع ويذهب كل ريحه وقد ذهب منه الكثير،
-         وكوني مسلمة يسعدني تمدد الإسلام في آسيا وفي أوروبا وأمريكا، والتفاف الناس حول رايته في بلدان المسلمين، ويسيؤني ضعف المسلمين وتفرق كلمتهم وانتشار الفتاوى المغيبة للعقل الهادمة لمقاصد الشريعة بانكفاء على ماض بدون تدبر وهضم لحقوق النساء باسم الدين ولكن بمد من عرق الثقافات المشرقية أو المغربية، وانصرافهم عن روح الدين وتمسكهم بقشوره،
-          وكوني إفريقية أحس بذل أفريقيا وقيدها المادي المتمثل في الفقر والإيدز والدول الفاشلة مثلما أحس بعذابها الروحي وتشتتها أنجلوفون وفرانكوفون وغير ذلك وتناحرها ومعاناتها من تواريخ الرق وهواجسها بين جماعات لم تهدأ ولا تهدأ رغائبها نحو العدالة والتعايش السلمي؛
وكوني كذلك امراة عربية يطأ منسم الشمولية ظهري وتجلدني سياط جبابرة العرب وتعذبني أكاذيبهم المعلنة، وتبعتيهم للأجنبي وعمالتهم السادرة، وظلمهم وفسادهم وتعطيلهم للشباب وتوزيعهم لمقدرات البلاد بين المحاسيب والبطانات، أتحدث اليوم عن هذه الهوية، ليس لأنها الأهم من غيرها ولكن لأنه فيما يبدو فإن بنات العرب قد خصبن بجيل جديد فحبلن، وولدت تونس ومصر، وبعضهن لا زالت حبلى في موريتانيا والأردن والجزائر والعراق وسوريا والسودان وقد حدثت فيها تحركات تسميها النساء (وجع العدّيل) بحسبان أنه ليس طلقا يقود للولادة ولكنه بفعل تعديل الجنين لوضعه داخل رحم أمه، ولكن ما من حامل بقيت إلى الأبد! لا بد وستلد يوما ما، وطالما هي خصبة فستحبل ولو أجهضوا حملها! وهناك بلدان الآن تعاني من آلام الطلق في اليمن والبحرين وليبيا وقد استعر (أو حر الطلق كما تقول النساء) وأحر الطلق هو الذي يسبق المخاض، وبعدها يُخرج الجنين رأسه ويصرخ فيفرح الناس!
قال حبيبنا المعري، والناس تعجب بالمعري ولا تحبه في العادة فهو نفسه لا يحبهم! ولكن المحبة كما قال الحبيب المصطفى (ص) قسم إلهي (فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) وجاء في بعض أغانينا أن (الريد قِسَم). قال المعري:
إن حـــزنــاً في ســاعة الــمـوت ... أضــعــاف سرور في ساعة المـيـلاد
في العادة يكون الحزن ساعة الموت أكبر لأننا نعرف أكثر من فقدنا من معرفتنا بمن تمت ولادته. لكن الثورات العربية لا كالولادات. نظام جديد بدلا عن آخر فاسد مستبد عميل وفاشل في إدارة أمور البلاد. لذلك تنعكس الآية التي ذكرها المعري فنجد فرحا أكبر من الحزن على موت الشهداء بالمئات!
قال المعري كذلك:
وشبيه صوت النعي إذا قيس    بصوت البشير في كل ناد!
ولكن العبرة ليست في صوت الناعي ولا المبشر ولكن فيما تحمله جوانحه، لذلك نحن نبكي سرورا مثلما بكينا يوم جمعة انتصار تونس ويوم جمعة فرحة مصر، ونبكي حزنا مثلما بكينا ونحن نطلع على تعذيب الشباب والشابات في شهادات أوردتها صحيفة (حريات) الإلكترونية بالفيديو وما فيها من تحرش وإهانات وانتهاكات وبكينا إذ استحضرنا شهداء قتلوا لمعارضتهم بينما نحن أبناء وطن واحد ولسنا مثل بني إسرائيل وقد اضطهدهم فرعون وهامان وجنودهما وهم أجانب عنهم (يُذَبّحُونَ أبْناءَهُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَهُمْ)، وأصابتنا الغصة يوم قرأنا للأستاذ سيف الدولة حمدنا الله (سودان الهناء في زمن الوزيرة هناء) وهو يرد على الوزيرة ويفضح زور قولها بذكر مأساة القضاء والعدالة في السودان بما لا يقارن بما هو في مصر التي هب شبابها من الجور! كان البكاء متشابها كما قال المعري ولكن داخلنا لم يكن متشابها.. فبكاؤنا الأول مع فرحة الياسمين والتحرير كان بكاء تخف معه الروح وينشرح الصدر وينداح اللسان بالبشر وتسجد الجباه لله بالشكر.. بينما بكاؤنا الثاني وضيمنا من سخافات المرئي الإنقاذي وخطرفات نافع الإنقاذ وغوشها وأهل حوشها وكرتها وطيب مصطفاها ومن على باب النول ألفاها من النوع الذي يقطر قطره ليخفف وجع القلب ويصرف اللسان عن سوء القول وهو دارج لدى من ظُلم، ونهرع بعده لربنا فنقنت قنوت النوازل: اللهم ياربنا انصر عبادك المستضعفين في السودان، واجعلهم قوة على من طغى وتجبر وأذل الرجال والنساء واستحياهم، يا رب لا تمد لهم أكثر فإنهم قد أضلوا عبادك وشوهوا دينك وشتتوا عيالك ومرغوا أنفهم بالتراب!  
