البرنامج التلفزيوني (حوار البناء الوطني) الذي يقدمه الإعلامي القدير الأستاذ لقمان أحمد عبر شاشة التلفزيون القومي، أتحفنا وما يزال بحلقات متميزة مع رموز الحكومة الإنتقالية، و جاء حوار مساء الأمس مع مولانا نصر الدين عبد الباري وزير العدل كأروع حلقة للبرنامج من بين جميع الحلقات التي سبقت، تميز بالشفافية والوضوح والمهنية واللغة القانونية المحايدة والبليغة، وتأتي أهمية الحوار من كونه قدم شخص مكث بعيداً عن الأضواء منذ توليه المسئولية، ومن أنه يعتلي قمة هرم المؤسسة التي يناط بها تنزيل أحد مستحقات أضلع مثلث شعار الثورة الديسمبرية إلى واقع التطبيق العملي، ألا وهو العدل.
لقد اطمئن كل من شاهد وسمع السيد وزير العدل على أن هنالك خطوات جريئة، قد اتخذت في سبيل تعبيد طريق المنظومة العدلية المتمثلة في أركانها الثلاثة (النيابة العامة والجهاز القضائي ووزارة العدل)، فإذا لم يتم إصلاح البنى التحتية والأساسية للعدالة لا يمكن إنصاف المظلومين والمقهورين الذين دهستهم آلة الطاغية وزبانيته، وجميعنا يعلم عظم وحجم التخريب الذي طال كل مؤسسات الدولة إبان سطوة جماعة حزب المؤتمر الوطني المحلول، وما تفشي الظلم والفساد وأكل أموال الناس بالباطل في حقبة المتوشحين برداء الإسلام زوراً، إلا نتاج لإفراغ هذه المؤسسات الحيوية من الكادر المهني الشريف.
ألذي أثلج صدورنا وشفى قلوب أقوام سودانيين هو وضع القوانين الرادعة لتجار الدين والمهوسيين، الذين ينصبون أنفسهم قضاة يحاكمون الناس بالكفر والردة، وينشرون الكراهية الدينية والعرقية بين مكونات المجتمعات السودانية، ومما يبعث بالأمل في النفوس أيضاً تغليظ العقوبات الواقعة على مرتكبي جرائم المعلوماتية، من الموتورين والمشوّهين الباثين للأكاذيب والشائعات دون أدلة ولا براهين عبر صفحات الميديا الإجتماعية، ومن بعد اليوم فليحذر رواد بث الفيس بوك المباشر من إطلاق الصياح على عواهنه، فالأمر لم يعد كما كان، عندما اعتاد الدكتاتور على التبجح في أثير الهواء الطلق والأعتراف على رؤوس الأشهاد بسفك دماء الأبرياء دون أن يردعه رادع الضمير ولا القانون.
ألمرأة السودانية التي كبتت زماناً طويلاً وهي الكنداكة المزاحمة للرجل كتف بكتف، قد وجدت حقها في حزمة من التعديلات المتعلقة بحرية حركتها وعلاقتها بفلذات كبدها، لقد ولى عهد الدويلة الطالبانية التي تجعل من المرأة مجرد رمزية للخطيئة لا تستحق التعليم ولايفسح لها الميدان للاعتداد بنفسها، في عصر أصبحت فيه الأنثى في البلدان المحترمة تتقلد أفخم المناصب وترتقي إلى أعلى المراتب قدم بقدم مع صنوها وشقيقها الذكر، ومن المؤكد أن هذه الحزم القانونية سوف تلهب حنق المهووسين وتخرجهم عن وقارهم المزيف الذي خدعوا به العوام من فقراء هذه البلاد الطيبة.
ألخمور في السودان لم يتوقف انتاجها واستهلاكها منذ أيام ما قبل الدولة المهدية وحتى زوال دويلة الإخوان الهالكة، وتعاطيها يندرج تحت مسمى السلوك الشخصي ولا يحق لأحد أن يقحم نفسه في خصوصيات المواطن المتناول لها إذا لم يؤذ جار أو يلحق الضرر بزوج أوعيال، وبرغم هذا الحق إلا أن العدل فرض على الوزير أن يقر في مجموعة حزمه القانونية هذه بخصوصية المسلمين عموماً ومنع وتحريم تداول وتعاطي الخمر فيما بينهم، هذا على الرغم من أن غالبية الذين يحتسونها ويتسللون لواذاً باحثين عن (الأندايات) في بهيم الليالي، هم من الذين يدينون بدين الإسلام، كما منعت ووقفت حزمة التعديلات القانونية بصرامة أمام ممارسة الدعارة، وتم ترميم مادتها القديمة الفضفاضة على حد قول الوزير، والتي صاغها قانونيو الحكومة الرسالية، فأعاد صياغتها عبد الباري وجعلها أكثر وضوحاً و أصدق تعريفاً لماهية الدعارة.
ألدستور، قدم مولانا نصر الدين تصوراً عميقاً يعتبر الأول من نوعه، حول صناعة الدستور وانعقاد المؤتمر الدستوري، و ركّز اهتمامه على أهمية وضرورة مساهمة كافة قطاعات وشرائح المجتمع في صياغة الدستور منتقداً التعويل والأعتماد على المؤتمر الدستوري لوحده، باعتبار أن المؤتمر الدستوري ما هو إلا أطروحة نخبوية وصفوية لا تخاطب قضايا جميع الكادحين والغلابة، وحذر من الوقوع في الخطأ التاريخي للحقب السياسية السالفة بترك أمر صناعة الدستور للنخب، وعدم الرجوع إلى السكان الغُبُش المبعثرين على امتدادات سهول وجبال ووديان هذه البلاد، وبحكم أنه وزير الثورة المكلف بمعالجة الملف العدلي أراد أن يضع لبنة قوية، تؤسس لضمان الحقوق الأساسية للمواطنين بدون تمييز ولا تفاضل فيما بينهم.
ألرؤية التي طرحها حامي حمى العدل مساء الأمس تحتاج إلى وقفة تضامنية متماسكة من قبل شباب الثورة في مواجهة صلف وغرور المتخلفين والمتطرفين، الذين أقعدوا البلاد عن التقدم وحرموها من تسلق سلم المجد حاملين لمعول الهدم ومقتلعين لبذور الأمل المزروعة بأيدي هؤلاء الشباب الحالمين بوطن خال من الكراهية والبغضاء والعنصرية والعصبيات الدينية والأصطفافات المذهبية.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com