هيكل بين مصطفي البطل وعثمان ميرغني (1 و2)
kha_daf@yahoo.com
اصطخب جدل فعال بين النخب السودانية ردا علي تعليق الأستاذ هيكل الذي أدلي به لقناة سي بي سي المصرية أثناء برنامج حواري مع الأستاذة لميس الحديدي (هنا العاصمة). عندما وصف السودان بأنه محض جغرافيا.
وانقسم الناس الي فسطاطين.فسطاط يغالي بالوطنية، وآخر يتدثر بالعقلانية.وبينهما موج من غاشيات التهارج والتناوش والإشكاس. ورغم إحتفائي بكل الردود والتعليقات لكني أنتقي لغرض الحجاج الفكري والسجال القلمي مقالات الأساتذة الأجلاء مصطفي البطل، عثمان ميرغني وبرفيسور أحمد إلياس وحسن أحمد حسن والدكتور هاني رسلان.
كتاب خريف الغضب كما قال هيكل في مقدمته يتعرض لحالة رئيس غاضب وحالة مجتمع غاضب وحالة مسجد غاضب وحالة كنيسة غاضبة، وتلك كلها عناصر صنعت المأساة وتداعياتها التي حاول كتاب خريف الغضب أن يصفها ويرويها. وأنا أحرر مرافعتي (جديرون بالإحترام:ضد هيكل في إفادته الأخيرة عن السودان) لم تدركني رعدة من وثبة الغضب أو مس من لوثة الوطنية أو رجس من تعلقات الشوفونية. لم أكن أدعي أنني أمثل حالة وطن غاضب أو مواطن غاضب. ولكنها حالة من العتب لأن النقد لم يكن موجها لمصر الدولة أو الشعب أو الحضارة ولكنه ضد تفكير النخبة المصرية تجاه السودان التي يمثل هيكل أبرز تمظهراتها وضد محمولات العقل التاريخي للنخبة المصرية. وهو نقد موجه أيضا كما سنفصل لاحقا ضد المركزية المصرية في تفكير النخبة السودانية.
يعتبر الأستاذ محمد أحمد المحجوب اشرس من حارب المركزية المصرية في تفكير النخبة السودانية وذكر أن الأدب المصري مثلا لا يعبر عن الهوية الوطنية أو الشخصية القومية التي يعيرنا بها المصريون حتي منتصف ثلاثينات القرن الماضي.ولخص هذا النقد بقوله في كتابه نحو الغد " وحتي الآن لم نري نتاجا مصريا جديرا بأن يسمي قوميا، فشوقي وحافظ كانوا يقرضون الشعر علي طريقة العرب ويسوقون الحديث عن النوق والخيام والهوادج ويتعزلون في سعاد ودعد وهند ولا يحفلون بزينب وفاطمة وبتثينة وما كنت تلمح أثر مصر في قصيدة إلا عندما يمدح شوقي خديويها". ويري البعض أن الدكتور جمال حمدان في مؤلفه شخصية مصر هو من أدرك أن عبقرية المكان هي أبرز أسباب تميز وتفرد مصر وأثر الجغرافيا في تكوين شخصية مصر الوطنية والحضارية. ويقول المحجوب "كثيرا من الكتاب في مصر يقرأون ويكثرون القراءة ولكنهم لا يهضمون، لذا يكون نتاجهم نصف غربي إن لم يكن غربيا من رأسه حتي القدم".
البروفيسور أحمد إلياس أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم والجامعة الإسلامية بماليزيا محقق ثبت أخترط في مرافعته موقفا وسطا أثبت للمصريين إستعلاءهم وأتفق مع هيكل علي خلو السودان من الهوية الوطنية الجامعة. وساق البروفيسور أحمد إلياس مثالا لحالة إستعلاء النخبة المصرية حيث نقل عن البرادعي قوله في التقليل من شأن السودان عندما أستفحلت الأزمة السياسية : "حتى السودانيون أتوا لمساعدتنا" وعلق برفويسور أحمد إلياس شارحا هذه العبارة " فقوله هذا يعنى يا للهوان والمهانة التي بلغها المصريون، ألا نحترم أنفسنا حتى يتدخل القُصّر في شؤوننا".
