قد يعتقد الكثيرون أن مُبدعينا من طينة أخرى وأن للإبداع أثرٌ في تغيير الأفراد إلى السلوك المقبول والمتوازن . لقد تربى المُبدعون في الثلاثينات وأربعينات القرن العشرين ورضعوا من ذات المنظومة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا في بطنها، ولم يشفع لبعضهم أنهم مُبدعون قلباً وقالباً. شربت عقولهم من ذات الدنّ الثقافي الاجتماعي ، بل سكرت وأسكرت . عند النظر الفاحص في طبيعة هؤلاء من خلال سيرتهم ، نجدهم وقد تجاوزوا مجتماعتهم ، في النهج الإبداعي . و رغم ذلك يعاني بعضهم الكثير من الاضطراب . ربما تكون في خصال بعض المُبدعين جزء من الغرابة عندما ننظر لها الآن ، ولكن بعضها يجعلنا نُفكر في مسلك بعض الشخصيات والتي هي من أثر المجتمعات التي نشأوا فيها مع تغيير طفيف. وليس في ذلك أدنى غرابة .
ربما نعرف عن أساطين الفن الذي يعبِّر عن ما نسميه بحقيبة الفن في منطقة العاصمة السودانية ، أوائل إلى منتصف القرن العشرين ،كانوا يتميّزون بالشلليّة . يختار الشاعر صديقاً من أحد المطربين ويخلقان مجموعة أو شُلة تجمعهم بعض الخصال. وحاجة الشُعراء للملحنين والمطربين ليذيع صيتهم ، وحاجة الملحنين لشعراء الأغنية ليتمكنوا من الخروج عن المألوف منافسة لأغنيات " السباتة " ، والحاجة لتطوير كلمات الأغاني مع حمل الأيقونات التي تُنبّه السامع إلى أن شيئاً جديداً طرأ على مسيرة الأغنية السودانية . نما بين تلك الثنائيات تنافس ، وغيرة حتى وصلت مناطق قريبة من الحسد ، رغم أن الإبداع شِعراً أو غناء لم يدر مالاً أو حتى مكانة اجتماعية ، بل وصفهم المجتمع بأنهم محض " صُيّيع " . ولذلك لا نستعجب كثيراً لهذا التنافس ، ولكننا نتوقف عند خصلة الحسد ، وهي آفة السودانيين التي ذاعت وتحدث عنها حتى بعض أفراد رجال الإستعمار البريطاني .
فكثيراً ما نسمع قصة مُجاراة القصيدة أو لحن الأغنية ، ونعتبره من شقاوة المبدعين وتنافسهم الذي يطوِّر الشِعر واللحن والغناء . ولكننا إن توغلنا في أعماق هؤلاء المبدعين ، نجد أن التنافس الذي يطور الفنون ، وقد تعملق وأضحى حسداً وكُرهاً للآخر في بعض الأحايين . وينتج شعوراً نفسياً مُدمراً بين الصحاب وأهل " الكار" الواحد.
(2) الصحافي المُخضرم الأستاذ " عبدالله رجب " وقد كتب جزء من سيرة تاريخ حياته مدمجة في منظور تاريخ ثقافي واجتماعي للحياة السودانية، منذ أن شب فتى في عشرينات القرن العشرين وإلى ثمانينياته . كتب الأستاذ مذكراته في الخمسينات ونشرها في صحيفته " الصراحة " (1949- 1960 ) . وبعد إحالته إلى المعاش من عمله الصحافي في القصر الجمهوري عام 1985 ، عكف على زيارة " دار الوثائق السودانية في الخرطوم " ، وذلك لسد الثقرات التاريخية وتوثيقها وتجديد " مذكرات أغبش " .ورأى أن يكتب تاريخ المجتمع الذي كان هو شاهد عيان لتطوره خلال العهد الاستعماري والوطني ، وينافس في ذلك تأريخ طبقات " ود ضيف الله " كما كان صاحب "الصراحة " يأمل.
قام صديقنا الصحافي والإعلامي " عبدالحفيظ عبدالله رجب " بطباعة متن" مذكرات أغبش " في مدينة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1987 م. وكان البروفيسور" عبدالله علي إبراهيم " قد أبدى رغبة في تحقيق "مذكرات أغبش " ، ولم ندر ما صار إليه الأمر.
نعود للحدث التاريخي الذي أورده الأستاذ " عبدالله رجب " بمدينة " سنجة " خلال أحد الأيام في السنوات (1935-1936) ، حيث ذكر حادثة غريبة بدرت من المطرب والملحن الموهوب " محمد أحمد سرور" ، تكشف عن حسد مدفون في نفسه تجاه الفنان " خليل فرح " ، رغم أن الفنان قد رحل عن دُنيانا عام 1932 ، فكيف طفحت خصلة الحسد تجاه رجلٍ رحل قبل ثلاث سنوات !
(3)
نقل عن الأستاذ " عبدالله رجب " ما خطه قلمه في " مذكرات أغبش " : لماذا حطم سرور الأسطوانة ؟ ولم ير أغبش الفنان سرور في تلك المناسبة التي بدأ فيها أنه كان مسافراً قبلي السوكي إلى أين؟ – لست أدري – حيث لم يلب دعوتنا ولم نذهب للتسليم عليه،لأن المطر كان يصب علينا بمستوى قصيدة خليفة خوجلي . ولكن في سنة 1935 أم 1936 كان أغبش يدير مكتبة ، ودكاناً بسنجة – وكان الدكان قريب من موقف اللواري – فسمع من يقول أن سروراً اليوم بالبلد وهو الآن جالس بطرف قهوة" إبراهيم أحمد حسن " فخفق قلبي وجريت ، ورحبت به ، مع أصدقاء آخرين ، وطلبنا الليموناده والشيايات والقهوات – وأرسلت لدكان "يني سكتلي" وأحضرت بسكويتاً إنجليزياً راقياً معبأ في صناديق الصفيح المستطيلة ( ماركة هنتلي – و- بالمر ) وأظن أن سروراً قال لنا أنه لا يستطيع أن يتخلف من رحلته إلى الرصيرص أوالكرمك ( ولا أذكر) .
كان المقهى به فونغراف كبير وحاول الجرسون أن يتظرّف وأوقف الأسطوانة الدائرة . وفتش عن أسطوانة لسرور ووجدها مكسورة . وفتش أسطوانة ( ليالي العودة نعيم وسرور – الحج مبرور ومقبول يا سرور، فلم يجدها . فماذا صنع ؟ قام الجرسون بتركيب أسطوانة " خليل فرح" " عزة في هواك " فماذا هناك ؟ رأينا سروراً يتجهم وجهه . ويقف بقامته المديدة . ويهرول نحو الفنوغراف .ويخطف السماعة بشدة . ويقتلع الأسطوانة.وكأنما كان سروراً واقفاً على مسرح ، رفع الأسطوانة وكسرها قطعتين بين يديه ، ثم ألقى بها على الطربيزة ! . وَجَمنا جميعاً . وما كان يمكن لأحدنا أن يخاشنه – ولكنه إذا عاد لنا فلا بد أن نطلب منه تنويرنا أو تركيبنا لنفهم اللغزوموقفه من الأسطوانة ومن خليل فرح ( رحمهما الله ).
ها هنا جاء الأخ "إبراهيم أحمد حسن" ( رحمه الله ) وكان غائباً - وهو صاحب المقهى - وأصله من أم درمان ومن جيران آل بدري وكاشف ( وخليل فرح ) بشارع السيد"علي الميرغني" .ورحب بالضيف ترحيباً شديداً . ولم يسمح لأحد بالسؤال والاعتذار عن ليلة السوكي.
ألا يوجد من يفسر لنا موقف المرحوم سرور من أسطوانة ( عزة في هواك)؟.
(4) في يوم عمل كان هادئاً من زحام المطلوبات ، كان برقتنا العم " كامل السيد حمدون " ، وكان يعمل معنا في ثمانينات القرن العشرين مراقب مباني - ويعمل بالمشاهرة لأن عمره حينذاك فوق الستين- عند تشييد " مستشفى الحوادث بسوبا " الذي يتبع لجامعة الخرطوم ، وتقوم الإدارة الهندسية بالجامعة بتصميمه والإشراف على تنفيذه . وكان العم " كامل "خلال أيام شبابه يعمل مساعداً لمطربي زمن الحقيبة ، وعلى يديه تعلم الفنان العظيم " عثمان حسين " العزف على آلة العود. وكان يقول لنا أنه يحفظ عدد (1000) أغنية من أغنيات الحقيبة حكى لنا عن مناسبة تسجيل أسطوانتين لخليل فرح : أغنية " عازة في هواك " والتي اقتبس لحنها " خليل فرح " من مارش " ود الشريف " .وكانت معزوفة صديقه " محمود سوميت " -وهو موسيقي في الأورطة السودانية - ويذكر التاريخ أن مدرسة " سوميت الإبتدائية " الأهلية بدأت أعمالها في " حي الظباط " في أم درمان في أوائل العهد الاستعماري - والأسطوانة الثانية كانت إنشاداً لقصيدة " أعبدة ما ينسى مودتك " للشاعر القرشي " عمر ابن أبي ربيعة ". زار "خليل فرح "القاهرة ، وتوعك ، ولازم فراش مستشفى " القصر العيني " بالقاهرة من داء الصدر . زاره المطربان " كرومة " والأمين برهان " .وقد عرض عليهم المتعهد الذي يقوم بتجهير الأسطونات " أوديون " مبلغاً لم يرتضيه المطربان . وعرض عليهما " خليل " الاستعانة بصديقه " الأرمني " ميشان" ليتفقا معه . وعندما علم " أوديون " بالخبر ، قام بتخفيض سعره وتعاقد معهما . وعندما قام " ميشان " بتجهير خامة الأسطوانات " كان الأمر قد انقضى . ورأى " خليل فرح " بأن يقوم بتسجيل أغنية " عازة في هواك " . قام " خليل فرح " أثناء تواجده بمستشفى القصر العيني ، بتدريب قريب " ميشان " وهو " ميشو أرمناك " على موسيقى المقدمة للأغنية . وتم تنفيذ التسجيل داخل المستشفى . تم وضع المساند لخليل فرح ، وعامل نوبي كان يحمل مايك التسجيل . وتم تسجيل الأغنية . وبعد الإجهاد رأى " خليل " أن يقوم بالإنشاد ، وهي القصيدة التي ذكرناها سابقاً " أعبدة ما ينسى مودتكِ".
ذكر لنا عم " كامل " أن الصوت الذي ظهر به " خليل فرح " في التسجيل ، كان أقل جمالاً من صوته الطبيعي الجهور .ولولا تلك المصادفة ، لما تسنّى لنا سماع صوته الطروب.
(5)
أيعقل أن مُبدعاً كخليل فرح ، يُثير كل تلك الغيرة وحسد الحاج " محمد أحمد سرور "؟ لقد كان المبدع " خليل فرح " يعزف العود ، ويُشعِر ، من الشعر العامي والفصيح ويُلحّن ويغني . ولكنه لم يتغنى في الأفراح أو المناسبات العامة . كان يحب الجلوس مع أصدقائه وسُمّاره ويتغنى بينهم ومعهم.
" خليل فرح " يمكن تصنيفه على درجة عالية من التعليم والمعرفة الثقافية ، فقد تخرج من " غردون التذكارية " وتمرّس على قول الشعر الطليق . وكان مطلعاً على الآداب العربية ،قرأ مثلاً ديوان البُحتري وأبونواس واطّلع على كتاب الأغاني لأبوالفرج الأصهاني. وأتقن الشعر بأنواعه . لم يكُن " خليل " طرفاً في الفرق التي تكونت والشللية التي نمت ، والمنافسة التي نشأت . كان الفريق الأول مكوناً من " محمد أحمد سرور " وصديقه الشاعر " عبيد عبد الرحمن " من طرف ، ومن الطرف الآخر الفريق الثاني يتكون من " المطرب " عمر البنا " والشاعر" صالح عبد السيد أبوصلاح".
إذا كانت التخصصات في هندسة الميكانيكا ، فخليل ذو باع واختصاص ، أما " سرور " فهو في أعلى تأهيله المُكتسب " فني ميكانيكا " ، لا ينافس . ربما يكون " محمد أحمد سرور " كما كان يحب أن يوصفه الكل ( عميد الفن السوداني ) ، فهو بالفعل مُلحن ومُطرب ، ولكن " خليل " يفوقه فهو شاعر ومُلحن قدير ومغني مبدع وعازف عود.
الفرق كبير لا شك بين الاثنين ، وربما هي من زفرات حسد العامة من المثقفين ، الذين يعتبرهم العُرف مُترفعين عن شئون الشعب و أفراحه . و " خليل " صاحب شعر وطني ، متعمق في الرمز ، ويُخادع رجال قلم الاستخبارات في عصره ويغلبهم .
كان " محمد أحمد سرور " يعتقد أنه قائد مُبدع ، ولكن "خليل فرح " بقامته البهيّة ، التي لا يستطيع منافستها . وتلك ربما سبب هذه الغيرة ، والانفعال والغضب . و صفة الحسد ربما كانت شائعة بين مُبدعي ذلك العصر. وهي جزء من تركة وأحمال ثقافة المجتمع وآثارها السالبة .
21فبراير 2018 عبدالله الشقليني 15 فبراير 2018 alshiglini@gmail.com