وداعاً أيتها الهستيريا
6 January, 2010
abdallashiglini@hotmail.com
جلس الشيخ ( عبد الباسط ) جلسة صفاء ، ينشُد طقس علاجٍ عن بُعد . هو يجلس في الخلوة ، والمريض بعيداً في منـزله يتمدد على الفِراش . كأن خاطر يندلق عليه من علٍ ، يهُزه و يخاطِبه : ـ
ـ استجمِع هواء الشهيق في صدرِك حتى تَحس سخونته .مدّ يديك واستجمع قواك للشفاء ، وتمتِم بما عني لك من الحديث وانفُث البُخار من صدرك ببطء . سيل مغناطيسي يتحرك من جسدك إلى المريض ، ينقل له الدعم . يا أيتها النبتة المدفونة في الجسد ، ستجدين اليوم مُعيناً لكِ ، استنهضي كل جنود الشفاء اليوم ومديّ لنا يد المساعدة . الجسد الذي تطحنه المعارِك اليوم يستبشر خيراً .
صوت رفيق دربه وتلميذه المُحبب يقطع حبل أفكاره : ـ
ـ سيدنا الشيخ …
ـ نعم يا الحسين .
شبَّك الحسين أصابع يديه ببعضهما ، وكاد أن ينحني وهويُخفِض بصره حين قال : ـ
ـ عِندنا ضيوف ، معاهم مريضة وعندهم كِتاب من دكتور هاشم ، ودَخَّلتهم على المَضْيَفة .
تمتم الشيخ ( عبد الباسِط ) : ـ
ـ صَبُر... قُلهُم أنا جاي .
تمُر الدقائق بثِقل الساعات على الأنفس ، والعيون ترقب . بِنتٌ في الثامِنة عَشر مُنطوية على نفسها تشتت أدمعها على الخّدين ، فساعِداها الآن بِلا حِراك . امرأة بجوارها تبدو كالأم ، وشيخ في الخمسينات بادي القلق يبدو كأبيها أو عمها .
دخل الشيخ على المضيفة : ـ
ـ أهلاً بالطيبين ، أهلاً حَبابكُم عشرة .
نهض الجميع في حضرته . الأم جَزعة ، وعيناها تجحظان من القلق . هرولت السيدة لتُقبِل يد الشيخ ( عبد الباسِط ) . سحب الأخير يده بلُطف إلى صدره مؤمناً ترحابه بالجميع .
ـ استغفري رَبِك يا حاجَّة ، إن شاء الله خير .
انطلق ( حاج الطاهِر ) في الحديث بلا مُقدمات : ـ
ـ سيدنا الشيخ ، البِت جابوها لينَا من أول يوم في الأمتِحان ، يَدينا مَشلولات . ودوها المَصحة ، و منها حَولونا التجاني الماحي . دكتور ( هاشِم خلف الله ) طَمَّنا ، وأدانا الجَواب دة ليك .مدَّ الرجل بالمظروف إلى الشيخ .
تبسم الشيخ وهو يفُض المظروف وقرأ ما به مُتمهِلاً ، ثم طمأن الجميع ، ونظر إلى المدخل : ـ
ـ يا ولد .. الغدا يا ولد .
تسمع الآن وقع الأقدام مُهرولة على عَجل . وقاطعت الأم : ـ
ـ يا شيخنا طمِنَّا ، الكِسرة عِندك مَبروكة ، لكن بِتَّنا ما بتحَرِك إيديهَا !؟
فرد الشيخ :
ـ الغدا ليكم ، وهِي بتاكُل بَعد شِوية إن شاء الله .
تجولت نظرات ( حاج الطاهِر ) ، فالدهشة رفيقة الجَزع والخوف :
ـ يا شيخنا ، أنا والله من الصباح غير بُقة موية ما دخل بطني شِي .
إنخَلَعنا و حيلنَا اتهَدَّ من ساعة ما جابوهَا لينا . الليلة يا شيخنا أول يوم في امتحان الشِهادة السودانية . الله لا بارك في القِراية ، اليوم الجابا لينا يوماً أسوَد .
تبسّم الشيخ عبد الباسط ، ولبِس ثوب الهيبة . اكتست تقاطيع وجهه كِساء جديداً ، واكتسب صوته اللغة الآمِرة . صاح هو مُنادياً : ـ
ـ أحمد دفع الله ... الحبيب ... أحمد دفع الله .
فُتح الباب ، وبدا وجه شاب في العِشرينات ، بجلبَاب أبيض وغِطاء أخضر على الرأس .
ـ نَعم شيخنا ؟
ـ جَهِز أُوضة العِلاج ، فَضِيهَا و خلي فيها كُرسي خيزَران واحِد .
ـ حاضِر شيخنا .
مرّت الدقائق كأنها ساعات . رجَع أحمد دفع الله وهو يقول : ـ
ـ الأوضَة جاهزَة يا الشيخ .
انتحى الشيخ جانِباً ، وأسرّ للأم : ـ
ـ هاكي مُفتاح الأوضة ، وسُوقي ( مَحاسِن ) بِتِكْ . أمشي مع أحمد دفع الله يوَرِيكَنْ الأوضة . تَقَعِدِي بِتِك في الكُرسي ، و تملِّصيها هِديماتا و تخليها عَريانة مِيِطِي ، وأقفِلي عليهَا الأوضة بالمُفتاح دة ، وتجِيبِي هِدوُما معاكي وتعالي لينا . أنا بَكون قاعِد مع أبوكُم ( حاج الطاهِر ) هِنا .
تضاربت الأفكار في ذهن الأم ( حاجة عَشة ) . غرائب الشيخ بين المُقَدس والمُستهجَن ، وفي ذهنها ( سيد الرايحة يِفَتِش خَشم البقرة ) . وقفت فاغِرة الفاه بلا حِراك .
تبسم الشيخ : ـ
ـ ما تخافي يا حاجة ، بِتِك في صون النفايس ، وما بشوُف صُرَّتا غير الإسمُو بنكَتِب زوج و حَليلة ليهو بي سُنة الله ورَسولو. ما تخافي ، تطيب بِتِك و نَكسِر عين الشيطان ، و ترجع طيبة من هِنا الليلة باذن الله .
تنفست السيدة الصَعداء ، وتبعت "أحمد دَفع الله ". أدخلت ابنتها الغرفة ، ونزعت ثيابها ، والإبنة تكاد تبكي . أخذتها الأم في حُضنها : ـ
ـ يا كَبدة حَشاي اصُبري ، ربنا العَالِم بينا . الله كَبير ورجانا إن شاء الله ما يخِيب .
تجلس ( مَحاسِن ) ، و يداها يتدليان بِلا حِراك . تحاول حِراكهما بِلا فائدة ، و دموعها تنهَمِر . تركتها أمها ووعدتها بأن تَعود . أخبرتها أنها سوف تُغلق عليها الغُرفة ، ولن يكون مفتاحَها إلا بيد أمها . غادرت الأم الغرفة وهي تحمل ملابس ابنتها بعد أن أغلقت الباب وتأكدت من إحكام القِفل . عند خروجها حاملة ملابس ابنتها ، وجدت ( أحمد دفع الله ) بعيداً ينتظر ، و رافقها لصالون الشيخ ، الذي سمِعته يردد : ـ
ـ خير... إن شاء الله خير ، إن شاء الله خير .
والتفت الشيخ للأم : ـ
ـ الحاجَّة .. عَملتِي بالوصيَّة ؟.
ردت الأم :
ـ نعم يا شيخنا .
ـ تعالي يا حاجَة .. المُفتاح مَعاكي ؟.
جحظت عيناها ، وهي تردد باضطراب : ـ
ـ أيوة يا شيخنا .
ـ أمشِي قِدَّامِي للأوضة .
تحركت أرجل الأم بتثاقل ، و تملكها خوف حقيقي . وعند مدخل الغرفة
أدخلت الأم المفتاح في القفل وهي ترتَجف . أمسك الشيخ بالمفتاح وسبقها وتمتم بعبارات التطمين ، وقرأ : ـ
ـ يا حي يا قيوم بِك أستغيث ، فاصلِح لي شأني ، و لا تتركني إلى نَفسي طَرفة عين .اللهم فاطِر السماوات والأرض ، عالِم الغيب والشهادة ، رب كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بِك من شر نفسي ، وشر الشيطان وشركه ، اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، يسر لي مما تعلمت من أحبائك عَملاً مُتقَبلا ، وأفتح لنا أبواب رحمتك , وأرحم أماً جَزِعة وأباً مكلوماً . فما كُنت أنا رفيق أولي العِلم إلا ليأخذوا بيدي ، فخير عُبادِّك العُلماء . اللهم يسر لنا من أمرنا ، وأرزق بِنتنا من طيب رِضاك ، وأغسِل حسرة أبيها ودمع الأم ، إنك فَرَّاج الهُموم ، اللهُّم أقمت جُهدِي في محبَتِك ، وما خالفت شريعتك إلا لطلب العافية التي أنت مُجريها لمن تُحِب من عِبادَك .
أمسك الشيخ بمِقبض الباب ، والأم من خَلفه جَزعة تتقلب في جمر العذاب ، كأنها قد فرَّطت في فلذة كَبدِها ، و دموع تطفر من عينيها رغماً عنها ، وتمتمت بكلمات خافِتة : ـ
ـ يا شيخنا خَليني قِدَام ، عشان أستُر البِنية .
تبسم الشيخ وهو يضع أصبعه على فمه آمراً الأم بالصمت . وأدار مِقبض الباب ، وأطّل على الصَبية العارية . صرخت الصَبية ، وبِلا وعي تحركت اليدان لتُغطي بهما ما بين الفَخذين . وأغلق الشيخ الباب وارتد راجِعاً ، ونظر الأم وهو يقول :
ـ حِمدالله على السلامة ، اليَدين واتحَرَكَنْ ، نحمد الله ونشكُره . أدخُلي لَبِسي بِتِك هِدوما ، وسوقيها على الحَريم تاكُل ليها لُقمة ، إنتو راجيكُم سفر . اللهُم بارِك في شيخنا دكتور ( هاشِم ) ، لولا فضل المولى و دروس الدكتور ، لما تيسر لنا كل هذا الخير .
عبدالله الشقليني
13/03/2005