وزير تقدمي من الحركة الشعبية: الأطباء الحفاة وأطباؤنا … بقلم: د. محمد وقيع الله
ربما كان أسعد خبر أسمعه منذ أن تكونت الحكومة الجديدة، هو ما جاء على لسان الطبيب الشاب الدكتور عبد الله تيه، وزير الصحة الاتحادي، لدى مخاطبته ندوة علمية في الخرطوم.
قال الدكتور الطبيب الشاب، المنتمي إلى الحركة الشعبية، إنه سيوجه بإدخال مقررات دراسية لمعالجة الملاريا، ومكافحتها، بكليات الطب بالسودان، وإنه سيوجه بأن تكون هذه المسائل ضمن الامتحانات السريرية التي تواجه الطلاب.
ماذا كانوا يدرسون؟
ساءلت نفسي حين سمعت هذا الخبر العجيب: أإذا كانت كليات الطب عندنا لا تقوم بتدريس طلابها مسائل تشخيص الملاريا، وطرق علاجها، ووسائل مكافحتها للطلاب، فماذا كانت تدرسهم إذن ؟!
وجاءت الإجابة في ذيل هذا الخبر العجيب، إذ ذكر الدكتور صلاح المبارك المنسق القومي لبرنامج الملاريا بالإنابة، أن دراسة تقويمية لتدريس الأمراض المستوطنة في عشرين كلية للطب ببلادنا، أكدت أن الثلث فقط من طلاب كليات الطب عندنا قد توصلوا إلى الإجابة الصحيحة التي تتعلق بمعالجة الملاريا طبقا للموجهات الاتحادية.
إذن فالبقية إما انهم لم يدرسوا هذه الموضوعات وغما استهانوا بها وتعلقوا بغيرها من الموضوعات الدراسية التي بدت لهم جذابة وذات بريق أكاديمي خلاب!
تجربة الأطباء الحفاة:
وهنا تذكرت كيف واجه الزعيم الصيني الأكبر ماوتسي تونغ وضعا مشابها في بلاده، فقام بإغلاق جميع كليات الطب في بلاده في عام 1966م، بدعوى أنها تخرج أطباء لا تحتاجهم البلاد.
فهؤلاء الأطباء - كما قال ماو - لا يحبون أن ينخرطوا في العيش في الريف الصيني، الذي يعيش فيه جل السكان، الذين يعملون بالزاعة، أو عمالا بالمصانع المتناثرة في الكوميونات.
ولا يريدون، أو لا تريد لهم المناهج الدراسية الخاضعين لسلطانها، أن يعطوا الاهتمام اللازم، للأمراض الأكثر شيوعا بين الفلاحين والعمال الريفيين.
واهتدى عبقري الصين الفذ ماو، من ثم، إلى فكرة الأطباء الحفاة، الذين يتم إعداهم من الفلاحين النابهين، الذين يواصلون كلال الليل بكلال النهار، بأقدام عارية، في أوحال حقول الأرز بجنوب الصين.
وبرر ماو فكرته هذه، وقام بترويجها قائلا: إن أهم عدة للطبيب الجيد هي أن تكون له همة عالية، ويكون له تجرد تام، ويكون له إيمان يقيني بالبشر، وضرورة خدمتهم.
وقال إن هؤلاء الفلاحين المثابرين الحفاة في جنوب الصين هم في الحقيقة من يتمتعون بهذه الصفات، ولا ينقصهم إلا التدريب العلمي المناسب.
وإذن فالواجب هو أن نقوم بتدريبهم على أمور الصحة الأساسية، وهي أمور إصحاح البيئة ومحاربة الآفات القتالة كالذباب.
وبعد ترتيب لم يستغرق وقتا طويلا انطلقت بهؤلاء الأطباء الشعبيين الحفاة حملة قومية شملت الصين بأسرها، قام فيها الصينيون بملاحقة الذباب ذرافات ووحدانا.
وكلف كل شخص بقتل نحو عشرين ذبابة يوميا, بأي وسيلة تقع في يده. فأتى الصينيون بذلك على جموع الذباب وقطعوا دابره في أيام.
واليوم ليس للذباب أثر ولا خبر بجمهورية الصين الشعبية، ولا توجد آفات غيره تهدد البيئة. وعندما زرت الصين، قبل أعوام قلائل، اندهشت كثيرا لأني وجدتها أنظف من أمريكا، وإن كانت أمريكا لا تعترف لهم بهذا التفوق المشهود.
الاستعمار الطبي:
وقد أصبح مفهوم الأطباء الحفاة جزء أساسيا من مفاهيم الثورة الثقافية الكبرى، التي أطلقها ماو في الصين في عام 1966م، واستمرت قوية حتى عام 1966م، ولم تتوقف إلا بوفاته في عام 1976م.
ولاحقا قامت الحكومة الصينية بتغيير عبارة الأطباء الحفاة، واستبدلت بها عبارة أخرى كاسية، هي عبارة النظام الطبي التعاوني الريفي.
ولكن بقيت الفكرة الأساسية كما هي، حيث قضت السياسة الصحية بإعطاء الأولوية للريف في الخدمات الطبية، وبإعلاء شأن الأطباء الشعبيين، وإعادة صياغة مناهج كليات الطب التي أعيد افتتاحها بعد موت ماو، بمنظور جديد يركز على معالجة الأمراض المنتشرة في الصين، لا تلك المنتشرة في الغرب.
وهذه هي نقطة النقد الكبرى في النقد الماوي للمناهج الطبية، التي استوردتها الصين حرفيا من أوروبا.
حيث أخذ عليها أنها لم تُحوَّر كما ينبغي، وبالتالي لم تعط تلك الاهتمام اللازم للأحوال الصحية الصينية.
وهو الأمر الذي عده ماو – وله الحق في ذلك أكثر الحق – بمثابة استعمار واستحمار أكاديمي للصين.
هل آن لنا أن نستبشر؟
وإذا عدنا لموضوع السودان، فقد استبشرنا كثيرا بقرار هذا الوزير السياسي، ذي العقل الكلي، غير المأخوذ أو المستلب بالمقررات الدراسية الجامدة، بإدخال مواد دراسية مكثفة من أجل استئصال داء الملاريا من السودان.
وإذا ما اتبعت وزارة الصحة القول بالعمل، وإذا ما أطاعت السلطات الأكاديمية في كليات الطب، السادة السياسيين المسؤولين، وعلى رأسهم هذا الوزير التقدمي المتنور التابع للحركة الشعبية، فإننا نستبشر بأن السودان سيعلن قريبا خلو خمس ولايات منه من الملاريا كما قال الوزير.
أوخلوه كله من الملاريا.
وما ذلك على الله بعزيز.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]