.. والعلاقة مع إسرائيل

 


 

 



لم يكن مفاجأة، البتة، أو أمر يثير الدهش، العرض الذي قدَّمه عن الثلة الحاكمة في الخرطوم، مصطفي إسماعيل للولايات المتحدة عام 2008 لاقامة علاقات مع إسرائيل، مقابل تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، وإزالة نظامه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ولعلنا نجافي الحقيقة ونظلم البراغماتية - عقيدة شيخهم ابن العاص - إن وصفنا نظامهم بها. ولا شك أن الوصف الدقيق لنظامهم هو أنه نظام لا يستند، مطلقاً، في سياساته الخارجية والداخلية إلي مبدأ أو أخلاق أو أعراف، ناهيك عن تلك الكلمة التي يمضغونها ويعملون بنقيضها. المثال الصارخ، والذي أقل ما يُقال عنه أنه يفتقد الحياء، هو استيراد السلاح من نظام جنوب أفريقيا العنصري، مع وجود قرارات مقاطعته من الاتحاد الأفريقي. وهو أمر قال عنه نيلسون مانديلا، في مرارة، بعد تفكيك نظام الفصل العنصري: "ما كنت لاُصاب بالإحباط لو لا تلقِينا لدعم من أنظمة سودانية سابقة اثناء نضالنا من أجل الحرية." 
ومع أن مسألة علاقات مع الكيان الصهيوني لم تتم، إلا أن ذلك لا يمنع تناولها لتبيان الطبيعة المخاتلة وغير السويَّة لهذا النظام. ومن نافلة القول أن أسوأ وأقسي ما تعانيه إسرائيل هو عدم إنشاء علاقة معها، لما يتضمن ذلك من أنها دولة غير طبيعية كبقية الدول، وغير شرعية ومنبوذة. نفهم أن تأييد ابن العاص، حين كان في سدة الحكم، لاحتلال صدام حسين للكويت قد نحت فيه قولاً لم يوضح مرجعيته في القرآن أو السنة هو "ان الإسلام يبيح تأييد الحاكم القوي وإن كان فاجراً." فماذا ياتري كانوا سينحتون لتبرير خطوة كهذه؟ هل رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يستحق تنازلاً كهذا؟ ضعُف الطالب والمطلوب. وحتي بدون هذا العرض فإن هذا النظام قد قدم من فروض الطاعة لأمريكا ما لم يقدمه نظام آخر في لائحة الإرهاب. وأشكال الانبطاح التي قُدمت لدولة الاستكبار معروف ما ظهر منها (قبول مبعوث مع عدم وجود سفير، مساحة السفارة الأمريكية....إلخ) وما بطن. بيد أن أحدثها هو الانسحاب من أبيي، بعد أن بلع النظام لسانه بالتنازل عن الشرط الذي أصرَّ عليه في الأول، وكان سبب الاحتلال، وهو تولي إدارة مدنية مشتركة للمنطقة أو المدينة.
ماهي تلك "اللعنة" التي تحل بالدول الراعية للإرهاب حتي يكدح النظام في سبيل إزالته منها كدحاً غير ملاقِ جزاؤه؟ العقوبتان الرئيسيتان اللتان تترتبان علي وضع دولة معينة في هذه اللائحة هما قطع العون المالي، والحرمان من السلاح الأمريكي. هل يؤدي الوضع الناشيء عن هاتين الخطوتين لنهاية نظام، أو تعطيل التنمية في دولة ما، أو مخمصة تصيب أهلها، أو تدهور مقدراتها الدفاعية؟ علي النقيض، كما هو معلوم ومعروف، ان الدول التي تحظي بالعون المالي والسلاح من أمريكا ليس لديها استقلالية (باكستان\النظام المصري السابق)، واليد العليا خير من اليد السفلي. وفي أحسن الأحوال فهي مكشوفة استخباريا من قِبلها. أما بالنسبة للدول الموضوعة في لائحة الإرهاب، بعكس السودان، فهي لم تنبطح لأمريكا التي (دنا عذابها)؛ بل هي أكثر استقلالية في القرار والإرادة والسياسة الخارجية من معظم دول العالم النامي التي تتلقي "الصدقة الأمريكية"، بسبب غياب وسائل ضغط تمارسها عليها الولايات المتحدة.
