ارفع ضعيفك لا يحرْ بك ضعفه .. يوماً فتُدركه العواقبُ قد نما يجزيك أو يثني عليك وإنّ منْ .. أثنى عليكَ بما فعلت فقد جَزى ورقة بن نوفل (1) هو من بين الذين عرفوا التوحيد من مصادره المتسيرة في ذلك الزمان البعيد قبل البعثة النبوية وقال شعره في التوحيد. شخصية موسوعية عارفة بأسرار اللغات التي سادت في زمانها. درسها وقرأ بها الإنجيل المتوفر في زمانه.كان بحراً تأتي الفرسان لتجلي غموض الدنيا وسحرها عنده. * هو "ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قُصي وأمه هند بنت أبي كثير بن عبد بن قصي". وهو أحد منْ اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية وطلب الدّين وقرأ الكتب وامتنع من أكل ذبائح الأوثان. ليسمح لنا سدنة التاريخ أن ندخل تلافيف عقل " ورقة بن نوفل" قبل رحيله، ليتحدث هو عن مشاعره وأهوائه وطموحاته: { بحثت طوال حياتي عن أسرار الكون، نجومه وأفلاكه وأقماره وشهبه، ومصادر وجود الإنسان. رحلت برفقة "يزيد بن عمرو بن نفيل" إلى بلاد الشام. نلهث حول معرفة سيرة أنبياء بني إسرائيل، ومكان إعدام السيد المسيح، حتى تشككت في أمر صلبه. ومكان صلبه وقد أصبح مقلب نفايات، عند الصخرة الكُبرى. وعلمنا أن محيط الآثار في مدينة "إيليا" كان لمعبد سليمان الذي هدمه أحد أباطرة الروم. وجدنا الصحائف من العهد القديم والجديد هناك، عند الأديرة والمعابد. ودرسنا هناك اللغة العبرانية والسريانية واليونانية . حملت رواحلنا الصحائف كلها. وقدمنا " مكة " وقُمنا بدراسة كل الآثار المكتوبة علّنا نرتوي. وبدت لنا صورة الإله واضحة لا لبس فيها. عرفنا أنه أرسل صور مبهمة لبعض عبّاده، علّهم ينطقون بالحق. وجاءت لنا في شكل تعاليم و عبادات وطقوس وقصص من التاريخ وعِبر. اكتشفنا أن الرب قد أرسل صور مموّهة لوصاياه، وعلى الإنسان أن يلتزم بها، وقد جسّدها النبي موسى في الوصايا العشر. بصري ينسحب من الألق والنُضرة. جوهرة عيناي توقفتا عن البريق، وصرت لا أقرأ. وكان في أمانيَّ العصية أن يقودني الله إلى العقيدة...} * منذ قابل" ورقة" النبي طائفاً بالكعبة عند بدء نزول القرآن، وبهره سلطانه اللغوي الفريد في تصوير ما أودعه الإله في بطن عقله، فقال له إن الناموس قد جاءك، كما جاء لموسى قبلك. وبعد زمان لم يعُد يرى بعينيه "ورقة "كما كان.تغبّشت الصور في عينيه حتى عميّ و ادلهمّت الظلمة. مات "ورقة " وفتر الوحي عن النبي زماناً. و استيقظ النبي ذات يوم، من بعد زمان،بسورة دقيقة تتنزّل عليه، لا ينطقها إلا الناموس الذي جاء لموسى النبي: { والضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
(2) من شعر" ورقة "، والغناء لابن محرز من القدر الأوسط: ولقد طرقتُ البيت يُخشى أهله .. بعد الهدوء وبعد ما سقط الندى فوجدتُ فيه حُرةً قد زُيّنتْ .. بالحلي تحسبه بها جمر الغضا من الثقيل الأول بالخُنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق. أخبرنا الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكّار قال: حدثنا عبدالله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: سُئل رسول الله عن "ورقة" كما بلغنا. فقال: قد رأيته في المنام كأن عليه ثياباً بيضاً، فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض. قال الزبير وحدثنا عبدالله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن عائشة، أن"خديجة بنت خويلد" انطلقت بالنبي حتى أتت به"ورقة بن نوفل"، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها. وكان امرء تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء له أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عميّ. فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك. قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى. فأخبره رسول الله خبر ما رأي. فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى. يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال رسول الله: أو مخرجيّ هم. قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك لأنصرنّك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب "ورقة " أن توفى.
(3) عن" الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد"، قال عروة : كان بلال لجارية من بني جمح بن عمرو وكانوا يعذبونه برمضاء مكة. يلصقون ظهره بالرمضاء ليُشرك بالله فيقول أحد أحد، فيمر عليه "ورقة بن نوفل" وهو على ذلك. يقول أحد أحد، فيقول"ورقة" أحد أحد والله يا"بلال" والله لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً كأنه يقول لأتمسحنّ به. وقال "ورقة" في ذلك: قدة نصحتُ لأقوامٍ وقلتُ لهم .. أنا النذير فلا يغرركُم أحد لا تعبدّ إلهاً غير خالقكم .. فإن دعوكم فقولوا بننا حدد سبحان رب العرش سبحاناً نعوذ به .. وقبل قد سبح الجودّي والجُمُد مُسخرٌ كل ما تحت السماء له .. لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد لا شيء مما ترى تبقى بساسته .. يبقى الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه .. والخلدُ قد حاولن عادٌ فما خلدوا ولا سليمان إذ دان الشعوب له .. والجنّ والإنس تجري بينهما البُرُد * روى "هشام بن عروة" أن رسول الله قال لأخي "ورقة بن نوفل" أو لابن أخيه: شعرت أني قد رأيت لورقة جنة أو جنتين. قال عروة : ونهى رسول الله عن سب ورقة.
(4) قال "ورقة بن نوفل"لزيد بن عمرو بن نفيل: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما .. تجنبت تنورّاً من النار حاميا بدينك ربّا ليس رب مثله .. وتركك جنان الجبال كما هي أقول إذا ما زرت أرضاً مخوفةً .. حنانيك لا تظهر علي الأعاديا حنانيك إن الجنّ كانت رجاءهم .. وأنت إلهي ربنا ورجائيا أدين لربٍ يستجيب ولا أدري .. أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا أقول إذا صلّيت في كل بيعةٍ .. تباركت قد أكثرت باسمك داعيا * يقول خلقت خلقاً يدعون باسمك. * النبي ينهى عن سب "ورقة بن نوفل": قال الزبير حدثني عمي قال : حدثنا "الضحّاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد"عن "هشام بن عروة"، أن رسول الله قال لأخي ورقة بن نوفل أو لابن أخيه" شعرت أني قد رأيت لورقة جنة أو جنتين " يشك هشام.قال عروة ونهى رسول الله عن سب ورقة. وقال الزبير: حدثني عمي قال حدثني "الضحّاك عن عبدالرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة" عن أبيه أن خديجة كانت تأتي ورقة بما يخبرها رسول الله أنه يأتيه فيقول ورقة: لئن كان ما يقول حقاً إنه ليأتيه الناموس الأكبر ناموس عيسى بن مريم الذي لا يجيزه أهل الكتاب إلا بثمن، ولئن نطق وأنا حي لأبلين فيه لله بلاء حسناً.
(5) كان الشِعر واللغة أكثر تطوراً من سائر الظاهرات الثقافية في الجاهلية. كانت شائعة التوحيد المسيحي والتوحيد النصراني ودين الحنفاء والوثنية والصابئة. نشأ "ورقة بن نوفل"على حب الاستطلاع والسعي للمعرفة. ساح في بلاد الشام وفلسطين باحثاً عن دين إبراهيم مع نديمه " عمرو بن نفيل" ، ثم عادا لمكة.حيث كانت الأديان: اليهودية: عند بنو النضير وبنو قريظة وبنو ثعلبة وبنو زريق وبنو حارثة . النصرانية: عندى بنو تغلب وبنو امرئ القيس وطيء ومذحج وبهراء وشليح وتنوخ وغسان ولخم. أبرز المتنصرين بمكة " عثمان بن الحويرث" و " ورقة بن نوفل". * يقول الأستاذ " محمد كرد علي" بوجود صور وتماثيل لكل من عيسى وأمه في جوف الكعبة.ويقول " نلسن" أن اليهودية أوالمسيحية لم تكونا توحيديتين، بل آلهة متعددة.فيسوع وأمه كانا يُقدسان كإلهين. والعرب الجاهليين قد جعلو لله أولاداً من الإناث، في حين جعل العبرانيون والمسيحيون لله ولدين ذكرين. كان " ورقة " يجيد أكثر من لغة، وعمل بالترجمة من اللغة العبرية إلى اللغة العربية. والسريان أطلقوا لفظة " حنيفية " على الصابئة. وكانت الحنيفية تستهجن عبادة الأوثان، ولها سنن كتحريم الربا وتحريم شرب الخمر وتحريم الزنا وحدّ مرتكبيه، وكذلك يعتكفون في غار حراء ويطعمون الفقراء ويقطعون يد السارق ويحرمون أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير. وينهون عن وأد البنات. ولديهم الصوم والإختتان والغسل من الجنابة.
(6) يتحدث " محمد حسين هيكل " أن الصابئون من عُباد النجوم. ويقول " الشهرستاني " أنهم يصلون ثلاثة مرات ويغتسلون من لمس الميت، وحرموا أيضاً أكل الخنزير والكلب وذوات المخالب. ويزوجون بولي وشهود، ولا يطلقون إلا بحكم حاكم ولا يجمعون بين امرأتين. توفى "ورقة بن نوفل" سنة 592 م أو نحو 12 عاماً قبل الهجرة. وتوفى خلال فتور الوحي، ودُفن بالحجون. "ورقة " حكيم وشاعر. حضر جزء من النبوة، ووعد إن أفسحت الآجال في عمره أن ينصر الدين الجديد. يقال أن" ورقة" و " بحيرا " و" نسطورا " من أهل الفترة.كان " ورقة " يكتب بأقلام أعجمية، وقد تبحر في التوراة والأنجيل. * لم يُعرف عن حياة النبي كثير شيء قبل بلوغه الأربعين. أما عن طفولته، فقال ابن إسحاق: وزعم الناس فيما يتحدثون، والله أعلم أن حليمة السعدية، لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله ، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فقالت له: إني قدمت بمحمد هذه الليلة: فلما كنت بأعلى مكة أضلّني، فوالله ما أدري أين هو. فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده؛ فيزعمون أنه وجده " ورقة بن نوفل "، ورجل آخر من قريش، فأتيا عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوّذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه آمنة.
(7) كان الرسول يؤثر العزلة ويألف النسك والعبادة، فكان يذهب إلى غار حراء يتحنّث فيه، ويتأمل عجائب الكون، ويفكر في البعث والحساب والجنة والنار، حتى إذا فرغ ما معه من الزاد، عاد إلى بيت خديجة، فتزود مرة أخرى لمثل ذلك ...، ولم يزل كذلك حتى نزل عليه الوحي. * وربما كان الرسول قد إطلع على العلوم والأفكار التي يحملها أو يجمعها "ورقة. فقد كره "ورقة " عبادة الأوثان وكان يكتب بالعربية، وتعدت معرفته بالكتب المدونة بالعبرانية والفارسية والسريانية. لا يعتقد "ورقة" بألوهية المسيح أو بنوته لله، ويرفض قيامة المسيح وقصة صلبه .ويشير كتاب " قصة الديانات لسليمان مظهر" إلى اعتناق " ورقة" لليهودية ، وعندما يورد خبر نزول الوحي يقول{ لم يكن محمد يعرف القراءة والكتابة، ولكنه بعد زواجه من خديجة، كثيراً ما كان يستمع إلى "ورقة " وهو يتلو التوراة بعد اعتناقه اليهودية. نظر " ورقة " للكون بعقل متحرر ، يتخذ الحكمة والمنطق منهجاً.
(8) زواج رسول الله: عن خديجة يقولون تزوجت " أبوهالة " واسمه "هند" ، وقيل " مالك بن النباش " فولدت له ذكران . ثم خلف عليها بعد" عتيق بن عائذ المخزومي" ، ثم تزوجها رسول الله. وتتعدد الروايات حول عمرها وقت زواجها بالنبي ، منهم من يذكر أربعين، ومنهم من يذكر خمس وثلاثين ومنهم من يذكر ثلاثين أو خمس وعشرين سنة. ولكن إنجابها من البنين والبنات من بعد زواج الرسول، يستبعد أن تكون في سن الأربعين.
(9) شعر "ورقة ": السمة الغالبة لشعر "ورقة" فهو كثافة الوحدانية والإخبار عن حقيقة النبوة . ولكن شِعره على لهجة قريش وكان عذباً ويستخدم اللفظة العذبة الرقيقة: ولقد غزوت الحيّ بحثي أهله .. بعد الهدوء وبعدما سقط النَّدى فوجدت فيه حُرّة قد زُينت .. بالحلي تحسبه بها جمر الغضا * له استخدامات فخمة ، ومتينة ومترابطة، وهو شاعر مطبوع ، قلما يلجأ إلى البديع.لم يجنح " ورقة" للخيال فقد غلب أسلوبه التقريري. وتنوعت أوزانه من " الطويل " و " الكامل" و " البسيط " و " الوافر": * ويتابع " ورقة": ولا سليمان إذ دان الشعوب له .. الجن والإنس تجري بينهما البُرُوُد أين الملوك التي كانت لعزّتها .. من كلّ أوبٍ إليها وافدٌ يفدُ ومن الطويل: أقول إذا مازرت أرضاً مخوّفة.. حنانيك لا تظهر على الأعاديا حنانيك إن الجنّأدين لربِّ يستجيب ولا أدري .. أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا * من الطويل: أتبكر أم أنت العشيّة رائحُ ... وفي الصدر من إضمارك الحُزن قادحُ لفرقة قومٍ لا اُحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازحُ * من الكامل: لا تنسينَّ ولا أخالك ناسياً .. أن العداوة بيننا لم تخلقِ فإذا عفوت غير مُكدِّرٍ .. وإذا انتقمت بلغت رنق المُستقي * ومن شعر ورقة: فأصبحتَ في دارٍ كريمٍ مقامها .. تُعلّلُ فيها بالكرامة لاهيا تلاقي خليلَ الله فيها ولم تكنْ .. من الناس جبّاراً إلى النار هاويا وقد تُدرك الإنسان رحمةُ ربّه .. ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
المراجع : - غسان عزيز حسين: ورقة بن نوفل - مبشر الرسول ، جمع وتحقيق ودراسة. - أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني.