وداعا جنوب السودان
د. أمير حمد
8 September, 2014
8 September, 2014
ربما يكون غريبا أن يكتب الكاتب معلقا على نصوص إبداعية له كما فعلت هنا ا.. لقد شعرت برغبة جامحة في التعليق على هذه القصة وذلك من ناحية عامة لا تعنى بالضرورة بقيمتها الفنية أو طريقة تناولها للحدث أو الأسلوب أو المنولوج الداخلي (عناصر فن القصة). ما يهمني هو هذا الرباط الحقيقي الذي جمع أبناء الشمال والجنوب في منأى عن السياسات الفاشلة والتدخلات الأجنبية وإشعال الكنائس أخطاء التاريخ من جديد.
هذا جيل جديد بشعار جديد وروح ومزاج مختلف يتوجب الحفاظ عليه بعيدا عن تدخل سلطة القبيلة وسيادة سيطرة الآباء في توجيه مسيرة حياتهم المعنية باختيار العلاقات الإنسانية لا سيما مع الآخر المختلف/ عربي أفروعربي. كم منا فقد صديقا أو قريبا له في هذه الحرب وكم منا سمع عن أحداثها التي دارت في خمسينيات القرن المنصرم وما بعد ذلك بل وما قبل ذلك بدءا بلقاء العرب الشماليين والجنوبيين!.. وهو لقاء لا يختلف بالضرورة عن لقاء العرب أنفسهم بالأفارقة، (السودانيين الآن)، حيث سادت روح الهيمنة والسيطرة والاستعلاء الثقافي، ربما يكون ذلك نتاج تفوق نظام على نظام! ربما.
لم يكن المسيح متعاليا ولا الرسول محمد، بل سعيا بكل جهدهما لإسقاط الحواجز بين المجتمعات وسيادة المحبة والسلام. أين المجتمع السوداني الحالي من هذه القيم؟ وأين أبناء الجنوب من السلام المنشود مع الآخر المختلف؟ بل مع أنفسهم وقبائلهم المتناحرة؟
تقول كرستا مولر (حزب الخضر الألماني) إن كل المحاولات التي بذلت ـ لاسيما من قبل حزبها ـ لفصل جنوب السودان عن شماله باءت بالفشل في الوقت الراهن، إذ انتقلت الحرب من شماله إلى داخل الجنوب نفسه وأصبح النفط دما بدلا من أن يكون ثروة للدولتين..
حينما التقت (نانجور) بالجندي الشمالي في قصة (نانجور) عصفت رياح الحب بينهما واستسلما للفطرة الخالصة التي لا تشترط لونا.. ولا ميزة كعينيها وإنما حبا واحتراما.. واعترافا بالآخر.
هل يطلب من السودانيين غير هذا؟
جنوب السودان
عندما كرم "مورغن فري مان" الممثل الأمريكي البارع في مهرجان البريتال ببرلين على العديد من أفلامه لاسيما فيلمه عن "نيلسون مانديلا" قال جورج كلوني الممثل الأمريكي الذي طالب بانفصال الجنوب إنه كان ممكنا الاستفادة من "خيار الوحدة الطوعية" ومن تجربة جنوب أفريقيا وكفاح نيلسون مانديلا في مناهضة التمييز العرقي وتغييب الهويات. ترى شريحة كبرى من النخبة السودانية كأن جنوب السودان لم يكن في التاريخ جزءا من السودان! على النقيض تماما ترى نخب سودانية أخرى أن جنوب السودان كان جزءا مهما من السودان، إلا أنه غيب تماما وأهمل، مما كان مدعاة للقول بأنه ليس جزءا من السودان.
حينما تحدثت إلى يوناسي مانياي المستشار الإعلامي السابق في سفارة السودان، ذكر لي أن الجنوبيين لم يريدوا الانفصال منذ البدء وإنما الفيدرالية التي اعتقدت الحكومات الشمالية أنها مطالبة بالانفصال. لم يكن الجنوب – ولم يزل – مؤهلا للتعايش السلمي مع السودان بسبب الحروب الدامية بين قبائله الكبرى كالدينكا والشلك والنوير واستغلال هذا النزاع من قبل أوغندا وكينيا. نعم هناك دروس مريرة في تاريخ لُطِّخ (بالاستعباد والرق) كظاهرة كان متعارفا عليها في ذلك الوقت لم تكن تثير كثيرا من الجدل أو المطالبة باحترام حقوق الإنسان.
حينما طلب المهدي من الكركساوي تأمين الحدود الجنوبية (جنوب السودان) وتحفيز أهله على مناهضة الاستعمار الإنجليزي ترك الرسالة جانبا وانشغل باسترقاق الجنوبيين، والأمر لا يختلف البتة عن ممارسة الزبير باشا.
إنها دروس مؤلمة في تاريخ السودان إلا أن كثيرا من علاقات الود والاحترام بين الجنوبيين والشماليين ظلت حاضرة وشاهدة على انحصار هذه الظاهرة في فترات وحيز معين.
دخل الإسلام الصوفي الجنوب كرسالة حب وتسامح ووجد الناس متماهين في عالم الفن والحب والتسامح.. رقص مع الجنوبيين بطبولهم وغنوا معه، على غير ما فعلت الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية اللتان كانتا تشتريان ود الجنوبيين بالهدايا واستقطاب شيوخ القبائل وتحريضهم على كره النبي محمد والإسلام وإشعال ظاهرة الرق والاستعباد من جديد.
مذكرات جندي شمالي في حرب الجنوب:
في انتظار قطار المؤونة، الخريف والحشائش الطويلة، لا شيء سوى صوت نقيق الضفادع وحراك خفيف يتبعه تكسر أعواد يابسة الخوارج يترصدون بنا، بزيهم (البيج) زيّ المظلات. نراهم يمرون كأشباح ويختفون بين الأشجار متوحدين بلونها الأخضر يسرع.. يسرع الخوف معنا وهم بأسلحتهم الأمريكية، بخطتهم الإسرائيلية، لا يتورعون من حرق القرى ونهب الأبقار وسلب النساء والأطفال. كلمة (كودية) واحدة تكفي لهلاكنا والخندق المطوق بنا لا يمنحنا سوى الأمان قليلا.. نقيق الضفادع.. حراك خفيف فوق العشب وصوت تكسر أعواد العشب تنقلب الصورة فجأة.. لغم ينفجر في لحم الأرض وصرخات مروعة.. لهب ودخان.. الراجمات ودوي الهاونات.. هذه موسيقى الحرب، غناء الموت؛ اسمع، اصغ جيدا، هدير المدرعات وصوت الطلقات وتقاطع إيقاع الرشاشات. من يهتف عاليا وبقوة صارخا: "الله أكبر.. الله أكبر.. يعيش السودان ووحدة التراب.. الله أكبر"؟. هل كان ممكنا أن نحجب الموت عنا بالحجاب والآيات وصلاة الحرب؟ هل كان ممكنا أن تموت سريعا.. تسقط كطائر أو فراشة.. كمن يغوص في حلم سرمدي؟.
كان آخر ما قاله زميل لي الجندي قبل أن تصيبه رصاصة طائشة: "لا ترحم الخوراج".. أنا لا أتذكر الآن كل هذه الصور بعد مضي أكثر من عقد زمان وأتساءل عن جدوى الحرب (عن هذه الشعارات التي تلقيناها وحفظناها دون أن نتغور في مصداقيتها.. من هم الخوارج؟ وعلى أي أرض كنا نحارب؟).
أنا الآن أتساءل وأترحم على كل القتلى.. أكثر من مليونين. أنظر إلى الأفق المفتوح: إلى أين سيقودنا الانفصال تباعا، وحرب النفط؟ هل نحن المسئولون الأولون عن هذه الحرب الداخلية المأساوية؟ أم التدخل الأجنبي؟.
عاشقان في جبهة القتال.. في قصة (نانجور)
ما أكثر ما كتب عن قصص الحب العاثر والظروف القاسية التي تقف أمام العاشقين فيفترقان لا محالة.. حينما قاتل ونافح عنترة بن شداد عن قبيلته ووهب دمه وعمره لم يكن يطلب الغنائم ولا مردودا معنويا. كان يريد الاعتراف به ابنا من أبناء القبيلة وليس عبدا أسود، وأن يتزوج عبلة حبيبته ابنة عمه.
إلا أن الفراق الأبدي كان محكما، لم يجد معه ما قدمه هذا البطل الأسطوري الذي مات دون أن يقترن بعبلة، حبه السرمدي.
ما أكثر قصص الحب والتهويمات كسيرة أبو زيد الهلالي أو مفاجع القصص العاطفية للمنفلوطي!. ربما لا يجد هذا النوع من الأدب قبولا أو تفهما في الغرب لاختلاف منظومته الاجتماعية ونظرته المغايرة تماما لنظرة الشرق..
عندما عرض فلم (جسر على النهر) لميري استريب وكلنت إيستوود عام 1995 اهتزت السينما الأمريكية لهذه القصة العاطفية المؤلمة التي انتهت بفراق العاشقين، كلنت إيستوود المصور الفوتوغرافي وميري استريب ربة البيت المتزوجة والأم لطفلين.. يقول كلنت إيستوود عن هذا الفيلم الذي منح أكثر من أوسكار إنه حينما قرأ الرواية لأول مرة شعر باستحالة تصوير مثل هذا الفيلم في قلب أمريكا وطن النزاعات وحروب الكاوبوي والحياة المادية الصرفة واستقلال العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة. أقنع ميري استريب فأعد لهذا الفيلم أكثر من سنتين وصور في شهرين فقط.
عرف (كلنت إيستوود) كممثل كاوبوي، إلا أن انعطافته في الفترة الأخيرة نحو مثل هذه الأفلام العاطفية وأفلام الإثارة حولت صورته تماما، كتحول صورته من شاب إلى كهل تجاوز السبعين.
ما يهمني هنا هو الظروف القاسية وجماح الحب العنيف بين الرجل والمرأة وما تفرضه ظروف الحرب، وهو حال نانجور الجندية المعارضة وجندي حكومي التقيا في هذه الحرب الدامية إلا أنهما حولاها إلى حب عظيم وأسطوري .
نانجور
وهمَّت أن تنصرف، فإذا به يهتف بها:« بحق السماء يا ماري». تبادلا نظرة عميقة طويلة، فإذا الذي خـُيـِّلَ إليهما، منذ لحظة، مستحيل ٌ، صار فجأة حقيقة ً لا مناص منها.
تولستوى «الحرب والسلام»
كان الخريف في تلك القرية المهجورة أشبه بحلم قديــــــــــــــــم بذاكراتي ، سألت ُ نيانجور عن مزيج الأعشاب الذي ضمدت به جرح رصاصة في كتفي... سألتـُها وأنا أنظر إليها لأول مرة... كانت سيدة رائعة الجمال ، سامقة بقامتها الأبنوسية اللامعه، يطوق خاصرتها الضامرة وساقيها الممتلئين وجيدها الطويل عقود من الخرز المزركش. كان بعينها حزن، وجمال شفيف ، ذكرني بذاك العطر حينما لامست قدماي لأول مرة أرض الجنوب الحمراء ، قالت: كان جدي منذ صغري يعلمني أسماء بعض الأشجار، وفوائد ثمرها، واستخلاص أوراقها كوصفة طبية. لكم كان عسيراً عليّ أن أعي كل ما قاله، لقد أذهلتني إحاطته بكنه الطبيعة .
عند كل فجر أحدٍ كنت أرافق جدي، في رحلة صيد الأسماك... لكم عاد كثيرا خالي الوفاض... لاسيما عندما يرتفع مد النهر، ويجرف مركبنا العتيق، بعيداً عن محل القريه، فننصرف إلى محاولة إيقافه، وإعادته إلى الشط ثانية. أثارت تلك الأيام حفيظته، وأضرمت فيه السباب، ولعن حظه، حتى وجدتني أتردد من التجذيف معه، ثانية، خيفة أن يعزي النحس إلى إصطحابي معه غير أنني لا زلت أذكر ذاك اليوم البهيج، الذي إصطدنا فيه سمكة ذهبية ضخمه، أوهنته في سحبها من الماء... ياإلهي لكم كانت ثقيله، فهمّ بتركها... غيرأنها قفزت بغتة إلى الهواء، فاغتنم جدي الفرصة هذه... فأدار كوثلة المركب بسرعة فهوت على سطح القارب... وأخذت تتقلب كثعبان جريح... إلى أن هدأت حركتها. لم أر في حياتي جمالاً ما يضاهي غبطة جدي، البريئه، وإتلاف أساريره، في تلك اللحظة.. اخذ يرقص بخطوات بطيئة إلى أن تعثر على أحد ألواح المركبة المهمله، وسقط في الماء، ثم تعالى منه ضاحكاً، وإرتقى المركب آخذاً بيدي... رقصنا إثنتينا، تحت أشعة الشمس الذهبيه التي إنعكس بريقها الوهاج على السمكة فبدت كسبيكة ذهب.
لم نشعر بمضي الوقت... أثناء إندفاع مركبنا المنقاد للنهر... إلا حينما إرتطم بجذع شجرة غارق نصفه في الماء... فتعالى ضحكنا مع خرير النهر .عقد جدي حبل القارب حول جذع أحد الأشجار الكثه المتراصة جنباً إلى جنب. ساعتها إنسابت الريح بعذوبة بالغة، بين أرومة الأشجار.... ظللنا نتوغل طي الغابة... تحت ظلالها الداكنة فتناهي إلينا حفيف الأشجار، وإندفاع النهر القوي، وصوت تكسر الغصون اليابسة تحت إقدامنا... كنت ألمح، لفترة وجيزة، بعض الضفادع، وطيور غريبة تطل فجأة ثم تتوارى كالثعابين متوحدة مع لون الأشجار... كان جدي يتحدث دون إنقطاع، ونحن جلوس في الغابة تلك. لم أنتبه إليه، وحينما لاحظ شرودي عكف عن التحدث، وأخذ بيدي وأجلسني قبالته على كومة أعشاب يابسه، ريثما يهدأ النهر، فنرجع مجذفين.
لكم أحب جدي قريته، وقبيلته، غير أنه لم يجعلها قبيلة مختاره كما صنع الآخرون، ظل يذكرني بأن الكل يرى في ذاته، وعشيرته الجنس الأسمى... ثم شرع يقص عليّ قصة من مأثورات القرية حفظتها عن ظهر قلب (في عهد قديم حيث كانت الأشجار تتناغى في الليل، وتنفلت العصافير من أوكارها، والقنافد لتحتكم إلى الأسد الكهل... في ذلك الزمان هبطت روح أشول من سماء الجدود، على حين غفلة، لتأنس بالماضي السحيق وتصغي لهدير قطيع الأبقار مندفعاً على السهل، ولتجمع العشب الرطب، وترقص عارية تحت المطر، ثم تحث السير إلى الأكواخ العتيقة خوف حلول الظلام. عندها إغتاظت روح الأجداد فوق عرشها الإستوائي وأعلنت اللعنه على «أشول». ولم تتفق فيما بينها حول أمره فإستشاروا التوتم المقدس.... راعي أرض الجدود والأبناء، ومبارك أحلامهم...قال أحدهم أيها التوتم الجليل، لقد بارحنا (أشول) في الخفاء إلي حلّ الماضي، دون أن يخطرنا، فنزوده بالوصايا إلى صغارنا متفيئة الشجر الحفيّ، ونساءنا الأرملات، ايه لو يأتينا من هناك، بكأس مغدفةً من ماء النهر المقدس... أيها التوتم الجليل لقد حقت اللعنة عليه.. ها نحن أقعدنا التفكير في ما نصنع به. في خضوع تام إنحنت روح التوتم الجد، ثم إنصرفت دون أن تدير ظهرها له... قالت روح جد ثانٍ... مبارك أيها التوتم المقدس ، مبارك عدلك بيننا، وما تقضيه في شأن (أشول) الخائن... ما هكذا يغدر الأخ بأخيه... يبارحه دون وداع، خيفة أن يثقله بطلب ما ... وهل كنا نود سوى السلام... السلام من أرواحنا المتشببة شوقاً إلى فوضى الغاب الجميل، إلى نساءنا المتطيبات.. يطحن القمح بسواعدهن القويه... إلى نبيذنا المعتق في الجرار... ما كنا سنثقله بشئ. غير أقداح من سلسبيل نهرنا المقدس... لنتقوى به على التذكار... ثم إنحنت روح الجد الثاني، بخضوع... وإنصرفت دون أن تدير ظهرها له. غاضبة قالت روح مصارع : توتمنا المقدس، لقد أساء أشول إلى تسامحك، وتقريبك له... فأعلن تمرده عليك، ورفض بقاءه بيننا فهبط إلى الأقاصي... أيها التوتم المقدس، سدى أن تنتظر إيابه، والتآمر عليه في غيابه... لذا أستمحيك الإذن بالهبوط إلى الأقاصي... حلّ ماضينا، فآتي به أو إقتص منه، حيث ثقفته، لقد إستحق اللعنه لهبوطه... من منا لا يود الرجوع ثانية... مبارك أيها التوتم المقدس هلا أذنت لي بالهبوط قبل أن يعلن أشول عودته بين الأبناء هناك... فيختصونه إلهاً بدلاً عنك فيظلم حلّ ماضينا وتنبجس الدماء، ويطوق الغرباء. هلا أذنت لي بالهبوط... فقد خبرت الحرب، ولي اكسير في الدم ثم إنصرف، بتهذيب ... بخشوع جم نظرت الأرواح إلى التوتم... وهو يقول كلكم يود الأوبة إلى الأقاصي. وتظاهر بمحبتي، ورغبته الجارفة في البقاء، جوارى في مملكة الأرواح... ولكن ها أنتم تنقضون عهدكم ، فمنكم من يسعى إلى نيل الخلود، بشربة من النهر المقدس، ويؤثر الهبوط قبل أن يرتد طرفه... منكم من يود نسيان حزنه، برشفة من النبيذ المعتق، وآخر تشده الدماء، أيما شد، فلتهبطوا جميعاً إلى الأقاصي تلاحقكم اللعنة ، حيث ثقفتم، إلا أشول فإنه كان صادقاً، جريئاً لم يماطل، ويكتم خبثاً مثلكم... لقد هبط وأعلن تحديه، صراحةً فليهنأ في الأقاصي... ملكاً عليكم والأبناء.
مذعنة باركت الأرواح التوتم ثم هبطت إلى حلها الإستوائي جوار النهر... منذ ذلك العهد... حيث كانت الأشجار تتناغى في الليل، وتحتكم القنافد والطير إلى الأسد الكهل، ساد أشول قبيلته برمتها... ويقال أنه لا يزال يحكم هناك ... يحظى بلقائه من شغف قلبه، بحب موطنه.)
وسط هذه الغابة التي تراءت كبحيرة طي صحراء كنت استمع الي نيانجور. وهي ساهمة في الافق المفتوح خلف الغابة .قالت مواصلة حديث جدها (بنيتي فلتصغي مليا إلى ما رواه الرث مجوك وهو مقتعد، في الليل صخرة كساها الطحلب بلون شذري، وسط العشب البليل، ولفيف أشجار الجميز، على مقربة من النهرابنائي إنني ذاهب مع أدراج الرياح، كما الجدود، ولن يبقى من ذكرى سوى قصص ما تلوكها الألسن. أبنائي تحت هذه الأرض يجري دم مبوء، ستقاتلون من أجله، فتقاتلون دفاعا عنه وعنكم، إلى أن تستمرون قتال بعضكم لبعض وتكون فتنة بين القبائل. مالي أراكم تضربون في التيه؟ ثم خط الرث بعصاه على الأرض خطوطا متقاطعة، ونظر إلى النجوم التي بدت كأقراص ملتهبة وقال: الأمر أعظم من بغض غيركم لكم، وإحكامهم للسلاسل حول سيقانكم. أعظم من ترككم لتوتم القبيلة وتمجيدكم للصليب والبيض. سيأتي اليوم الذي تأتمنون فيه من تثقون فيه وحاشيته. إلا أنهم سيركنون إلى مطامعهم كشأن المتآمرين هناك، ثم أشار الرث بعصاه إلى الأفق المفتوح خلف الغابة. في تلك اللحظة كان النهر يمور بحدة ويلفظ الطمى كالسمك الميت، وهو متجه شمالا) .
صمتت نيانجور بغتة ونظرت إلي دخان حريق متسامق خلف الغابة.هي الحرب تشعل نارها في الغاب,فتحرقه وحيوانه والمراتع.
واصلت نيانجور حديث جدها وقد اكتسيت ملامح وجهها بحزن شفيف (هم الساهرون رماة الحدق، برماحهم التبر ـ المروىـ بالعشب النهري مغدقة اكواخ القرية. غابة من حريق وغزالة مفزعة. نسوة يتمايسن كالقصب البري في مهب الريح . هي السماء جاحدة بالفصول . قلبي عليك قريتي حل الأستواء. جراح ورسوم ونقوش رجل أفرده الخوف يلوح بالعبور، أمة معطوبة وسواعد من خشب. تكاد تترجل الأواني المعلقة ، القوس، والبومة المحنطة . أتذكرهم؟ هؤلاك الملوك الحائطيون، وريح مدله يطعن خاصرة النهر.....يطلي بريشته الموج ؟ ربما تستنطقهم ذكرى السلاسل والبوق النحاسي ململم آخر المحاربين الأقوياء. هو الزند المطوق بالتمائم ووشم ملكي على الجبين من يراقص بندول الموج بعد؟ النوارس بارحت والحالمون!
ايه فردوس قريتي! هو الأبنوس عارٍ مكتسي باهابه. رب أطلال كنيسة تتناسل وتكون على عدد الأشجار. دقات الطبل تنتظم الساحة بالفتنة الهائجين خلف القطيع. رب توتم يتدلى فتنفرط الأساطير من سمر الجدود. قافلة تتراقص في قرص الشمس قافلة العرق الأنقى مثقلة بالعاج بالتاج وهزبر مقتول. .مساء غريب يلتحف الدرب , يهدهد على ساعده قريتي حل الاستواء . رضيع يتوحد بالحزن ، يفتتح حياته بالذكرى. هاهو الحاجب المتعب بباب المدينة, والعمى وفوضى الضياء..من يقتفي من؟ حذاري! شراك فهود وألغام تتوالد في لحم الأرض. هو النبيذ المعتق في الخوابي ونسوة ماهرات يتحدين بالكأس العشرين الندماء. مولود ذو شأن يلقى في النهر، يقول وداعا أيها الجنوب الذي أفقده سيكون بعدي لغط كثير. كقناع مهرج تسقط الحرب فناعها يستدير العذاب تطول الحظوظ العاثرة . وفيلق لا ينام. قلي عليك قريتي حل الاستواء!بالعرس البربري ، محاصرة سماءك والنهر....نهرك المقدس استقال ! ماله استمرأ الإلتفات!!! قدما يسير إلى الوراء، ماله!
عجبت كيف حفظت نياتجور كل مأثورات جدها وقبيلتها .
نهضت مشرعة ساعديها، كأنها تود عناق غائب عزيز، عاد، ثم شرعت ترقص تحت المطر الذي تجمعت غيومه بسرعة. كانت تتثنى بقامتها الأبنوسية اللامعة. فالتصقت ـ تحت المطرـ تقاطيع جسدها وتكور أثدائها على تنورتها المبتلة. كانت وكان المطر بصوته الثاقب وفوضى الغاب الجميل. ساءلت نفسي ساعتها عن جدوى الحرب التي دعتنا إليها بشعاراتها الغامضة ..الجهاد وحدة التراب وقمع التمرد.... ساءلت نفسي عن رفاقي الجنود اللذين سقطوا في جبهة القتال، مخلفين وراءهم إيتاما وذكرى. الحياة حلوة وثمينة ، لو ندرك كنهها. هكذا أفضي إليَّ أحد الجنود وهو يعالج سكرات الموت في جبهة القتال. كان الأفق حولنا ممزقاً بدوي الطلقات الطائشة وقصف المدافع ، لاندري من اين يثب الموت.القث عيناي مصرع عديد من رفاقي الجنود وبعض الذين ناشدونا متوسلين بان نطلق عليهم رصاصة الرحمة تحت وطاة جراحهم المروعة« اضغط علي الزنادَ ، آزرني ، لم أعد أطيق مرارة الألم» « اصبر لا تيأس ، بحق السماء» .. كان هذا كل ما نملكه ، لتضميد جراحهم !
تبدد كل شيء من حولي وذكريات الحرب وجنون البطولة ، حينما أبصرت نيانجور راقصة أمامي في دعة ولا اكتراث. اعتراني وله ، فوددت أن أراقصها ، فنذوب معا، كتمثالي شمع، تحت قرص الشمس الملتهب . وددت ، إلا أن جرح رصاصة في كتفي أقعدني بقدح ألمه ووخزه ، رغم تضميد نيانجور له.
كنت أبصرها بدثارها المبتل، وهي راقصة تحت المطر وضياء البرق المتقطع فبدت بين الظلام والضياء، كفراشة حائرة. هنا التقيتها... «نيانجور» حواء الأزلية المتأبية، التي لم يهبن لها قدري إلا كقربان في جبهة القتال. وأنا محاصر تحت قبة السماء الإستوائية بلفيف أشجار الجميز،وأعشاب المانجروف «الطويلة الكثة، ورائحة الطمى والصفق المبتل .
طافت بذاكرتي أبيات شعر حفظتها منذ أمد قديـــــــــم:
عند الغروب
عندما يضج الدم
في عروق غابات قصية
ذينك ذات الظلال الداكنة
عندما
تلتحف السماء
بزي حريق خافت
تؤوب الئ اوكارها
طيورافريقيا
ويبدأ ثملا
\ حوار الليل
من عقد اللغة
تنفرط الكلمات. 1
جلست نيانجور بهدوء لصقي وقد اوهنها الرقص ووخز المطر ، ثم تابعت حديثها : (لكم أغدقني الحنين لرؤية جدي وأبي والتوج في (واو) الذي كنت أرتاده وقتذاك . لا أدري ماذا صنعت الحرب بعد بأمي، وعما إذا كان أبي على قيد الحياة أم أهلكه المرض، والكبر! لم يكن يهاب الموت ككل محاربي القبيله، فنشأ أخي على مقولته، توهب الحياة لمن لا يحرص عليها . كان أخي عاطلا عن العمل ككثير من ابناء الدينكا ، اثناء اندلاع الحرب في الجنوب . ظل يتكسب من أجور يومية زهيدة الي ان تبرعمت المقاومة هناك في الاستوائية,مغرية ابناء الدينكا ومحاربي القبائل بمستقبل زاهٍ وكفالة من العوز والتسيب , فانضم أخي إليها. كنت أحس بتفضيل أبي له علي شخصي ,لا ادري لماذا بحق السماء! ما من مبرر او سبب.
رغم تزوج ابي بنساء عده قبل أمي، وبعدها غير أنه كان يؤثرها عليهن كما يبدو فكم كان يعود من معسكر الأبقار ليجلس معنا إلى منتصف الليل. لم يكن يعير طقوس القبيلة والحراب المقدسة، والزعامة إهتماماً مثل حبه لقطيعه وقطعه المسافات الطويلة، راجلاً مترنماً.
حينما شعر جدي بنفوري منه، لتزوجه على أمي، وتظاهري بالنوم حين قدومه، حاول تزكيته بالكرم وحبه للسلام كالعرب ، إلا أن بعضهم كانوا يتاجرون بالأخشاب وجلود الفهود، والعاج على الشريط الرعوي الفاصل بيننا وبينهم. كان جدي يحذره من مصاحبة العرب، وائتمانهم، خيفة أن تتربص القبيلة به، إلا أنه كان يجيد الحديث ولا يفتأ يحوره، ليبرر هفواته.. حتى لقبه جدي ( بالحرباء ). كنت أحسه كالغريب بيننا لا سيما حين يحتد النقاش بينه وبين أمي... إلا أنها كانت تطيب خاطري وتقول لي بأنه كغيره من رجال الدينكا1 مزواج، ومزاجي ... وأنه ما من ثمة سبب يحملني على الحقد عليه، فقد تزوجته دون إكتراث بشعور زوجاته الأوائل... وهكذا تقبلته، حينما تزوج عليّها... كانت تتحدث كأن لم يكن شيئا.
لقد تزوج أبي بخمسة نساء، كلهن من أسر فقراء الدينكا. لم يكن ذلك محض صدفه، وإنما لعدم توفره على قطيع أبقار ضخم يقدم جزءا منه كمهر لهن . ظللت أرافقه في مراعي القرية، فقال لي في ذات مرة ، من لا يملك بقرة ، لا يملك إمرأه.... لم أفطن إلى ما أسر به إلي إلا حينما أردت مدرسة يقوم على أمرها رجال الكنيسة. قال القس لنا، في حديثه عن الدين المسيحي بأن الإنسان لا يقيَّم بأي شيء . فتذكرت قول أبي «من لا يملك بقرة لا يملك إمرأة». فأخبرت جدي بالتباس الأمر علىّ، فقال لي: إبنتي ثمة من لا يفهم كيف نعيش، أو لا يريد أن يفهم... لا عليك إن أباك ككل أبناء الدينكا. وأشجار الغابة تلك تنمو كما الأخريات، وتشيخ مثلهن. حينما أبت من الخرطوم، لم يسألن أبي، أين كنت أو ماذا صنعت في غيبتي. إبتسم إبتسامتة الباردة تلك، ومسح بيده الخشنة على خدي، ثم إنصرف. سألت أمي عن كنهه الغريب، فقالت وهي تنظر في كفها كأنها تستقرىء قدراً:
كثيراً كنت أسأل نفسي عنه، عن كنهه، لا سيما حينما يكتمل قرص القمر فتومض عيناه، فينشد مأخوذاً بشيئ ما ويهمهم ببعض أسماء رفاقه، قتلى الحرب. كنت أمنّي نفسي بأنني زوجته الوحيدة، فأحسبه دافئاً كالحليب المتدفق من ضروع الابقار.
ثمة إحساس ما انتابني، بأنه شخص آخر... حرباء كما وصفه جدك. لا أدري ربما هي الحرب التي تميت شعور الرجال، ربما..
صمتت نيانجور وقد كان صوتها الاسر طوال حديثها يتناهي الي مسمعي بين تحفاف الشجر كنداء بعيد . كيف استحالت الحرب الي سلام في هذا المساء بحق السماء! كيف استحالت نيانجور جندية في المعارضة الي مدنية تضمد جراحي ,وأنا جندي من الشمال مناهض لتنظيمها، انها تعلم كل هذا واخطاء الحرب وقدرينا. نظرت إليَّ نظرة عميقة فهممت أن أعانقها .. وأفض ُّ لها ما يختلج في دواخلي إلا انها نهضت قائلة: لانتعطف يسارا فوحداتنا المعارضة بالمرصاد , تم توارت بين الاعشاب الكثة الطويلة مقتفية شعاع مصباحها اليدوي الكابي وهو يطلي بساط العشب بلون تبري . تأبطتُ سلاحي وذخيرتي وسرتُ يمينا ناشدا كتيبتنا عند طرف الغابة بين المتاريس وتخوم قرية مهجورة . سرت قدما وخواطري ترتد بي الي الوراء مقتفية اثر نيانجور.
مهداة هذه القصة للاخ الصديق اسامه الطيب سعد ـ في كندا
والى باترك الصديق الاسترالي الناشط في مجالي حقوق الانسان وحماية البيئة .
= فازت هذه القصة ضمن أعمال أدبية أخرى بجائزة من منظمة «اشتراوب» الألمانية,كما قرء جزءا منها بالألمانية في دار ثقافات العالم ببرلين.
إشارات:
الرث : هو الزعيم الروحي للقبائل النيلية بجنوب السودان
التوح: منخفض في المرتفعات العالية تتجمع فيه مياه الأمطار
رماة الحدق: هكذا وصف العرب الفاتحون نصف ساكني شمال السودان (النوبا) لإجادتهم إصابة الهدف.
مروى: اسم مدينة أثرية شمال السودان، حاضرة مملكة مروى
(1) المقطع الشعري المذكور هو جزء من قصيدة للشاعر صلاح يوسف
amir.nasir@gmx.de
///////////