ورحل الماجدان مأسوفاً عليهما 2/2

استاجرنا شقة بذات الشارع، خصوصا بسبب ان موقعها مثالي للغاية، لانها مجاورة لسفارة السودان، وكذلك لانها كانت على مسافة عشر دقائق مشياً على الاقدام من ميدان التحرير الذي يطل عليه مبنى المعهد الدبلوماسي الذي انعقدت فيه الدورة التي ابتعثنا اليها.
كانت سفارة السودان عند وصولنا الى القاهرة في اواخر عام 1987م، تغص بعدد كبير جدا من الدبلوماسيين والموظفين والملحقين في مختلف الوظائف والمسميات، تحت قيادة رئيس البعثة آنئذٍ، السفير المحترم والقدير الاستاذ الامين عبد اللطيف، أطال بقاءه ومتعه بالصحة والعافية. وقد كانت صلتنا بالسفارة وجميع منسوبيها طيبة بطبيعة الحال، بحكم الزمالة. وشهدنا حفل الاستقبال الذي اقامته السفارة بمناسبة حلول الذكرى الثالثة لاندلاع انتفاضة ابريل 1985م بدار سكن سعادة السفير بضاحية المعادي، الذي امه جمع غفير من المدعوين من رجال الدولة والمجتمع المصري ، واعضاء السلك الدبلوماسي، الى جانب ثلة من الصحفيين والفنانين من بينهم الفنانة ماجدة الصباحي على ما أذكر، وكانت قد بدأت تطعن في السن شيئا ما، بالاضافة الى العشرات من وجوه الجالية السودانية المقيمة بمصر وأعيانها.
كانت الحركة المسرحية مزدهرة انئذ بالقاهرة، وكنا نشاهد ونحن نذرع الشارع في كل صباح متجهين نحو المعهد، الملصقات الدعائية للمسرحيات التي كانت تعرض آنئذ، ومنها مسرحيتا " الواد سيد الشغال " بطولة الزعيم عادل امام، و " فارس وبني خيبان " لنجم الكوميديا المخضرم سمير غانم، وغيرها، بمسارح العتبة وباب اللوق والسلام المجاور لمسكننا.
والشئ بالشئ يُذكر، كنا نستمتع برسومات فنان الكاريكاتور العبقري الاستاذ مصطفى حسين رحمه الله وتعليقاته الطريفة كل صباح. ومنها على سبيل المثال، أن احدى مروجات الحشيش قالت لأحد اولادها: وعملتوا ايه يا اولاد لمًا الكبسة جات ؟ فرد عليها: لقيتني " بنجو " بنفسي يمة !!.
وحل شهر رمضان المبارك على ما اذكر بعد ايام قليلة من انتقالنا الى الشقة التي استأجرناها، فاستمتعنا ببرامج التلفزيون تزجية للوقت. شاهدنا نقل مباريات عديدة لكرة القدم بتعليق الكابتن علي زيوار، وعاصرنا فوز المريخ على الزمالك بدبي بركلة جزاء احرزها الكابتن حامد بريمة، فكتبت احد الصحف الرياضية المصرية منشيتاً ساخراً يقول: " عادت ريمة على يد بريمة !! "، وتابعنا بخشوع أحاديث الشيخ الشعراوي وتفسيره للقرآن، وشاهدنا عشرات الافلام العربية القديمة ابيض واسود، وضحكنا مع الشاويش عطية وهو يكاد يتميز من الغيظ مخاطباً اسماعيل يس: " وظيفتك على المدفع بُروروم ؟؟! ".
امضينا فترة تدريبية من اروع ما يكون من حيث الفائدة العلمية والمهنية والعملية والثقافية والاجتماعية ، والانفتاح الحقيقي على عالم الدبلوماسية العالمية ، من نافذة دولة رائدة وذات ارث تراكمي باذخ ، وتجارب ثرة في هذا المجال في الفضائين العربي والافريقي والعالم ثالثي بصفة عامة.
شهدنا الى جانب المحاضرات الراتبة في الاقتصاد والعلوم السياسية والتجارة الدولية والقانون الدولي والمنظمات الدولية وفنون التفاوض والمباحثات وما اليها، محاضرات اخرى عامة قدمها لنا كبار المسؤولين والاكاديميين والصحفيين ورجال السياسة والمجتمع المصريين والاجانب الذي كانوا يلمون بالعاصمة المصرية لاغراض مختلفة، وقد ملئنا فخرًا وطالت اعناقنا انا وياسر ، عندما حاضرنا ورفاقنا المصريين في ذات السياق ، السفيران القديران الراحلان الدكتور بشير البكري والدكتور اشول دينج في مناسبتين مختلفتين على التوالي.
هذا وقد كانت احب المحاضرات واخفها على قلوبنا ، محاضرات المرحوم السفير المخضرم تحسين بشير عن تاريخ مصر الحديث التي كان يلقيها علينا بصوته الصحل المميز، وكيف أن المدفع الفرنساوي تغلّب على السيف المملوكي الخ، كما كان يحدثنا عن هتافات النخبة المصرية ابان ثورة 1919م، المفرطة في الفصاحة الى درجة مثيرة للسخرية والضحك من قبيل: " الاستقلال التام أو الموت الزؤام !! " وخصوصاً محاضرات الدكتور الشاب آتئذ احمد عبد الله رزة رحمه الله، عن تاريخ مصر المعاصر. ربما لانه كان قريبا منا نوعا ما في السن، علاوة على قدرته الفائقة في السرد ، واستدعاء حكايات تجاربه الخاصة كمناضل وقيادي طلابي في الحقبة الساداتية، وحكاوي عصاميته وعمله بالمطاعم في بريطانيا وغسليه الاطباق الخ حتى حصل على الدكتوراه من جامعة كيمبردج.
وتزامنت فترة اقامتنا في القاهرة مع حدث رياضي كبير ما يزال كثير من السودانيين يذكرونه بحسرة كبيرة، ربما حتى يطلق إسرافيل صافرة النهاية، الا وهي مباراة فريقي الهلال والاهلي المصري في نهائي كاس بطولة افريقيا للاندية في ديسمبر 1987م، والتي انتهت بفوز الاهلي بنتيجة هدفين لصفر ، وحصوله على الكاس، على الرغم من انهم يرون ان حكم تلك المباراة المدعو لاراش، قد ظلم الهلال ونقض له هدفا صحيحا مئة بالمئة سجله اللاعب وليد طاشين.
مهما يكن من امر، فان من طريف المواقف التي تعرضنا لها انا وياسر انئذ، ان كواءً خفيف الظل ، محله في اسفل العمارة المجاورة لعمارتنا كنا زبائنه، ظل يغيظنا كل ما يرانا لاسابيع وهو يصيح " هزّ هلالك يا أهلي !! "، وكنا نضحك على كل حال، اذ لم يكن الامر يخرج عن طبع التريقة والمزاح المصري النموذجي.
عدنا الى الخرطوم بعد انتهاء تلك الفترة التدريبية، ولم نكد نكمل عاما واحدا ، حتى صدر كشف تنقلات الدبلوماسيين الى البعثات بالخارج. وكان نصيبي ان تم نقلي الى العاصمة التشادية انجمينا بسبب اللغة الفرنسية التي هي نعمة ونقمة في ادبيات الخارجية ، ولكن تلك قصة أخرى، بينما نقل ياسر الى سفارة السودان بنيروبي. قابلت ياسرا باحدى ردهات الوزارة عرضا، فقلت له.." نقلوني انجمينا " ، فرد علي: " انجمينا السنوسي !!؟ ".
هكذا كان حاله، ساخرا فكها مهزارا مع اصدقائه واصفيائه. عملنا مرة في ادارة واحدة هي المكتب التنفيذي. وكان زميلنا وصديقنا وابن دفعتنا السفير حاليا الطيب ابو القاسم السكرتير الثالث وقتها ، يعمل في ادارة مجاورة لنا، تسمى شؤون ليبيا كان هو الدبلوماسي الوحيد بها الى جانب مديرها حينئذ السفير الدكتور الشاعر عمر عبد الماجد. فجاء ياسر ذات صباح فشاهد شخصا يمسك بصحيفة مفرودة امام وجهه الذي لم يتبين ملامحه، فظن انه السفير مدير الادارة، فبادره بالتحية قائلاً: صباح الخير يا سعادتك، وكان ذلك الشخص هو صاحبنا الطيب نفسه، فلما رد عليه واكتشف ياسر انه هو قال له: هو ده انت .. صباح الخير يا شقاءك !! فضحكنا وضحك الطيب قائلا بطريقته المميزة: شقائي كيف يا زميل !!
اما الاخ الحبيب ماجد يوسف رحمه الله، فقد تعاصرنا بجامعة الخرطوم التي دخلها بعدنا بعام او عامين، سوى انه درس بكلية القانون بينما درست انا بكلية الاداب، وتخرجت فيها متخصصاً في اللغة الفرنسية وآدابها.
وانطلاقاً من هذه المعلومة الاخيرة، كان ماجد كثيرا ما يخاطبني بعبارة mon ami الفرنسية التي تعني: يا صديقي.
سبقنا دفعة ماجد بالخارجية بنحو اربعة اعوام، لانه دخلها في عام 1990 بينما تم استيعابنا بها في عام 1986م، ولكنني ظللت اعرفه منذ اوائل ثمانينيات القرن الماضي، حيث انست فيه شخصا لطيفا وودودا، وانسانا مثقفا وطلعة لديه شغف واضح بالعلم والمعرفة، الامر الذي مكنه من ان يشق طريقه بسهولة ويسر الى عالم الصحافة بقوة واقتدار منذ عهد الدراسة الجامعية أولاً، ثم في دنيا الدبلوماسية الرحيبة فيما بعد.
كان الاخ ماجد يتردد على انجمينا كثيرا ايام كنا بها كاول بعثة دبلوماسية عملت بها، وقد اظهر منذ السنين الاولى لالتحاقه بالمهنة الدبلوماسية ، مقدرة ملحوظة على نسج وتطوير علاقات حميمة مع الاخر على الصعيد الاقليمي خاصة، على نحو ما ذكر اكثر معارفه الذين نعوم وابنوه مؤخرا، ومن بين تلك العلاقات والصلات الحميمة التي استطاع تنميتها ، العلاقة مع عدد من كبار المسؤولين في تشاد. وكم كان يلذ له ان ابادله الحوار بعربية تشاد الطريفة، التي كنت وما أزال معجباً بها، والتي لم تكن كذلك غريبة على اذنه ، بحكم خلفيته كاحد ابناء دارفور المجاورة.
ولكن تلك المقدرة الدبلوماسية الفذة في اصطناع الاصدقاء حتى من بين كبار المسؤولين الاجانب عند فقيدنا العزيز السفير ماجد يوسف، قد تجلت بصفة خاصة اثناء فترة ترؤسه بعثة السودان الدبلوماسية باسمرا، الامر الذي اهله للبقاء فيها لفترة طويلة نوعا ما ، وذلك بفضل الصلات الحميمة التي استطاع ان يقيمها مع المسؤولين الاريتريين بمن فيهم فخامة الرئيس اسياسي افورقي نفسه ، الذي كان يعتبره صديقا وليس مجرد سفير فحسب. ولا بد ان نعيه قد شق على فخامته، بمثلما انه قد شق على كل من عرف هذا الانسان الطيب والنبيل ، الراحل العزيز السفير ماجد يوسف يحي، سلام عليه وعلى صنوه السفير ياسر عبد الله عبد السلام في الخالدين ونسال الله تعالى ان يغفر لهما ويرحمهما ويتقبلهما في جنات النعيم.
//////////////////////////