هوية البادية وتشظي الذات السودانية علي ضفاف بحيرة جنيف
من تداعيات الذاكرة المثقلة بالانجازات العلمية وجراحات الترحال يقول العالم الآثاري السويسري شارل بونيه لصحيفة الغارديان البريطانية انه كان محض طفل صغير يلهو في حقل والده ليحصد العنب المرتبط بصناعة النبيذ، وعندما قرر دخول الجامعة ودراسة التاريخ والاثار أخذته الفتنة بالمصريات ودراسات الحضارة المصرية القديمة مثل كل إضرابه الأوروبيين ، لكن تفتحت عيناه علي مغامرة جديدة وهو البحث كنوز الحضارة السودانية المطمورة في عمق الصحراء. يتذكر شارل بونيه تلك الأيام ضاحكا وهو يقول لمراسل الغارديان" اتهمني الجميع بإضاعة الوقت في السودان، ونصحوني بالتركيز علي آثار الحضارة المصرية القديمة، لكنهم عندما وقفوا علي اكتشافاتي لم يعد يتهمني احد بإضاعة الفرصة في السودان".
كان مغامرة شارل بونيه في السودان منذ العام ١٩٦٥ وما نتج عنها من اكتشافات اثرية مذهلة في كرمة والبركل والمدن الملكية المدفونة في رمال الصحراء قد غيرت من وجه التاريخ القديم ومناهج دراسته في الجامعات الغربية، اذ كانت دراسات الحضارة السودانية تعتبر جزء من المصريات او الحضارة والتاريخ المصري القديم، لكن شارل بونيه اول من انتبه الي وجود نسق حضاري مستقل ومغاير عن الحضارة المصرية القديمة. وعندما بدأ يعبر عن قناعته تلك في المؤتمرات العلمية في أوروبا هاجمه المتعصبون لمركزية التاريخ المصري القديم لقناعتهم ان السودان لم يكن سوي صفحة صغيرة في كتاب الحضارة المصرية القديمة ، وانه يتبع لها ولا ينفصل عنها. وظل يعبر عن قناعته تلك بجموح لا يعرف التردد في وجود حضارة سودانية قديمة متميزة ومستقلة عن الحضارة المصرية مستدلا بالاكتشافات وآثار التاريخ والحجج والبراهين التاريخية والعقلية.
التقي شارل بونيه قبل عقدين ونيف في احدي المؤتمرات العلمية بمدينة لندن بالبروفيسور الألماني فيلدونغ عالم الاثار ومدير متحف المصريات بمدينة ميونخ. وحضه علي الدخول في مغامرة اكتشاف الحضارة السودانية القديمة ، وبعد عامين من ذلك اللقاء وجد بروفيسور فيلدونغ نفسه تائها في صحراء العتمور يعرف الناس وقبائلهم، وينقب عن آثارهم القديمة حتي نهضت من حفرياته مدينة ملكية من باطن الارض. وأصبح بروفيسور فيلدونغ يقول لكل زواره في متحف المصريات في ميونخ وبرلين ان نقوش مجوهرات اماني شيخيتو والفخاريات التي ترقد في بطن متحف برلين تؤكد علي وجود شخصية حضارية مستقلة للسودان القديم. لكن سيحتاج الامر الي جهد ضخم حتي تتبني الدوائر الأكاديمية عملية الفصل المنهجي بين المصريات وتاريخ السودان القديم. ويبتسم قائلا: ستكون حربا علي تفسير ملكية التاريخ القديم لان حراس الحضارة المصرية القديمة يحاربون بروز اي توجهات تعضد من فرضية استقلال الحضارة السودانية القديمة عن التاريخ الفرعوني. هذا فضلا عن البعد الاقتصادي المرتبط بصناعة السياحة في مصر التي تعتبر الدخل الثاني للخزينة المصرية بعد قناة السويس.
مع اختلاف الوقائع وحيثيات التاريخ جاءت الفتاة اينكو ناغي تحمل اثقال سؤال الهوية والتاريخ من اعماق تجربتها الشخصية، اذ تنحدر اصولها الاولي من المجر لكن دفعتها أقدار التاريخ لتعيش طفولتها في رومانيا ومن ثم انتقلت اسرتها للعيش في ألمانيا عقب تحولات الحرب والسياسة في أوروبا. لذا جاءت تنتمي الي ثقافات وهويات متعددة، فهي ألمانية النشأة والجنسية، لكنها رومانية المولد وهنغارية الجذور. وعندما جاءت هذه الفتاة الي السودان قبل عقد من الزمان لتشغيل وظيفة متوسطة في برنامج التنمية الألماني في بوادي ومدن كردفان المختلفة، وقعت في غرام تلك البساطة السودانية التي تشع من اعين الأطفال وحنين النوق وصهيل الأفراس في مغارات الليل ونيران الخلاوي وتلاوة الحيران ومن إيقاع الجراري وغناء الحسناوات في القمر يضوي أنا شن بلالي بالنجوم.
عكفت اينكو ناغي خمس سنوات في تلك البوادي والنجوع لا زاد لها سوي كاميرا متوسطة التقنية من ماركة ( نيكون) وارادة قوية وهي تحمل حسا مرهفا بتدفقات تلك الثقافة في شرايين التاريخ، جابت تلك الاصقاع في بُطُون السيارات، وظهور النوق والخيل علي مدي ثلاثة أعوام قطعت فيها ١٩ الف ميل. اجرت خلال رحلتها تلك مقابلات مع اكثر من ١٢٠ شخص و جمعت ٢٥٠٠ نصا تراثيا وفنيا، سجلت الأغاني والامثال والحكم والمأثورات الشعبية. دخلت القطاطي وجلست تحت ظل الرواكيب، وسجلت كاميرتها عشرات الآلاف من الصور في لحظات المقيل والرحيل ومنعرجات الصحبة و الانس و تقحمات المسغبة وطلاقة البطر وتعرجات الحياة.
اخرجت اينكو ناغي كتابها الذي وثقت فيه رحلتها في مدن وبوادي كردفان تحت عنوان ( رمال في عيوني.. لحظات سودانية) وهو سفر اثنوغرافي بديع في التوثيق الثقافي للحياة السودانية، وهو إنجاز غير مسبوق في مجاله، ولعل آخر كتاب ( مصور) عن السودان انجزه السفير الامريكي الاسبق بعد اتفاقية السلام وقدم له الرئيس الامريكي جيمي كارتر.
ما يميز هذا الإنجاز الثقافي كما اشارت منظمة اليونسكو في تقديمها للكتاب هو إبراز الهويات المتنوعة لشعب السودان والتساكن الاجتماعي ، اما منصور خالد فيعتبره إيرز توثيق للثقافة السودانية الحية التي تقاوم كل تجريفات الهوية التي يصطنعها السياسيون، وتطلعاتهم لإعادة تشكيل وتركيبة المجتمع، من النجوع والبوادي والحكم والمأثورات. ويتجلي اثر وعمق هذا العمل الثقافي الفريد ليس في توثيق الحكم والامثال والمأثورات الشعبية فحسب ولكن في معني تلك الحكايات وقدرتها في التعبير عن منظومة متماسكة من القيم والتقاليد والاعراف. وطرزت تلك الصور والنصوص بمقتبسات من الأغاني والأشعار السودانية ومقتطفات من القصص والأحاجي والروايات وكذلك نصوص من كلاسيكيات الأدب العربي وإشعار الامام الشافعي في الترحل ولذة العيش في النصب. صحِبتها ترجمات دقيقة وحاذقة الي اللغة الانجليزية تعتبر من اجود وأبدع ما قرأت.
استلت السيدة اينكو ناغي من كتابها الضخم ما يزيد علي أربعين لوحة تم تصميمها لتكون معرضا جوالا يطوف المدن الأوروبية يعكس عمق التراث وثراء الثقافة السودانية، شاهده حوالي سبعة شخص في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن ، وتم عرضه في مدريد وبرلين وميونخ وبودابست و لندن. لكن عندما حط المعرض رحاله الاسبوعي الماضي في قصر الامم المتحدة بمدينة جنيف اضاف بعدا اخر للثقافة السودانية المجهولة في هذه البلاد. و جاء عالم الاثار السويسري شارل بونيه ليشاهده من عمق مدينته الريفية ، وهو في ظني لم يكن مجرد زائر عادي لمعرض فني وثقافي قادم من اصقاع افريقيا ليعرض في وسط المدينة، لكنه يمثل امتدادا لمشروعه في اكتشاف الحضارة والتاريخ السوداني القديم.
قدمت اينكو ناغي الوجه الاخر لمشروع شارل بونيه في تأكيد إستقلالية وتميز الحضارة السودانية في تاريخها القديم، من خلال حفرياتها الاثنوغرافية في تاريخ السودان الراهن. اذ يكتسب مشروع اينكو ناغي أهميته في انه رد الاعتبار لهوية البادية في السودان، وذلك مقابل شغب النخبة التي شغلتها حياة المدن. اذ تجد ناغي في صورة بسيطة لأعرابي في البادية السودانية معاني غرّاء لعمق الثقافة والهوية اكثر من صخب البندر.
قدمت باختزال مدهش احد سمات ثقافة البادية السودانية في صورة توسطت المعرض لقدح متسخ ومشقوق من الالمنيوم يشتمل علي لبن لا يخلو من رمال الصحراء وتحته عبارة ( عرّض البيضاء). ورغم بساطة الصورة واتساخ القدح الا انها تختزل جملة من الحكم والعقائد الاجتماعية والمأثورات الشعبية. اذ تقول اينكو ناغي عن قصة هذه الصورة انها توقفت عند اعرابي يقود إِبلا في أطراف الصحراء ليدلها علي طريق تاهت عنه. فلم يرد وذهب الي نوقه واحتلبها وجاء يحمل لها اللبن اولا في قدحه المتسخ. وعندما شربت منه دلها علي الطريق الآمن. تقول اينكو متعجبة ان تقديم اللبن او المشروب الأبيض في عمق الصحراء يخرج من نطاق دلالات الكرم التقليدية الي معاني القبول والصحبة و السلم والأمن واستبعاد العداء والشر.
وتكشف اينكو في معرضها من خلال دلالة الصور والنصوص الملحقة بها عن ازمة الهوية في المجتمع السوداني الحديث ليس من خلال جدل الغابة والصحراء وتقاطعات العروبة والافرقة والمركز والهامش، ولكن من خلال رد الاعتبار لهوية البادية. اذ تتمتع البادية السودانية من خلال التوثيق الاثنوغرافي لهذا العرض بتماسك اجتماعي تفتقده المدن السودانية التي تضج بالمتناقضات. فمن خلال منظومة المأثورات والحكم والامثال الشعبية تتجلي هوية البادية التي تبدو راسخة الوجدان وافرة التصالح مع نفسها وواقعها. وهي بذلك لا تختزن تلك التناقضات المميتة والصراعات المقيتة علي الموارد والخدمات والسلطة كما تفعل نخب المدن. وتقول اينكو ناغي مستعجبة انها تجد في بوادي السودان تلك الروح الخفية التي تمنح الأشياء أسمائها وانتماءاتها لشيء يسمي ( سوداني)، وهذا التعبير هو توصيف مغاير ما تسميه النخبة السودانية ممسكات الهوية السودانية. وتمتعض اينكو ناغي من ذلك التناقض البين والواضح بين نخب المدن وغمار الناس في البوادي والارياف. اذ تزدري نخب الخرطوم والمدن الآخري بثقافة البوادي والنجوع بل تسمها بالتخلف وتطلق عليها ألقابا عفوية امعانا في الوصم بالتخلف وتقليل الشأن فيمن تسميهم نخب المدن عرب الضهاري، وغيرها من الأسماء. و يتحول بذلك الجدل في قضية الهوية من اختلالات التنمية بين الريف والمدن الي ازدراء ثقافة البوادي والنجوع و رميها بالتخلف. وتجد في كتاب اينكو ناغي والمعرض المتنقل صورا معبّرة لحيوات الناس في تلك البوادي، وهي كما ذكرنا تبدو اكثر أصالة وتماسكا واستقرارا من حيوات وهويات النخب في المدن الكبري. وتنقل بذلك اينكو ناغي قضية الهوية وتشظي الذات السودانية من جدل صوالين النخب التي أرهقها هذا السؤال في ظل مغالبتها للاستئثار بالموارد والخدمات وصراع المناصب و امتدادات السؤال الادبية والسياسية من صراع الهامش والمركز والعروبة والافرقة الي مستوي اخر من تشظيات الهوية بين استعلاء نخب المدن علي بساطة غمار الناس في النجوع والبوادي والارياف.
يلفت هذا التوثيق الثقافي الي وجود عالم اخر مستقر و مكتمل الأركان خارج ذهنية النخبة متصالح مع نفسه وواقعه ، يعيش حياته ، يفرح ويحزن ويغني ويتمتع بمنظومة متماسكة من القيم والتقاليد والاعراف ، وهو بذلك لا يصارع في مكتسبات الحداثة وصراعات النخب. ولكن رغم ذلك تحتقره نخب المدن وتصفه بالتخلف والثقافة البدائية.
عندما احتلت صورة فتاة من الكبابيش غلاف الكتاب، والزمام المعقوف يزين انفها وهو تبتسم خجولة امام الكاميرا، اختزلت تلك الصورة ترميزات مضادة للثقافة الاستهلاكية في المدن السودانية، اذ تؤكد ان جمال الفتاة السودانية يرتبط بأصالتها وليس بمساحيق التجميل والتي توفر جمالا مصطنعا يلمع تحت اضواء المدن واستوديوهات التسجيل. وهو ما يكشف عن عقد نقص فادحة في ذهنية النخب. وما يزعج اينكو ناغي في معرضها الثقافي هو قناعتها الراسخة بتوفر هوية سودانية مميزة ومتماسكة ، في عمق البوادي والنجوع والريف السوداني ، لكن ترفض نخب المدن تلك الهوية باعتبارها احد مخلفات الماضي والرجعية والتخلف. وظلت تلهث تلك النخب وراء هوية بديلة حتي تلحق بها ركب الحداثة والعالم المعاصر وذبحت لنيل تطلعاتها الواهية تلك كل محرمات الوطن. فهي ترفض هويتها السودانية الراهنة لكنها عاجزة عن تشكيل بديل آخر لان تطلعاتها ظلت مرتبطة بآثار وظواهر نمط الثقافة الاستهلاكية، لذا أصبحت المباني والمعمار تقليدا لأشكال وتصميمات المعمار في مدن الخليج الكبري مثل دبي، وصيحات الموضة مستوردة من أسواق الخليج، وغدا حتي التدين مستمدا من نمط التدين الشكلاني السلفي المستورد من دول الخليج. واضاعت المدن السودانية ونخبها بأثر من طغيان الثقافة الاستهلاكية ملامح الهوية السودانية لانها أصبحت محض أصداء لثقافة ونمط العيش الاستهلاكي الطاغي في دول الخليج بأثر هجرة الاغتراب و انفتاح سوق العمل. لكن تكمن في المقابل هوية سودانية أصيلة اخري في عمق البادية والريف ما تزال متماسكة ومستقرة و متصالحة مع نفسها و لا تعاني من صراعات النخب وتمزقاتها الاجتماعية. تؤكد اينكو ناغي بمعرضهما الذي ينتصب هذه الأيام في مباني الامم المتحدة بجنيف ان هوية السودان الضائعة الذي غذتها تشرذمات النخب وتطلعاتها السياسية وأنماط حياتها الاستهلاكية تكمن في عمق البادية والريف السوداني. فلماذا تهرب النخب للبحث عن توجهات اخري مغايرة ومستوردة من خارج نسق الثقافة السودانية تحت دعاوي محاربة التخلف واللحاق بركب الحداثة. ، فمن يعيد اتجاهات الحداثة والهوية من دبي الي الخوي. و قد فعلتها اينكو ناغي بمعرضها المتنقل وهي تحاول ان تعيد بعض الوعي للنخبة، في ان ما تبحث عنه في لندن ودبي موجود داخل البوادي والنجوع السودانية ، ولكن من يقنع النخبة السودانية التي اعتادت ان تستيقظ مع صياح ديك الفجر الريفي العنيد لكنها صارت تعتمد علي ضبط منبه تلفونات الأي فون وسامسونج المستوردة من دبي لتصحو بعد شروق الشمس.
khaliddafalla@gmail.com