ثورة العرب الحقيقية
"ثورة العرب الكبرى" اسم أطلق على  الحركة المسلحة التي دعت إليها الجمعيات العربية السرية في المشرق العربي ضد الحكم العثماني، أعلنت بزعامة الشريف حسين بن علي أمير مكة حينها في يونيو 1916م. واتخذت لنفسها علما يتألف من مثلث أحمر اللون تلتصق به ثلاثة ألوان أفقية متوازية هي الأسود (إشارة للدولة العباسية) والأخضر (للدولة الفاطمية) والأبيض (للدولة الأموية) باعتبار أنه قد جمع في ألوانه  رموز الاستقلال والتاريخ العربي في كل الأزمنة، وأضاف لها الأحمر رمز الثورة. هذه الثورة كانت مدعومة ببريطانيا في معادلة أن تسند بريطانيا حق العرب في تكوين دولتهم المستقلة على أن يساندوها ضد تركيا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.  وفي النهاية انقلب البريطانيون على الثورة وعلى الحسين بن علي وساندوا التحالف الوهابي السعودي في الحجاز وما حولها واقتسموا مع فرنسا الهلال الخصيب وفقا لاتفاقهم السري مع الفرنسيين (فيما عرف باتفاقية سايس بيكو 1916م).
الثورة العربية ضد الطغيان الطوراني العثماني، والبرم التركي (الطوراني) من الإرث العثماني تفاعلا لقبر الدولة العثمانية بشرها وخيرها، ولكن القادم كان أسوأ حضاريا ووطنيا. تقاسمت الأرض العربية الأطماع الاستعمارية فرنسة وأجلزة، وحينما تحقق الاستقلال لتلك البلدان الممزقة الغارقة في مشاكلها وانقساماتها واستقطاباتها الداخلية وتناحراتها الإقليمية وبؤر الالتهاب التي خلفها المستعمرون عن قصد، وقعت في جب الاستعمار الداخلي. وظلت مجتمعات العرب لعقود من زمان في حالات المشي الليلي والزار والغيبوبة والرهاب والبارانويا وغيرها من حالات المرض النفسي، إضافة لحالات الهزال المادي المتمثل في دنو معدلات التنمية البشرية المختلفة مقارنة بالخيرات في الإقليم، ملوك ورؤساء صح وصف أحمد مطر لهم في قصيدته: أنا السبب! أنا السبب في كل ما جرى لكم يا أيها العرب!
الثورة العربية الجديدة حقيقية وليست كتلك. حتمية الثورة العربية أشار لها الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز في مقالة نشرها في صحيفة القارديان في 16 فبراير الجاري بعنوان "لا تخافوا موجة الشرق الأوسط الجديدة" قال: "في خلال الثمانية عشرة يوما للثورة في مصر لم يمكن لأحد تخمين ما سوف يحدث، ولكن الآن بعض الأشياء يمكن قولها بتأكيد. وأولها أنه لا عودة للوراء!" وأن "الشرق والغرب قد توحدوا حول الفهم بأن الأمن الحقيقي يبدأ بكرامة الإنسان ويستند إلى ما نسميه بالحرية". واعترفت كونداليزا رايس في مقال لها حول (مستقبل مصر الديمقراطية) بالواشنطون بوست في نفس اليوم بأن الولايات المتحدة "في الشرق الأوسط –أكثر من أي مكان آخر- بحثت عن الاستقرار على حساب الديمقراطية، ولم تحقق أيا منهما"! وأن ما حدث في مصر يؤكد أن الرغبة في الحرية عالمية وإنسانية ليست غربية وأن تحقيقها فقط هو الذي يؤدي للاستقرار الحقيقي.
هذه الثورة لا تقسم العرب إلى مشرق ومغرب بل لقد بدأت بالمغرب ثم امتد أثرها لجميع الجسم العربي. وهي نابعة من الشباب المسحوق من مئات الآلاف بل الملايين عبأتها وسائل الإعلام الجديدة التي كم قيل إنها سوف تنحو لفك احتكار المعلومة والمعرفة وستساعد على الدقرطة رغم تشككات البعض من أنها سوف تزيد من الفوارق.. صارت الأخبار والمعلومات للشاب العادي ترد بنفس الوتيرة التي تدخل بها مكاتب المسئولين، وصار لاهتمامه يعرف قبلهم أحيانا! الفضائيات والإنترنت حطموا قيود الاحتكار. أذكر في رحلة ضمن مجهودات تعليم حقوق الإنسان زرنا قرية بائسة من قرى ولاية نهر النيل (والبؤس في السودان برغم توزيعه بغير تساوٍ بين مدن الولايات فإنه مقسم بالتساوي بين أهل الريف في السودان) المدرسة فيها كانت خاوية على عروشها ولا بد أن بانيها إذا رأى المدارس كيف تكون سوف يبتسم (بتعبير الرحالة الأوربي الذي قال إن الرب حينما خلق بلادنا قد ابتسم.. استغفر الله) في تلك القرية جمع القرويون مالا لبناء غرفة اعتبروها ناديا وجاؤا بطبق ساتيلايت وبمستقبل (رسيفر) وبجهاز مرئي ويتابعون الفضائيات! بعض ذلك تسلية ولهو وانصراف وخنا وفسوق، وبعضه هو علم ووعي، ومثلما في قناة الجزيرة الأكثر مشاهدة في العالم العربي هو تعبئة!
لقد احتفظ العرب –والسودان منهم- بألوان الثورة في أعلام الدول العربية بحسب توجيه جامعة الدول العربية مع أنها تجمع بين نقيضين فأحمر الثورة ما كان ليجتمع مع تواريخ دول الاستبداد العربية. ويجب أن تعطى تلك الألوان معانٍ أخرى لئلا نركن للمستبدين الأواخر وقد احتفينا بالمستبدين الأوائل! ولكن لو كان في ثورة العرب المشرقية التاريخية خير يهش له القلب فهو هذه الأبيات التي جاءت في نشيدها تحية للمرأة العربية:
يا علمي - يا علمي
يا علم العرب أشرق واخفق في الأفق الأزرق
يا علم من نسيج الامهات في الليالي الحالكات يا علم يا علم
لبنيهن الأباة كيف لا نفديك
كل خيط فيك
دمعة من جفنهن خفقة من صدورهن
قبلة من ثغرهن.. يا علم
ولو كان في ثورة العرب الحقيقية خير، ولو كان في بلاد السودان غيرة أو شرف أو غير، فإن هذا الصمت المطبق إزاء ما تتعرض له فتياتننا والفتيان لا بد سيجد أكبر الإدانة، ولا بد سوف يجعل مولودنا يتخطى المراحل مثل كل الخدّج (أولاد سبعة).. لا أقول هذا بسبب أن معطيات الثورة لم تكتمل، ولكن الثورة حالة ذهنية، وبعضنا يضيعها في أسئلة من أمثال: وما هو البديل؟، أو ماذا سيفعل حملة السلاح ربما ملأوا الفراغ وأجهضوا الثورة؟، أو هل سيقف الجيش (معانا أم مع الخيانة؟) وكما قالت السيدة كونداليزا في مقالها المذكور فإنها تتوقع في مصر اضطرابا في الأشهر والسنوات القادمة ولكن "الاضطراب أفضل من الاستقرار الكاذب مع الاستبداد".
علينا أن نعرف جملة مسلمات:  أن الحاضر هو الأقبح طرا - وأن كل انحراف سوف تسدده سواعد الثوار لأنهم ليسوا كثوار الماضي الذين ينتهي دورهم بالتحرير- وأن الركود هو السبب في كبواتنا، وفي كل حركة بركة:
إني رأيت ركود الماء يفسده إن     ساح طاب وان لم يسح لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست    والسهم لولا فراق القوس لم يصب!
وهي الفكرة التي دفعت شباب العرب في كل مكان في ثورتهم الحقيقية الآن لكي يتحركوا ويحرروا بلادهم وينقذوا ما بقي فيها من باق.. ونحن بإذن الله منهم.
وليبق ما بيننا
 
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء