هيكل وأحداث الجزيرة أبا …. بقلم: د. احمد خير / واشنطن
7 June, 2010
الكاتب الصحافى الأستاذ/ محمد حسنين هيكل يعد من القلائل الذين يملكون بعض الحقيقة ولا أقول كل الحقيقة ، لإيمانى بأنه ليس هناك من أحد يمتلك الحقيقة كلها . خاصة فى عالم السياسة الذى تتلاطم أمواجه فيصبح من الصعوبة الإبحار بدون أن تهتز السفينة ، ومعها يفقد الإنسان قدرة التركيز فى موضوع ما مهما تكن أهميته لأنه لابد وأن يولى السفينة بعض الإهتمام ا .
فى برنامجه الأسبوعى " مع هيكل " الذى تبثه قناة الجزيرة ، ركز الأستاذ محمد حسنين هيكل فى حلقة هذا الأسبوع على الدور المصرى من أحداث " الجزيرة أبا ". والجزيرة أبا كما يعلم الجميع أنها فى أوائل السبعينيات من القرن الماضى كانت تعد معقلاً لأنصار الإمام المهدى . وكما هو معلوم أيضاً أن إنقلاب جعفر نميرى فى 25 مايو 1969 كان قد جوبه بمقاومة شرسة من قبل الأنصار بقيادة الإمام الهادى المهدى .
تحصن الإمام الهادى المهدى بين أنصاره الذين ماهابوا صلف وعنجهية الحكم القادم إلى الخرطوم على ظهر دبابة ، فأعلنوا المقاومة مما أدخل الرعب فى قلوب الذين إغتصبوا السلطة من حكومة قومية منتخبة . ومعها لم يجد النميرى مخرجاً من الوضع الذى حشر نفسه فيه إلا بطلب النجدة من الرئيس جمال عبد الناصر ، خاصة أن السودان كان قد فتح أراضيه للطيران المصرى بعد نكسة حرب الأيام السته فى عام 1967 التى خسرها العرب أمام إسرائيل بعد الضربة القاتلة التى وجهها الطيران الإسرائيلى للقوات الجوية المصرية بتدمير معظم طائراته وهى قابعة على الأرض ! وبالتالى دمرت المطارات المصرية وأصبحت غير صالحة للإستخدام ، الشئ الذى دفع بالقيادة المصرية إلى إجراء إتصالات عاجلة مع السلطات فى السودان لترحيل بعض ماتبقى من طائرات إلى مناطق فى السودان وخاصة جبل الأولياء التى كان لهم فيها قاعدة عسكرية ، وسبق للضابط جمال عبد الناصرأن كان ضمن القوات المصرية المسلحة العاملة فى قاعدة جبل الأولياء قبل قيام ثورة يوليو 1952 المصرية ضد الملك فاروق ..
المهم فى الأمر هو أن إنقلاب جعفر نميرى لم يجد الترحيب المناسب من الأنصار كما وجده من قطاعات أخرى ربما لأنها كانت ممثلة فى مجلس قيادة الثورة الجديد ! تلك القطاعات كانت ممثلة فى قوى اليسار من شيوعيين وديمقراطييين بالإضافة إلى القوى الحديثة من حزب البعث والقوميين العرب . وكان من نتيجة ذلك أن وقف الأنصار إن لم نقل وحدهم نستطيع أن نقول مع فئات قليلة أخرى معلنين معارضتهم إلى حد أن حمل الأنصار السلاح ضد النظام القادم على ظهر دبابة .
عند قيام إنقلاب نميرى ، وكأى قوة حديثة قادمة إلى السلطة معلنة توجهاتها بأنها " ضد الرجعية وأعوان الإستعمار " وتلك من الشعارات التى كانت رائجة فى تلك الفترة ، وجدت تلك الشعارات مناخاً عززه توافد تيارات إلى الخرطوم من القوى الحديثة خاصة فى العالم العربى ، فإمتلأت الساحة بالكتاب والشعراء العرب ، فى محاولة لتعبئة الشارع ليلتف حول القادم الجديد الذى يعتبر من نقاط التحول الإيجابى المساند للتيار الناصرى الممتد إلى قلب القارة الإفريقية آنذاك . أذكر أن حضر فى تلك الفترة إلى الخرطوم الشاعر نزار قبانى الذى باتت لياليه الشعرية جاذبة للمثقفين السودانيين ، وخاصة تلك الليلة التى أقيمت فى " دار الثقافة " بالخرطوم حيث بدأ بقصيدة " من قتل الإمام !؟ " فضجت القاعة بالتصفيق والهتاف ! ربما لم يكن يعنى بتساؤلة ذاك الإمام الهادى المهدى ، ولكن دم الشهيد فى تلك الفترة كان مازال حاراً بعد أن إغتالته يد الغدر فى " الكرمك " بعد خروجه مع بعض مريديه من الجزيرة أبا التى شهدت ويلات قنابل الطائرات التى أتتها من كل الجهات غير مبالية بأرواح الأطفال والنساء والعزل من أبناء الجزيرة أبا !
لقد أوضح الأستاذ محمد حسنين هيكل بأن الطيران المصرى لم يتدخل بالرغم من الخطة التى وضعت للتنفيذ وأوفد للسودان لتنفيذها من القيادة العسكرية محمد حسنى مبارك " الرئيس المصرى الحالى " ومن القيادة السياسية نائب الرئيس فى تلك الفترة محمد أنور السادات . وكانت الخطة كما أوضح هيكل أن تقوم الطائرات المصرية بدك معقل الأنصار فى الجزيرة أبا ، مع الساعات الأولى لفجر اليوم التالى ، وذلك بالتنسيق مع مجلس قيادة الثورة فى السودان .
وكما جاء فى نفس سياق ماقاله هيكل أن كل ذلك كان بالتنسيق مع قائد الثورة الليبية " الوليدة فى ذلك الوقت " العقيد معمر القذافى "حالياً ملك ملوك افريقية !"
لقد ذكر الأستاذ هيكل بأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد إستدعاه إلى مكتبه فى المساء قبل ساعة الصفر لضرب الجزيرة أبا و المحدد لها صبيحة اليوم التالى ، وماكان من هيكل " حسب ماذكر " إلا وأن قدم رأيه للرئيس جمال عبد الناصر موضحاً خطورة أن تقدم مصر على إستخدام الطائرات المصرية لضرب الإخوة فى السودان الذى حتما سيكون بمثابة طعنة نوجهها لإخوة لنا ومهما كانت الأسباب . وأظهر الأستاذ هيكل مستند كتبه الرئيس جمال عبد الناصر بخط يده موجهاً لمدير مكتبه " سامى شرف " للإتصال العاجل بالقيادة العسكرية المصرية فى السودان التى كان قد أنيط لها مهمة ضرب الجزيرة أبا ، وبالفعل " كما قال هيكل " لم تستخدم الطائرات المصرية فى ضرب معقل الأنصار فى الجزيرة أبا . عليه ، إذا أخذنا بما قاله هيكل بأنه لم تستخدم الطائرات الحربية المصرية فى تلك الضربة ، طائرات من إذن تلك التى قامت بالمهمة !؟
هنا لابد لنا من أن نتوقف عند حادثتين . الأولى هى أنه عندما قام إنقلاب " هاشم العطا " فى يوليو 1971 ولم ينجح لأسباب كثيرة لسنا هنا بغرض تفنيدها ، ثم بدأت محاكمات الشجرة بشأن قيادة الإنقلاب العسكرية " هاشم العطا ، بابكر النور وفاروق حمدنالله " والقيادات المدنية " عبد الخالق والشفيع أحمد الشيخ وآخرين " كان أن أرسلت القيادة السوفيتية برسالة إلى الرئيس المصرى آنذاك محمد أنور السادات طالبة منه التدخل شخصيا لدى نميرى لحماية أرواح قيادات الحزب الشيوعى ، وماكان " وحسب ماذكره البعض " أن أرجأ محمد أنور السادات طلب القيادة السوفيتية إلى مابعد أن تمت المحاكمات الصورية والإعدامات موضحاً فيما بعد إلى أنه كان قد تسلم الرسالة بعد فوات الأوان ! وبها أريق دم الشرفاء على ساحة الخيانة من هنا وهناك !
الحادثة الثانية هى أن هناك أكثر من علامة قد تدلل على مشاركة الطيران الليبى فى عملية الجزيرة أبا وذلك بإستقراء عمليتين ، واحدة منها هى ، عملية القرصنة التى قامت بها القيادة الليبية فيما بعد بإجبارها لطائرة شركة الخطوط الجوية البريطانية بالنزول فى طرابلس وإحتجاز بعض من قادة إنقلاب يوليو 1971 ثم تسليمهم للسلطة فى الخرطوم التى بدورها أسرعت فى إعدامهم ! وعلامة أخرى هى ماقام به الطيران الليبى من كسر لحاجز الصوت فوق الإذاعة السودانية فى أمدرمان مستعرضاً قوته ومتحدياً نظام النميرى الذى سانده من قبل عند إحتجازه لأعضاء قيادة إنقلاب يوليو 1971 . ثم إنقلابه عليه بمساندته القوات المسلحة المعارضة أو ماسمى بالغزو الليبى .
نحن بدورنا لانستبعد مشاركة الطيران الليبى فى قصف الجزيرة أبا لسبب أن العقيد كان ساعتئذ فى سباق مع الزمن ليحل محل الزعيم جمال عبد الناصر فى زعامة العالم العربى الذى توهم أن المكان سيخلوا له بعد رحيل عبد الناصر! وكان فى سباق مع الزمن ليظهر للقيادة فى مصر بأنه أولى بالإهتمام من الرئيس نميرى فى السودان ! وكما نشاهد فى الوقت الراهن من أن العقيد بعد أن عجز عن تحقيق ذلك ، نراه اليوم يتجه إلى افريقيا وينصب نفسه ملكا لملوكها وهو الذى قام بإنقلاب فى ليبيا ضد الملكلية !
لقد ذكر الأستاذ هيكل بأن الإمام الهادى المهدى قتل نتيجة " مانجو ملغومة " كانت قد قدمت له . وإن كان البعض وحسب ماقرأت فى جريدة الميدان " العدد 2226 بتاريخ 6 يونيو 2010 " التى جاء فيها " كلف حزب الأمة القومى لجنة مختصة لدراسة وتفنيد إدعاءات محمد حسنين هيكل التى أفاد فيها بأن الراحل الإمام الهادى المهدى إمام الأنصار السابق قتل مسموماً بمدينة كسلا – وأكد محمد زكى مسئول الإعلام بحزب الأمة القومى فى تصريحاته للميدان ان إدعاءات هيكل مغلوطة وعارية من الصحة
وهذا يطرح عدة تساؤلات : أين كان حزب الأمة طوال الأربعة عقود الماضية " منذ مقتل الإمام " !؟ وكنا نعتقد أنه كان قد أجرى التحريات اللازمة حول مقتل الإمام وتعرف على الحقائق ولم يحن بعد موعد نشرها على الجماهير ، وما كنا نعتقد بأنه سينتظر لفترة أربعة عقود ليقوم بما كان يجب أن يقوم به من أعوام مضت على مقتل زعيم بتلك الأهمية ، مهما كانت الخلافات بينه وبين القيادات اللاحقة لحزب الأمة ! لقد كان الإمام " رحمه الله رحمة واسعة " زعيم أمة ولم تتوقف زعامته على حزب الأمة فقط ! خاصة أن السيد الصادق المهدى كانت لدية فرصة كبيرة للتحقيق عندما منحه نميرى مكتباً فى الإتحاد الإشتراكى وإعتبر من جراء ذلك مشاركا فى الحكم ! فلماذا لم ينتهز الفرصة لإجراء تحقيقات ولو سرية ليعلم من قتل الإمام ! حقاً نلوم زماننا والعيب فينا ! أفبعد أن أدلى هيكل بمالديه من معلومات كلف حزب الأمة لجنة لمهمة البحث فى " الإدعاءات " وليس البحث عن الحقائق ! ثم كيف وصل ماقاله هيكل "منجه ملغومة " إلى أذن الحزب بأنه قال " منجه مسمومه " !؟
لقد شهدت بنفسى حقيبة الشهيد الإمام الهادى المهدى فى قسم الشرطة بالخرطوم فور وصولها من كسلا ، وكانت ملابسه ملطخة بالدماء ، وبها أستطيع أن أجزم بأن الإمام قد مات مقتولاً وليس مسموماً كما تنامى إلى أسماع حزب الأمة القومى فور سماعهم لماقاله هيكل!
أين كتاب التاريخ فى بلد المليون ميل مربع !؟ وإلى متى ننتظر أن يكتب تاريخنا بأيدى أناس آخرين !؟ لقد نوهت إلى ذلك من قبل حيث أنه كلما قصدنا معلومة تاريخية نستطلع ماكتبه " نعوم شقير " و " مكى شبيكه " وكأن التاريخ قد توقف عند تلك المرحلة ! والدليل هو ردة الفعل التى أثارها ما أدلى به الأستاذ محمد حسنين هيكل ! فإذا كانت إدعاءات هيكل مغلوطة كما أوضح مسئول الإعلام فى حزب الأمة فمتى سيزودنا هو بالمعلومات الغير مغلوطة !؟ هذا إن كانت لديه معلومات !
لقد قال الأستاذ محمد حسنين هيكل مالديه بشأن أحداث الجزيرة أبا ، ونحن فى إنتظار أن نسمع ماسيقوله حزب الأمة أو أية جهة أخرى لديها الحقيقة حتى وإن كانت ستجئ متأخرة فقط بأربعة عقود !
على كل حال سأطرق باب الصديق الكاتب الصحافى محمد على صالح ربما يتمكن من العثور فى المستندات الأمريكية التى تخصص فيها على أية معلومة قد تفيد بشأن مقتل الإمام الهادى المهدى " رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان " ولنا عودة بإذن الله .
Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]