وداعاً أيتها الهستيريا

 


 

 

abdallashiglini@hotmail.com

   جلس الشيخ ( عبد الباسط ) جلسة صفاء ، ينشُد طقس علاجٍ عن بُعد . هو يجلس في الخلوة ، والمريض بعيداً في منـزله يتمدد على الفِراش  . كأن خاطر يندلق عليه من علٍ ، يهُزه و يخاطِبه : ـ

 ـ استجمِع هواء الشهيق في صدرِك حتى تَحس سخونته .مدّ يديك واستجمع قواك  للشفاء ، وتمتِم بما عني لك من الحديث وانفُث البُخار من صدرك ببطء . سيل مغناطيسي يتحرك من جسدك إلى المريض ، ينقل له الدعم . يا أيتها النبتة المدفونة  في الجسد ، ستجدين اليوم مُعيناً لكِ ، استنهضي كل جنود الشفاء اليوم ومديّ لنا يد المساعدة . الجسد الذي تطحنه المعارِك اليوم يستبشر خيراً .

   صوت رفيق دربه وتلميذه المُحبب يقطع حبل أفكاره : ـ

ـ سيدنا الشيخ …

ـ نعم يا الحسين .

شبَّك الحسين أصابع يديه ببعضهما ، وكاد أن ينحني وهويُخفِض بصره      حين قال :  ـ

ـ عِندنا ضيوف ، معاهم مريضة وعندهم كِتاب من دكتور هاشم ، ودَخَّلتهم على المَضْيَفة  .

تمتم  الشيخ ( عبد الباسِط ) : ـ

ـ صَبُر...   قُلهُم  أنا جاي .

  تمُر الدقائق بثِقل  الساعات على الأنفس ، والعيون ترقب . بِنتٌ في الثامِنة عَشر  مُنطوية على نفسها تشتت أدمعها على الخّدين ، فساعِداها الآن بِلا حِراك . امرأة بجوارها تبدو كالأم ، وشيخ في الخمسينات بادي القلق يبدو كأبيها أو عمها .

  دخل الشيخ على المضيفة : ـ

ـ أهلاً بالطيبين ، أهلاً حَبابكُم عشرة .

نهض الجميع في حضرته . الأم جَزعة ، وعيناها تجحظان من القلق . هرولت السيدة لتُقبِل يد الشيخ ( عبد الباسِط ) .  سحب الأخير يده بلُطف إلى صدره مؤمناً ترحابه بالجميع .

ـ استغفري رَبِك  يا حاجَّة ، إن شاء الله خير .

انطلق  ( حاج الطاهِر ) في الحديث بلا مُقدمات : ـ

ـ سيدنا الشيخ ، البِت جابوها لينَا من أول يوم في الأمتِحان ، يَدينا مَشلولات . ودوها المَصحة ، و منها حَولونا التجاني الماحي . دكتور ( هاشِم خلف الله ) طَمَّنا ، وأدانا الجَواب دة ليك .مدَّ الرجل بالمظروف إلى الشيخ .

  تبسم الشيخ وهو يفُض المظروف وقرأ ما به مُتمهِلاً ، ثم طمأن الجميع ، ونظر إلى المدخل : ـ

ـ يا ولد .. الغدا يا ولد .

 تسمع الآن وقع الأقدام مُهرولة على عَجل . وقاطعت الأم : ـ

ـ يا شيخنا طمِنَّا ، الكِسرة عِندك مَبروكة ، لكن بِتَّنا ما بتحَرِك إيديهَا !؟

فرد الشيخ :

ـ الغدا ليكم ، وهِي بتاكُل بَعد شِوية إن شاء  الله  .

 تجولت نظرات ( حاج الطاهِر ) ، فالدهشة رفيقة الجَزع والخوف :

ـ يا شيخنا ، أنا والله من الصباح غير بُقة موية ما دخل بطني شِي .

إنخَلَعنا و حيلنَا اتهَدَّ من ساعة ما جابوهَا لينا . الليلة يا شيخنا أول يوم في امتحان الشِهادة السودانية . الله لا بارك في القِراية ، اليوم الجابا لينا يوماً أسوَد .

  تبسّم الشيخ عبد الباسط  ، ولبِس ثوب الهيبة .  اكتست تقاطيع وجهه كِساء جديداً ، واكتسب صوته اللغة الآمِرة . صاح هو مُنادياً : ـ

ـ أحمد دفع الله ... الحبيب ... أحمد دفع الله .

فُتح الباب ، وبدا وجه شاب في العِشرينات ، بجلبَاب أبيض وغِطاء أخضر على الرأس .

ـ نَعم شيخنا ؟

ـ جَهِز أُوضة العِلاج ، فَضِيهَا و خلي فيها كُرسي خيزَران واحِد .

ـ حاضِر شيخنا .

مرّت الدقائق كأنها ساعات .  رجَع أحمد دفع الله وهو يقول : ـ

ـ الأوضَة جاهزَة يا الشيخ .

انتحى الشيخ جانِباً ، وأسرّ للأم : ـ

ـ هاكي مُفتاح الأوضة ، وسُوقي ( مَحاسِن ) بِتِكْ . أمشي مع أحمد دفع الله يوَرِيكَنْ الأوضة . تَقَعِدِي بِتِك في الكُرسي ، و تملِّصيها هِديماتا و تخليها عَريانة مِيِطِي ، وأقفِلي عليهَا الأوضة بالمُفتاح دة ، وتجِيبِي هِدوُما معاكي وتعالي لينا . أنا بَكون قاعِد مع أبوكُم ( حاج الطاهِر )  هِنا .

   تضاربت الأفكار في ذهن الأم ( حاجة عَشة ) . غرائب الشيخ بين المُقَدس والمُستهجَن ، وفي ذهنها ( سيد الرايحة يِفَتِش خَشم البقرة ) . وقفت فاغِرة الفاه بلا حِراك  .

تبسم الشيخ : ـ

ـ ما تخافي يا حاجة ، بِتِك في صون النفايس ، وما بشوُف صُرَّتا غير الإسمُو بنكَتِب زوج و حَليلة ليهو بي سُنة الله ورَسولو. ما تخافي ، تطيب بِتِك و نَكسِر عين الشيطان ، و ترجع  طيبة من هِنا الليلة باذن الله .

  تنفست السيدة الصَعداء ، وتبعت "أحمد دَفع الله ". أدخلت ابنتها الغرفة ، ونزعت ثيابها ، والإبنة تكاد تبكي . أخذتها الأم في حُضنها : ـ

ـ يا كَبدة حَشاي اصُبري ، ربنا العَالِم بينا . الله كَبير ورجانا إن شاء الله ما يخِيب .

     تجلس ( مَحاسِن ) ، و يداها يتدليان بِلا حِراك . تحاول حِراكهما بِلا فائدة ، و دموعها تنهَمِر . تركتها أمها ووعدتها بأن تَعود . أخبرتها أنها سوف تُغلق عليها الغُرفة ، ولن يكون مفتاحَها إلا بيد أمها  . غادرت الأم الغرفة وهي تحمل ملابس ابنتها بعد أن أغلقت الباب وتأكدت من إحكام القِفل . عند خروجها حاملة ملابس ابنتها ، وجدت ( أحمد دفع الله ) بعيداً ينتظر ، و رافقها لصالون الشيخ  ، الذي سمِعته يردد : ـ

ـ خير... إن شاء الله خير ، إن شاء الله خير .

والتفت الشيخ للأم : ـ

ـ الحاجَّة .. عَملتِي بالوصيَّة  ؟.

ردت الأم :

ـ نعم يا شيخنا .

ـ تعالي يا حاجَة  .. المُفتاح مَعاكي ؟.

جحظت عيناها ، وهي تردد باضطراب : ـ

ـ أيوة يا شيخنا .

ـ أمشِي قِدَّامِي للأوضة .

     تحركت أرجل الأم بتثاقل ، و تملكها خوف حقيقي . وعند مدخل الغرفة

أدخلت الأم المفتاح في القفل وهي ترتَجف . أمسك الشيخ بالمفتاح وسبقها  وتمتم بعبارات التطمين ، وقرأ : ـ

ـ يا حي يا قيوم بِك أستغيث ، فاصلِح لي شأني ، و لا تتركني إلى نَفسي طَرفة عين .اللهم فاطِر السماوات والأرض ، عالِم الغيب والشهادة ، رب كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بِك من شر نفسي ، وشر الشيطان وشركه ، اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، يسر لي مما تعلمت من أحبائك عَملاً مُتقَبلا ، وأفتح لنا أبواب رحمتك , وأرحم أماً جَزِعة وأباً مكلوماً . فما كُنت أنا رفيق أولي العِلم إلا ليأخذوا بيدي ، فخير عُبادِّك العُلماء . اللهم يسر لنا من أمرنا ، وأرزق بِنتنا من طيب رِضاك ، وأغسِل حسرة أبيها  ودمع الأم ، إنك  فَرَّاج الهُموم ، اللهُّم أقمت جُهدِي  في محبَتِك ، وما خالفت شريعتك  إلا لطلب العافية  التي أنت مُجريها لمن تُحِب من عِبادَك .

   أمسك الشيخ بمِقبض الباب ، والأم من خَلفه جَزعة تتقلب في جمر العذاب ، كأنها قد فرَّطت في فلذة كَبدِها ، و دموع تطفر من عينيها رغماً عنها ،  وتمتمت بكلمات خافِتة  : ـ

ـ يا شيخنا خَليني قِدَام ، عشان أستُر البِنية .

   تبسم الشيخ وهو يضع أصبعه على فمه آمراً الأم بالصمت . وأدار مِقبض الباب ،  وأطّل على الصَبية العارية . صرخت الصَبية ، وبِلا وعي تحركت اليدان لتُغطي بهما ما بين الفَخذين . وأغلق الشيخ الباب وارتد راجِعاً ، ونظر الأم وهو يقول :

ـ حِمدالله على السلامة ، اليَدين واتحَرَكَنْ ، نحمد الله ونشكُره  . أدخُلي لَبِسي بِتِك هِدوما ، وسوقيها على الحَريم تاكُل ليها  لُقمة ، إنتو راجيكُم سفر . اللهُم بارِك في شيخنا دكتور ( هاشِم ) ، لولا فضل المولى و دروس الدكتور ، لما تيسر لنا كل هذا الخير .

عبدالله الشقليني

13/03/2005

 

 

آراء