ورحل الى محطته الاخيرة كاتب (محطات دبلوماسية)

 


 

 

 

--1----

مساء ذات يوم قبل عامين التقيته بمناسبة حفل زواج ابن زميلنا السفير عبد الرحيم الصديق، و بين ضجيج موسيقى الغناء الذى يصم الاذان -باصرارنا غير المبرر على مكبرات الصوت فى احتفالاتنا-- تحادثنا حيث أبدى ثناءه لخواطر كتبتها عن كتابه ( محطات دبلوماسية) فى مقالتين منفصلتين، و عبر عن رغبته فى كتابة المزيد من تجاربه بشىء من التفصيل عن بعض المحطات التى عمل بها... و اذكر ان قلت له ان كتابه باسلوبه الاخاذ و سرده الشائق يعد مرجعا باقيا، و ما احوج بلادنا الى مزيد من التوثيق لتجارب قد تكون زادا لا جيال قادمة ، لم أكن ادرى ان هذا اللقاء سيكون اخر لقاء مباشر لى معه، و علمت انه سافر الى استراليا ومرض هناك، و حين كانت الانباء تترى الينا عن مرضه .. لم أكن على دراية بنوعية مرضه ، ممنيا نفسى لقاءه .. حين يعود معافيا للوطن الذى احبه.

---2----
ولج أحمد عبد الوهاب جبارة الله عالم الدبلوماسية مستهل السبعينيات من القرن الماضى بعد تخرجه فى جامعة القاهرة الام - كلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية - و كانت اولى المحطات التى عمل بها تنزانيا وفيها انبهر بقيادة جوليوس نايريرى، و كانت دار السلام حسب وصفه لؤلؤة سامقة فى سماء افريقيا والعالم الثالث بوصفها دارا للفكر السياسى المكافح ضد الاستغلال الاجنبى والعنصرية، و مقرا للامانة العامة للجنة التحرير الافريقية، ثم عمل بعد ذاك بالولايات المتحدة الامريكية ، و كدبلوماسى نابه كرس وقته لدراسة خبايا السياسة الامريكية ... و كانت لتقاريره الراتبة حينذاك وقعا خاصا فى وزارة الخارجية ، و نقل الى جنيف ومنها انخرط فى مجال الدبلوماسية الجماعية الدولية حيث عمل فى المفوضية العامة لشؤؤن اللاجئين ممثلا لها فى افغانستان والعراق وزامبيا ثم دول مجلس التعاون الخليجى، و فى كتابه - محطات دبلوماسية - تفاصيل مفيدة.

---3----
لابراز اهنماماته اخترت نماذجا من مقالات دأب الراحل احمد كتابتها ، ووجدت طريقها للنشر فى صحف الكترونية وأخرى ورقية.
-أولى المحطات التى عمل بها كانت تنزانيا ..قربته .الى قيادة رجل عظيم من حكماء افريقيا:- جوليوس نايريرى المسيحى الانجليكى الذى اسعده ان يستلم السلطة بعده المسلم : على حسن موينى الذى حكم تنزانيا لدورتين حتى عام 1995.. و ظل احمد متابعا تطورات الاحداث فى تنزانيا الى يومنا الحالى.
وأخال ان صيرورة القيادة من المسيحى نايريرى الى المسلم على حسن قد اثارت فى نفسه ما ظل يؤمن به يأن العقائد الدينية شأن يخص كل انسان.. وكقارىء نهم كان مولعا بما عبر عنه الشاعر الراحل احمد مطر :-
أدع الى دينك بالحسنى
ودع الباقى للديان
أما الحكم فأمر ثان
أمر بالعدل تعادله
لا بالعمة والقفطان
توقن او لا توقن ..لا يعنينى
من يدرينى
أن لسانك يلهج باسم الله
و قلبك يرقص للشيطان
أوجز لى مضمون العدل
و لا تقلقنى بالعنوان
الى ان يقول:_
هذا يذبح بالتوراة
وذاك يذبح بالانجيل
و هذا يذبح بالقران
لا ذنب لكل الاديان
الذنب بطبع الانسان
و فى تنزانيا ظل قريبا بهموم القارة الافريقية مشدوها بقادة عظام من امثال كوامى نكروما وجمال عيد الناصر والموزمبيقى ادواردو موندلانى و سامورا ماشيل واوغستينو نيتو، و ظل اهتمامه بقضايا افريقيا محورا هاما من محاور تفكيره.--و ان كان كابناء و ينات جيلنا قد استوعب اخطاء هؤلاء القادة مع نبل مقاصدهم !

---4-----
عبر مسح سريع لما ظل يكتبه الراحل أحمد ، يستشف الانسان خيوطا رئيسة عن ما كان يؤمن به، و يسعى لنحقيقه ، ففى مقالة له تحت عنوان ( أرى تحت الرماد و ميض نار )اشار ان الاقحام غير السوى للدين فى الشأن السياسى العام يشوه معانى الدين، و الخراب الهيكلى فى ادارة الدولة اقتصاديا واجتماعيا نتج من سياسات الاقصاء للكوادر المقتدرة مما ادى الى شح فى الموارد و انخفاض فى الانتاجية، وتبيانا للعجز الذى اعترى العمل العام كتب مقالة تحت عنوان - سحر الموقع و عجز الانسان0 تحسر فيه على حال الخرطوم النى عدت ضمن العواصم البائسة رغم الموقع المتميز على ملتقى نيلين عظيمين ، وفى سلسلة نشاطاته المتمشية مع قناعاته كان عضوا مشاركا بفعالية فى حفل تكريم د. منصور خالد.... واصفا اياه بأنه حامل شعلة وهاجة للحداثة والتفكير المستنير، و مساهما كبيرا فى مجال البحث عما يفيد ، و فى مقالة له بعنوان_ مع صاحب الشذرات فى حفل تكريمه) اورد تعليقا لدكتور منصور فال فيه ان الخطر فى تفكير بعض اولى الامر فى السودان سيطرة ما حسبوه شهوة اصلاح الكون بدلا من اصلاح الجزء الذى نعيش فيه. و تعليقا على ما شهدته المنطفة من ثورات وانتفاضات كتب مقالة مميزة تحت عنوان ( هذه عواصف القرن 21 التى لن يفلت منها احد )

----5-----
انخراط الراحل احمد فى مجال الدبلوماسية الجماعية جعلت رؤيته للاحداث تتسم بنظرة انسانية كونية شاملة ، اقلقه ما عاناه المسلمون فى ميانمارا وابان فى مقالة بعنوان 0 مأساة الروهينجا فى ميانمارا-ان ما يجرى قى ولاية راخين الشمالية تطهير عرقى وابادة جماعية راح ضحيتها الالاف و نزح من جرائها حوالى ستمائة الف الى بنغلاديش...خلال تراجيديا تبين كيف تنتهك الاخلاق الفاضلة حين تسود نزعات الطمع حول السلطة والثروة والتعصب، وأبدى دهشته عن موقف السيدة اون سان شولى الحائزة على جائزة نوبل للسلام....واوضح ان الاسقف الجنوب افريقى الحائز بدوره على جائزة نوبل قد ارسل للسيدة اون رسالة قال فيها :- اننا جميعا ننتمى الى الانسانية لا فرق بين بوذى و مسلم و مسيحى ويهودى ولا دينى..وأخال ان هذه النظرة الانسانية هى التى شكلت وجدان الراحل احمد الدبلوماسى الذى اختلط باصناف من البشر فى كل انحاء المعمورة .
و لا عجب لانه عايش معاناة اللاجئين، و فى مقالته بعنوان ( المهاجرون والاجئون و النازحون-معضلة كبرى فى عالم مضطرب ) اشار ان عدد اللاجئين بلغ 60 مليونا على صعيد العالم وعدد الاسباب التى تدعو للنزوح والهجرة ، وفى ألم بالغ تابع موجات الهجرة عبر البحر المتوسط الى اوربا فكتب مقالة تحت عنوان ( البحر الابيض المتوسط مقبرة جماعية بلا شواهد )، و خلال زياراته الى استراليا كتب عن المغامرين فى مراكب الموت للوصول اليها.
و لم يخف الراحل حبه لمصر التى تلقى العلم فيها، و خبر شوارعها وحواريها و مقاهيها، و هو كحالى مصرى الهوى يرى بان من مصلحة بلدينا السعى لتكامل بناء لمصلحة الشعبين ،وذكركل اشواقه تلك فى مقالة رائعة له بعنوان ( من القاهرة - وقفة على اعتاب سور الازبكية ) . ومن مصرامتلأت رفوف مكتبته بامهات من الكتب والمراجع ..داوم على ان ينهل من معينها..، و كدبلوماسى متابع للتيارات فى عالم اليوم خلص بأن العالم لا يتحكم فيه قطب أوحد حسب اشارات البعض بل تتحكم فيه عدة اقطاب ، متمثله فى تجمعات اقليمية لتبادل المصالح، وفى مثل هذا العالم لابد من ايجاد القواسم المشتركة مع الدول الافريقية والعربية لجمع الشمل.

---- 6----
بعد هذا التطواف فى انحاء العالم شاءت الاقدار ان يكون مرضه فى استراليا، وفى مراسلة له مع الاخ السقير فضل الله يستفسره عن حالته الصحية ، قال الراحل احمد بتفاؤل ان العلاج مسنمر و هناك تحسن طفيف ،لكن المرض اللعين الخلاص منه ليس سهلا، و فى 25 ينائر الفائت كان موعد رحيله الابدى...ليدفن هناك...و حسبما اشار حديث رسول الله (ًص) " قيس له مابين مولده الى منقطع اثره" فان الراحل احمد موعود بالجنة ..الحديث روى عن النسائى بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص انه قال :- مات رجل بالمديتة ممن ولدوا بها، فصلى عليه رسول الله(ص) ثم قال:0 ياليته مات بغير مولده، قالوا ، و لم ذاك يارسول الله؟ قال: ان الرجل اذا مات بغير مولده، قيس بين مولده الى منقطع اثره فى الجنة ." والمعنى انه يعطى فى الجنة مسافة قدرها قدر مابين مكان ميلاده الى المكان الذى انقطع فيه اثره اى انقطع أجله,
رحمك الله الاخ احمد و ستظل روحك بين اهلك واصدقائك و معارفك و كل من عمل معك... تذكرنا ان اهل العطاء والرؤية الانسانية لا يموتون.


salahmsai@hotmail.com
////////////////

 

آراء