والبرادعي الذي يستخف بشأن السودان يعلم أن السودان هو من قدمه للترشح لمنصب الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية وليست بلاده مصر. وأسوق هنا الإعتراف الجهير الذي ذكره الدكتور مصطفي الفقهي، سكرتير المعلومات للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري السابق، الذي أكد دور السودان المحوري والبارز في إنتخاب وفوز الدكتور محمد البرادعي بهذا المنصب الأممي الهام.وقال إن مصر لم تقدم البرادعي مرشحا بإسمها لهذا المنصب بل قدمت مرشحا آخر. ولكن نشط الراحل أحمد عبدالحليم سفير السودان الأسبق لدي القاهرة في إقناع المجموعة الإفريقية لتتبني ترشيح البرادعي نيابة عنها رغم عدم موافقة مصر لترشيحه وتفضيل شخصية أخري عليه. وقال الدكتور مصطفي الفقي أنه لولا السودان وجهود السفير أحمد عبدالحليم لما نال البرادعي هذا المنصب. ولكن جزاء السودان من البرادعي الذي قدمه بإسم المجموعة الإفريقية لهذه المنصب هو الإستخفاف والتقليل.
وأستدعي الصديق الأستاذ حسن أحمد حسن من ذاكرة أوراقه القاهرية اللقاء اليتيم بين هيكل وفريق المعارضة السودانية في منتصف تسعينات القرن الماضي، وبرز في الحوار بشكل جلي محاولة هيكل للهروب من التعليق عن الشأن السوداني تحسبا لحساسية السودانيين المفرطة، وختم حديثه مشيرا الي أن الرئيس الأسبق مبارك ما كان يلتقي الرئيس السوداني لو أحس أن نظامه متهالك، فأدرك شهريار الصباح وسكت عن الكلام المباح.وجاء الدكتور هاني رسلان عاتبا في مقال نشره بالأهرام علي المرافعات والتعليقات السودانية لأنها حسب وصفه أعادت"إنتاج كل القضايا والوقائع التي تطرح في سياق الاستدلال علي التعالي المصري علي السودان والسودانيين" ،وزعم أن النخبة السودانية تري أن مصر هي مصدر الشرور ولا تعترف بأي عمل إيجابي لمصر في السودان وأنها تسعي الي تحميلها المسئولية المباشرة أو غير المباشرة لكل مشاكل السودان وأزماته, بما في ذلك انفصال الجنوب.ويري الدكتور هاني رسلان أن ما حملته عبارة هيكل ووصفه ليس جديدا، لأنه وصف مستخدم بطرق أخري من قبل الأكاديميين وحتي من الصادق المهدي نفسه عندما وصف الأزمة في السودان "بعدم إكتمال مشروع بناء الدولة الوطنية". ويبرر رسلان أن عدم إكتمال مشروع الدولة الوطنية هو ذات الوصف الذي قدمه هيكل إلا أن عبارته كانت صادمة ومباشرة ربما لأنها صادرة من شخصية ذات وزن وتأثير في المحيط الإعلامي والثقافي والفكري.وبالطبع لم تقع النخبة السودانية في خطل المترادفات لأن وصف هيكل بأن السودان عبارة عن جغرافيا فيه بعضا من أوشاب الإستخفاف ولا يتطابق معناها أو مفهومها المعرفي مع وصف "عدم إكتمال مشروع الدولة الوطنية". ورغم الحساسية المفرطة للسودانيين لكنهم لا يرون أن مصر هي مصدر الشرور.وبالطبع يدافع رسلان عن محمولات العقل التاريخي للنخبة المصرية في أبرز رموزها المعاصرة الأستاذ هيكل ظالما أو مظلوما.
أتحفنا الأستاذ عثمان ميرغني برد رائع علي تهاوش بعض النخب السودانية في الرد علي هيكل وقال بعد أن دمغنا بتهمة النخبة المصرية بأننا قوم شديدوا الحساسية لكل نقد أو مشهد في الإعلام أو الدراما المصرية.ووصف الأستاذ عثمان بأن غضبنا نبيل لكنه سلبي لأنه عاجز عن تصحيح الصورة المتواضعة التي يرسمها الإعلام العربي عن السودان خارجيا. لكن الفرق أن صورة السودان في الإعلام والثقافة المصرية صورة نمطية مصنوعة لعوامل تاريخية وحضارية، تماما مثل صورة العرب في هوليوود التي تعج بالبربرية والهمجية. هل نعيش فعلا نحن في أوهام لنستقيظ منها كما زعم الأستاذ عثمان حتي ندرك واقعنا لنصبح أمة عظيمة.هذا الغضب ليس حالة سودانية صرفة بل هناك من يشاركنا ذات الإنشغالات حول تعالي النخبة المصرية علي بعض الشعوب العربية. تعليقا علي إفادات هيكل في ذات البرنامج رد وزير الخارجية البحريني علي حديث هيكل الذي قال إن دول الخليج قبلت بعروبة البحرين مقابل التنازل عن الجذر الثلاث موضوع النزاع لصالح إيران. وقال إنه كان حاضرا ومشاركا في تلك المفاوضات في أواسط ستينات القرن الماضي. وإستنكر وزير خارجية البحرين مزاعم هيكل وتحداه لإبراز مستنداته التاريخية التي تؤيد وجهة نظره وقال إنه يستشهد فقط بالأموات. فهل دفاع وزير خارجية البحرين عن بلده وتاريخه ينتمي الي مجموعة الغضب النبيل غير المنتج. وفي ذات السياق يقول الكاتب اليمني المرموق عارف أبوحاتم أنه لا بد من خارطة طريق للتخلص من المركزية المصرية لأن الشخصية المصرية لا يسعها التفكير إلا بصفتها قائدة ورائدة ومتقدمة علي الآخرين. وذلك ما واجه به الصحفي إبراهيم عيسي بعض المثقفين والكتاب الذين ما برحوا يرددون أفضال مصر علي دول الخليج وبأن المصريين هم حملة شعلة التعليم والحداثة لإضاءة ظلام الجهل الذي كان سائدا في دول الخليج العربي وأنه لولا جهود المصريين لما أحرزت دول الخليج ما وصلت اليه من رفاه مادي وتقدم عمراني. وذلك ما عبر عنه السيناريست أسامة أنور عكاشة قبل موته بقليل وهو يتحدث عن سوق الدراما المصرية. فقال إبراهيم عيسي إن المعلمين المصريين و العمالة المصرية التي ساهمت في نهضة التعليم والعمران كانت جزءا من سوق العمل والمنافع المشتركة إذ لا يخلو بيت في الريف المصري من تلفزيون وثلاجة مستوردة من الخليج وأن أرتفاع مستوي المعيشة لهذه الشريحة الهامة في نسيج المجتمع المصري تمت بفضل سوق العمل في دول الخليج لأن المصريين لم يتطوعوا في منظمة خيرية للعمل مجانا ودون أجر في الخليج. وذلك إنصاف من قلم مصري يستحق التنويه. هذه الشواهد تؤكد أن التعبير عن الضجر بشأن إستعلاء النخبة المصرية ليس حالة سودانية خالصة ولكن لها أصداء في بعض أركان العالم العربي ولكن ربما نكون أكثر حساسية من غيرنا لأسباب تاريخية ولعلاقة الجوار التي تسم علاقة الشقيق الأكبر والشقيق الأصغر بكثير من العنت و التوتر خاصة إذا كان هناك تاريح إستعماري مشترك. وهذا ما حدث بالضبط في علاقة اليابان بكوريا والصين. وهي علاقة في عمقها الثقافي تنوء بذات الحساسيات والتوترات جراء فظائع إستعمار اليابان لهذه الشعوب.
إن الشعوب تغضب عندما تجرح كرامتها أو يحط من قدرها ولعلك تتساءل لماذا لم يصف هيكل ما يجري في ليبيا بأنها حرب قبلية عشائرية وهل أكتمل مشروع الدولة الوطنية في ليبيا؟ . لماذا تصبح الحالة في السودان جغرافيا وحالة القتل والسحل والفوضي في ليبيا ومصر في بعض فترات تاريخهم القريب هي عبارة عن مساومات اللحظة التاريخية في مسار الثورة والسياسة.
هل يريدنا الأستاذ عثمان ميرغني أن نعتذر لشيخ المنافحة عن الكرامة الوطنية المؤرخ محمد عبدالرحيم في رده علي الدكتور محمد حسين هيكل (عشرة أيام في السودان) لأن غضبه غير منتج. وهو الذي وصف الكسرة بأنها أقبح أنواع الطعوم ووصف النساء يحتفرن بأظافرهن وهن جلوس كما يقعي الكلب بحثا عن حبيبات الغلال وان المساكن في ام درمان ما يزور عنه بصر الزائر لحقارته وقذارته.وقال الشيخ عبدالرحمن احمد في رده في صحيفة الحضارة ان وصف الدكتور محمد حسين هيكل للسودان يشتم منه رائحة الاهانة والتحقير. وقد وقع رد الشيخ عبدالرحمن احمد في المحظور إذ كان مثقفو ذلك الزمان شديدوا الإعتداد بعروبتهم ، كما كانت قضية الوعي بالهوية غارقة في فخر الإنتماء العرقي، وهو ما قاده ليقول لهيكل ان المرأتين اللتين وصفتهما بالإقعاء والنبش ليستا عربيتين بل هما مما ادمت يد النخاس اذنيهما. وربما يكونا من التكارنة. ورد الدكتور هيكل علي هذا النقد نافيا صفة الإهانة والتحقير لشعب السودان. وفات علي مثقفي السودان حينها أن الدكتور هيكل عندما خط سفره عن السودان كان في طور الإنتقال من مكانة الناقد الي موقف المؤرخ. وقال الدكتور عبدالفتاح أبو مدين معضدا هذه الفرضية إن الدكتور محمد حسين هيكل بعد أن كان داعيا لإحياء الفرعونية عاد الي التنقيب في التأريخ الإسلامي فكتب عن (حياة محمد) في (منزل الوحي)، بعد أن جاس في إبداعات طه حسين وتوفيق الحكيم.إن إتهام الكتاب السودانيين للنخبة المصرية بالإهانة والتحقير بدأت عام 1926، ولكن نري أن الحوار والجدل بين النخبة في البلدين أرتقي الي قضايا وموضوعات أكثر شمولا وموضوعية تمس عصب العلاقة الحيوية بين الشعبين ولم تعد متوقفة في محطة أن الكسرة هي أقبح الطعوم.
وأختم الجزء الأول من هذا المقال بشهادة الأستاذ الراحل عبدالرحمن مختار في كتابه (خريف الفرح)،إذ تم أختياره ضمن مجموعة من رؤوساء تحرير الصحف العربية لزيارة الولايات المتحدة، والوقوف علي تجربتها الديمقراطية، وعندما وصل الوفد الي واشنطون، تم أختيار الأستاذ عبدالرحمن مختار ليكون رئيسا لوفد رؤساء التحرير العرب لإجادته اللغة الأنجليزية،فأحتج الأستاذ محمد حسنين هيكل علي هذا الأختيار زاعما أنه رئيس أكبر وأعرق صحيفة عربية هي الأهرام، وبالتالي لن يرضي أن يترأس الوفد رئيس تحرير صحيفة مغمورة في السودان، فكان أن تنحي الأستاذ عبدالرحمن مختار طوعا وإختيارا عن رئاسة المجموعة، حتي لا يحدث شرخ وسط رؤوساء التحرير العرب. ما فعله الأستاذ عبدالرحمن مختار هل يجرؤ أن يفعله أي رئيس تحرير سوداني في الوقت الراهن بدءا من جيل المخضرمين بقيادة الأستاذ محجوب محمد صالح مرورا بالجيل الوسيط مثل الأستاذ عادل الباز حتي جيل الشباب مثل الأساتذة ضياء الدين بلال ومحمد عبدالقادر.