فضلاً عن ذلك، فأن تلك الدول قد سخَّرت هذا الوضع في الاعتماد علي النفس وتطوير قدراتها الذاتية. النظام الإيراني، مثلاً، لم يهرول لانشاء علاقات مع أمريكا، عندما وجَّه باراك أوباما في خطاب القاهرة 2009، حديثه إليه فيما يشبه الاعتذار، عن تدخل أمريكا في شؤونها والاطاحة بنظام دكتور مُصدَّق الديمقراطي (1953)، ناهيك عن اللهاث لشطبه من تلك القائمة، بتقديم كل تنازل. قالت القيادة الإيرانية حينها لقد سمعنا قولاً حسنا ولكنا ننتظر أن يقترن القول بالفعل. وما كانت أن إيران لتطوِّر مقدراتها الدفاعية وصناعة الصواريخ بعيدة المدي، إن كانت لها علاقات مع الولايات المتحدة. كان البديل الأمريكي سيكون، كما في الدول التي تجاوز إيران غرباً، هو السلاح الأمريكي وهو سلاح لن يوازي السلاح الإسرائيلي بأي حال من الأحوال. 
وإن قال قائل ان إيران دولة غنية الموارد، فدونه المثال الكوبي الذي لم يقدم أية تنازلات لأمريكا لإزالته من تلك القائمة، رغم أن كوبا قد وُضعت في تلك القائمة عام 1982، بينما اُضيف السودان لها عام 1993. علاوة علي ذلك، أن أمريكا، في سبيل تركيعها، ظلت لأكثر من نصف قرن تمارس كل ضروب الترهيب والترغيب مع بقية الدول لإحكام خناق الحصار التجاري والاقتصادي عليها. لم يلجأ فيدل كاسترو لحلول انتهازية عاجلة ينكسر بها لأمريكا حتي بعد إنفراط عقد الإتحاد السوفيتي، بل قال: "في سبيل حرية إرادتنا سنبدأ من الصفر." ولمواكبة الوضع الجديد قام باعادة توجيه الموارد لتتماشي مع هذا التطور، فقرَّر استبدال الجرارات الزراعية بالثور والمحراث، وتصنيع الدراجات، كي تصبح الوسيلة الرئيسية للنقل. لم يتطوع كاسترو -  متعه الله بالصحة - بانشاء علاقة مع إسرائيل، دع عنك دولة تربطها بالفلسطينيين روابط قومية ودينية، وشهدت عاصمتها مؤتمر اللاءات الثلاث، وقال رئيسها عام 2001، إن تحرير مدينة الكرمك سيتبعه تحرير القدس!
وفي المقابل، فإن انبطاح (الأخ) معمر القذافي لإزالة نظامه من الدول الراعية للإرهاب، لم يشفع له لدي أمريكا والغرب عندما أزفت الآزفة، رغم دفع تعويضات لأُسر ضحايا لوكربي بلغت مليارت الدولارات، وتسليم مواد تصنيع أسلحة الدمار الشامل عام 2003، والتعاون (كجماعتنا) في الحرب علي الإرهاب. الحقيقة التي لا يريد حكام الخرطوم استيعابها، هي ان استنكاف أمريكا عن تطبيع العلاقات معهم يعود في المقام الأول لعدم وجود مصالح اقتصادية أو استراتيجية لها في السودان الشمالي، ولها قاعدة عسكرية علي مرمي حجر من بورسودان، وفي بلد مستقر هو جيبوتي. بيد أن نصيحتنا لهم هي ان الذي يختار طريق الانبطاح عليه أن يواصل فيه ولا يجوز الوقوف في منتصفه. صحيح ان أمريكا قد ردَّت علي العرض بانشاء علاقة مع إسرائيل بأن سعيكم مشكورا، إلا أنها ستطالب بانبطاحات اُخر في النيل الأزرق وجبال النوبة، وستحصل عليها، كما حدث في أبيي.  
تساؤل أخير: كيف كان سيكون رأي مجلس الإفتاء ومحمد عبدالحي، اللذان أفتيا بحرمة الانضمام للحركة الشعبية وموالاة قادتها، في حالة إنشاء علاقة مع إسرائيل؟ وكيف كان سيكون رد (صحيفة الخال) الإنتباهة تجاه خطوة كهذه؟
وختاماً، نعتذر لقادة إيران وكوبا، لأنه لا يجوز مقارنتهم مع أُناس اهتماماتهم ومشاغلهم وأولوياتهم هي التجارة في دفن النفايات الإلكترونية، والأسمدة والتقاوي الفاسدة، والسمسرة في مواد البناء من زنك وسيخ ومسامير وخشب وأسمنت.


Babiker Elamin <babiker200@yahoo.ca>

 

آراء