ما جادلالأستاذ مصطفي البطل كاتبا إلا غلبه، لمعرفته بأساليب الحجاج والمناظرة ولسخريته المالحة التي تبدو جاحظية الهوي ونوبية المنبت ،ومعلوماته الموسوعية ومثابرته في البحث والتقصي ولغته السلسة الصقيلة وبيانه الأتم. والبطل صديق عزيز الإلفة حتي إذا عزت الجغرافيا عن لقيته كفاحا، رغم أني عشت سنوات تقاسمت معه في بلاد العام سام بعضا من هواجس الحلم الأمريكي وطعوم اليانكي من الهامبيرغر والبيتزا وتركت له النبيذ الأحمر يعب منه وحده بعد كل وجبة تركين أما أنا فقد أكتفيت بحمرة الكركدي.. ولكن رغم إلفته إلا أن له قلم حاد الشذاة كما قال منصور خالد يرهب خصومه، ولهذا فإني أتمثل الهدي النبوي مع بعض التأويل إذ لا أتمني لقاء البطل علي سوح الورق والمحابر ولكن إذا أوقعني حظي العاثر أمامه علي بالثبات كما قال الرسول (ص) في باب ملاقاة العدو، والبطل ليس كذلك بل صديق حميم. دخل الأستاذ مصطفي البطل فسطاط عثمان ميرغني مؤازرا دون أن يستصرخه متحرفا لسجال ومتحيزا الي فئة يغلب عليها التبرم من هز عرش هيكل لقامته السامقة الرفيعة ، وتعمدا الإغلاظ علي نقد حساسية السودانيين تجاه كل ما هو مصري وأصابتهما هاء السكت في مقامات إستعلاء النخبة المصرية. لقد أنقدح في صدر الكاتبين أن نقد النخبة المصرية في نظرتها للسودان تعني التنكر لعيوبنا والتماهي في حالة الوهم التي نعيشها، ووصموا هذه الظاهرة في التصدي لهيكل كأنها مغالاة في الوطنية وإيغال في النزعة العاطفية مقابل المعسكر الذي أنحازوا الي فئته وهو الذي يعني بالنظر الواقعي والنقد العقلاني. وقد ساقني هذا الجدل للنظر الي حالة الإنقسام وسط الكتاب والمثقفين السودانيين تجاه مصر في الوقت الذي تبدوا فيه النخبة المصرية متوحدة الرؤي في حكمها ونظرتها للسودان.
ذكرني هذا الجدل بالسجال الذي وسم الصحافة السودانية تجاه مصر في بداية عقد التسعين من القرن الماضي إذ تصدي الأستاذ عبدالرحمن إبراهيم مدير تحرير طيبة الذكر صحيفة الإنقاذ الوطني وقال معرضا في رده علي الكاتب المصري فرج فودة في عنوان مقاله (فرج الفرج)، فأضطر الأستاذ موسي يعقوب رئيس التحرير أن يكتب مقالا إعتذاريا في اليوم التالي ناعيا علي عبدالرحمن إبراهيم أنه كثير الوضوء إلا أن شيطان الغضب قد أعمي يراعه في شأن مصر.
رماني الأستاذ البطل بالشطط اللغوي في ردي علي هيكل ونسبني الي الفرقة الجمهورية في عدائها التاريخي مع مصر، وربما رأي البعض أني تمثلت فقه أبوبكر الصديق في قول مقطعة البظور لأن الآية تبيح له الفحش بالسوء من القول لمن ظلم. ويأخذ علينا البطل أنني أغلظت علي هيكل جهلا بدوره وأستاذيته. ولكن لا أحد ينكر بالطبع أنه أحد أبرز أعلام العصر الحاضر في مجال الصحافة والفكر والسياسة.وقد أفتتنت به شخصيا حينا من الدهر، وأعترف بأستاذيته ودوره الإستثنائي في التاريخ العربي المعاصر، إلا أنني بذات اليقين شديد الوثوق والقناعة أنه يفقد نصف موضوعيته وأفضل توهجات فكره عندما يتحدث عن السودان، وقد سردت شواهدا عديدة في مرافعتي الماضية (جديرون بالإحترام:ضد هيكل في إفاداته الأخيرة عن السودان). البعض يردها الي نزعة عنصرية عميقة تسم نسيجه النفسي الداخلي كشف عنها في كتابه (خريف الغضب) عندما تحدث عن السادات وجذور جدته المسترقة التي تنحدر من السودان، رغم أنه دافع عن نفسه قائلا: إني لا أعرف لعيوني لونا أخضرا أو لشعري شقرة. وعلاقة هيكل بالسودان يصدق عليها الوصف الذي أطلقه لوصف علاقته بالرئيس الأسبق حسني مبارك إذ قال (الإتصال بيننا كان فاترا وفي معظم الأحيان مشدودا ومتوترا). وبعضا من توترات علاقته مع السودان تعود أيضا لنزعته الأرستقراطية والتي كشف عنها في كتابه الأخير (مبارك وزمانه:ماذا جري في مصر ولها). وقال يصف أول لقاء جمعه بالرئيس مبارك بعد تقلده الرئاسة أنه كان يدخن تبغا رخيصا كان يظن أنه أفضل مافي العالم، ويتحدث لغة شعبية بذيئة لا تنسجم ومنصب الرئاسة عللها بأنها لغة معسكرات الجيش، كما كشف عن سلوك التسوق الشخصي للرئيس مبارك عندما كان ضابطا صغيرا. ولعل نزعة الإستصغار لغيره من المشهورين كما فعلها مع السادات تستبين عندما وصف أول زيارة للرئيس مبارك الي الإمارات وقد تأخر المغفور له الشيخ زايد بضع دقائق، وعندما جاء لمقابلته أعتذر له مشيرا الي أنه كان يأخذ مقاس أطقم ملابسه السنوية مع احد المصممين العالميين، ودعا مبارك لخوض التجربة وتفصيل طقم جاكت هدية منه. وقال هيكل عندما ذهب مبارك لأخذ المقاسات أختار 15 طقم لبدل كاملة مما كان محط استهجان وإستغراب. وهو بهذا يحاول أن يقلل من سلوك مبارك وعدم اتساقه مع متطلبات هيبة التصرف الرئاسي وهو في سدة الحكم.
تثبت سجلات التاريخ أن هيكل كان أكثر إهتماما بتطورات الأوضاع في ليبيا من السودان مما أغضب الرئيس نميري، وكان يصف نظام القذافي بأنه ثورة لأنه أطاح بنظام ملكي ولكنه كان شحيحا في أن ينعم بهذا اللقب علي نظام نميري لأنه حسب تبريره أطاح بحكم ديمقراطي. ولكن تكشف كتاباته اللاحقة أن تجافيه عن السودان وأهتمامه بليبيا يعود الي موارد النفط والثروة في ليبيا لدعم مشروع الثورة العربية مقابل الفقر المادي للدولة في السودان. هذه النزعة العنصرية والسلوك الأرستقراطي وكذلك نظريته لإستراتيجية الأمن القومي المصري التي تقوم علي التوجه نحو الشمال الشرقي(فلسطين وأسرائيل) بدلا عن الجنوب (السودان) ومعارضته لقيام مشروع التكامل بين مصر والسودان كما كشف في رسائله السرية لمبارك لعدم إمتلاك البلدان للحقائق والموارد الضرورية ، وزعمه أنه رغم أهمية السودان إلا أنه يجب ألا يكون علي حساب دور مصر العربي. تعتبر هذه الثلاثية هي مصدر تجاهل الأستاذ محمد حسنين هيكل للسودان، وإستمرار وصف أوضاعه وتطوراته السياسية في جميع الحقب بصورة مخلة لا تتسق مع الحقائق الثابته علي الأرض.
لقد ورث هيكل من الحقبة الناصرية الباكرة عدم الإهتمام بالسودان لضعف تأثيره الجيوإستراتيجي علي المنطقة، والذ يلا يمثل له في تاريخه الصحفي سوي محطة عابرة لا يكتب عنها إلا قليلا ولايتحدث عنها إلا مضطرا . قال جونكومسكي في كتابه عن إعادة التفكير في الوطنية في دول الشرق الأوسط
Countries Rethinking Nationalism in the Arab Middle East
إن عبدالناصر لم يكن مهتما بالسودان في الأصل إلا بالقدر الذي يحقق له أهداف ثورته حتي أن مجلس قيادة الثورة كان يتجاهل مناقشة التقاريرعن المفاوضات مع بريطانيا بشأن تقرير مصير السودان ، وأكد أن محمد نجيب قد نقل عن عبدالناصر قوله في إجتماعات مجلس قيادة الثورة في فبراير 1953 أن السودان يمثل عبئا علي مصر ومن الأفضل التخلص منه.
Sudan is being a burden upon Egypt which is better to abandon
هذا الوصف الذي قلل فيه عبدالناصر من أهمية السودان وأنه عبء بالنسبة لمصر وتفضيله التخلص منه هي ذات القناعة التي ظل يحملها ويعبر عنها الأستاذ هيكل في كل مراحل تاريخ علاقته بالسودان. منذ مقال (ماذا بعد في السودان) الذي أنكر فيه ثورة أكتوبر الي الاوصاف التي بسطناها في مرافعتنا السابقة. أستنكر علي الأستاذ مصطفي البطل إستشهادي بكتاب الدكتور سيار الجميل تفكيك هيكل الصادر عام 2000 وقال أنه كاتب مغمور لا أحد يعرفه. والحقيقة أن الدكتور سيار الجميل لم يقدمه كاتب هذه السطور وهو لا يوازي شيئا أمام شهرة هيكل.العالمية الممتدة، ولكن أحتفت به الصحف المصرية وحاورته ونوهت الي كتابه. فقد استضافته مجلة روز اليوسف بمناسبة ثمانينية هيكل وقال في حواره مع المجلة المصرية أن هيكل بارع في خداع الناس و تمرن لفترة طويلة في إصطناع الملابسات متوهما أنه مركز الكون.وقال أن مطعنه الأساسي علي هيكل هو ظنه أنه يكشف أسرارا لا يعرفها أحد غيره.
في ظني أن أحد أخطر الأمراض الثقافية التي يعاني منها الوطن هي أزمة المركزية المصرية في تفكير النخبة السودانية، أو ما يسميه الفرنجة Egyptocentric وهي حالة من التلبس الفكري تعني التفكير بالعقل المصري في شأن السودان أو التماهي مع النظرة المصرية تجاه السودان، أي أن تري بعض النخب المحلية ببلادنا بما يمليه التفكير المصري في قضايانا وتطورات حياتنا الثقافية والثقافية والإجتماعية. وقد حارب المحجوب هذه النزعة في التفكير كما ذكرنا منذ دعواه الباكرة الي فصل الأدب السوداني عن مصر وقال مخاطبا مثقفي وكتاب مصر " لا يمكن لنا أن نفضلكم علي أنفسنا".
أتفق مع الأستاذ مصطفي البطل في أن نهتم بما يقوله ويعرفه هذا الهرم السياسي والثقافي المصري عن بلادنا، وأنه ينبغي أن ننظر فيه بإهتمام رزين وثقة بالنفس.وتلك دعوة عقلانية رحبة لكن دون الإذعان والتسليم بما يقوله هيكل،لأننا في نفس الوقت نملك حق التمحيص والنقد لآرائه وأحكامه عن السودان والرد أيضا بأسلوب رزين وحكمة مبتغاة وثقة بالنفس.
إنها محاولة للخروج من المركزية المصرية في تفكير النخبة السودانية، والتأمل في صورة الجمل المدفون في رمال الصحراء إلا من رأسه وأذنيه، وذلك مثل ساقه سلاطين باشا أو شويطين في لغة الخليفة عبدالله بعد عودته الثانية غازيا مع جيش كتشنر إذ وصف متبرما الإنجليز ومحذرا السودانيين من المصريين أنهم مثل الجمل الذي دفن جسده في الصحراء ولم يبد منه إلا رأسه وأذناه، وأصبحت مثلا سائرا عبر عنه الشاعر السوداني حسن ازهري
جمل في الرمل مدفون وما ظهرت للعين الا اذناه
هكذا قال سلاطين لنا وسلاطين من القوم الدهاء
أجدد تقديري للأستاذين مصطفي البطل وعثمان ميرغني اللذين فتحا لنا سوق الجدل والنظر في أمر علاقتنا بالنخبة المصرية ونموذجها الأبرز محمد حسنين هيكل في سوق عكاظ السياسي.
(نشر في صحيفة السوداني علي حلقتين)