وضع النقاط فوق الحروف فى مسالة علاقة الدين بالدولة

 


 

أبوبكر القاضي
29 September, 2014

 

 

+ فى قراءة رؤية الامام الصادق حول فك الاشتباك الدينى العلمانى

++ الاصلاح الدينى اللازم للاصلاح السياسى

+++ فى تاصيل ان وحدة الشعب السودانى ، ووحدة الوطن مقدمة على تطبيق الشريعة

++++ الاقتصاد الاسلامى الطفيلى :

فى هذا المقال سوف ابنى على مقال فكرى تأصيلى كتبه الامام الصادق المهدى وعنوانه ( فك الاشتباك الدينى العلمانى ) ، وتم نشره على الشبكة العنكبوتية فى حوالى ٤ سبتمبر ٢٠١٤، و  انى اتعمد البناء على رؤية الامام الصادق حول هذا الموضوع الشائك ، وذلك عملا بنص صريح فى اتفاق باريس - تحت عنوان / الحريات والتحول الديمقراطى ينص على ان الاطراف سوف تستمر فى الحوار بشان مسالة علاقة الدين بالدولة التى جرى بحثها ولكنها لم تحسم ، ولاعطى المهتمين بهذا الملف فى الشارع السودانى رسالة بوجود قواسم مشتركة كبيرة بين اطراف مجموعة اتفاق باريس ، وبالقطع لا ادعى اننى فى هذا المقال اعبر عن راى الجبهة الثورية  ولكن الرسالة التى اود توصيلها هى ان مسالة ( علاقة الدين بالدولة ) والدينى والعلمانى ، هذه الامور هى موضع حوار علنى شفاف ومكشوف ، وانها مقدور عليها ، ويمكن تجاوز هذه الاشكالية اذا خرجنا من نفق الغلو والتشدد الطالبانى الذى بداه نظام مايو فى عهد اللوثة حسب عبارات استاذنا الجليل د منصور خالد ، ومرورا بعهد الانقاذ الذى اخذ باكثر الاراء الفقهية تطرفا ، وتسبب فى تقسيم البلاد والعباد ، حتى اصبح ( الاسلام نفسه  فى السودان هو المشكلة) .

فى قراءة رؤية الامام فى فك الاشتباك الدينى العلمانى :

بتاريخ ٤ سبتمبر ٢٠١٤ نشر السيد الامام الصادق المهدى مقالا فكريا بعنوان ( فك الاشتباك الدينى العلمانى) ، لغرض الحوار والبناء التراكمى اقتبس منه المقتطف التالى :

( فى الاطار السياسي هناك شعاران : شعار يقول به دعاة المرجعية الاسلامية ، ان الاسلام دين ودولة ، وشعار العلمانية المخففة الذى يقول : الدين لله والوطن للجميع .

شعار الاسلام دين ودولة يجب ان يراجع لان الدين من الثوابت ، والدولة من المتحركات اى العادات ، والمساواة بينهما تمنع حركة المجتمع واستيعاب المستجدات. الصحيح فى هذا المجال ان يقال : الاسلام دين ومقاصد اجتماعية ، ان الاسلام محمول عقدى وثقافى مطلوب لالهام الجماعة وحفظ تماسكها ، والاسلام يفعل ذلك مع الاعتراف بالحقوق الدينية والمدنية لغير المسلمين .) انتهى الاقتباس .

الاصلاح الدينى اللازم لتحقيق الاصلاح السياسي :

حركة العدل والمساواة السودانية كما افهمها ليست تجمعا عقائديا ، وليست واجهة عسكرية لحزب المؤتمر الشعبى ، ( كما كان على عثمان ونافع يقولان ) ، وانما هى (مؤسسة وطنية سودانية ) معنية بالسودان القديم كله شاملا الجنوب الذى انفصل لعجز الشمال عن تحقيق الوحدة الجاذبة ، وكذلك حركة التحرير الكبرى فى ملف دارفور ، كما افهمها ليست حركة عقائدية ، وليست واجهة او جناح عسكرى للحزب الشيوعى ، كما يزعم بعض اهل المركز ، وانما هى حركات وطنية سودانية ، باختصار ، ان القاسم المشترك الاعظم بين الاطراف المكونة للجبهة الثورية هو هدف العبور بالسودان من ( دولة العقيدة الاسلامية الجهادية ) الى دولة ( المواطنة ) التى يتساوى فيها السودانيون من نملى الى كاودا والى الفاشر وحلفا ، من منظور ومرجعية ( المواطنة ) ، وهذا هو جوهر اتفاق باريس . اعتقد ان الدولة السودانية كانت حقل التجربة لمشروع حسن البنا الاخوانى ، خاصة فى نسخة سيد قطب الجهادية المطورة بواسطة ايمن الظواهرى ، لتتحول الى سلفية جهادية .

عندما اجتمعنا فى لندن فى ٢١ اكتوبر ٢٠١٠ فى اطار الجبهة الوطنية العريضة ، وكلفت برئاسة اللجنة السياسية ، احدى اللجان الفرعية للجان المؤتمر ، تناولت اللجنة السياسية مسالة علاقة الدين بالدولة ، وانقسمت الاراء داخل اللجنة السياسية ، فريق ينادى بالعلمانية وحدها ودون غيرها ، وفريق يدعو الى الدولة المدنية ، ولم تتمكن لجنتنا الفرعية من حسم هذه القضية الشائكة ، لذلك قررت احالة مسالة ( علاقة الدين بالدولة) الى الجلسة المشتركة بالمؤتمر التى تضم كافة اعضاء المؤتمر التاسيسي ، وبعد حوار مستفيض فى المؤتمر تنازل ( دعاة العلمانية) ، وقبلوا ( بالدولة المدنية) ، فى لفتة ديمقراطية تاريخية ، وانا اتذكرهم فردا فردا ، لانهم قدموا درسا رائعا فى التسامح والمرونة من اجل ان نبنى وطنا يسعنا جميعا رغم اختلاف الواننا ولغاتنا ، وخلفياتنا الثقافية . والنتيجة التى اود الوصول اليها هى ان الناس فى الشارع السودان اصابها غبن كبير من التطبيق الانقلابى الاستبدادى للسلام التمكينى فى السودان ، لذا يرى البعض ان الحل فى العلمانية بشكل صريح وبدون اى دغمسة ، وتجربتنا فى الجبهة العريضة حول هذا الملف تدل على اننا سنتفق ، وسننجح فى ادارة التنوع والتباين فى وجهات النظر.

وشاهدنا من الخلفية اعلاه ان اصل بالتحليل والقراءة الى النتائج التالية :-

١- قناعتنا  فى حركة العدل والمساواة ان ( العلمانية) يمكن ان تكون سلعة جيدة لو انك تسوق نفسك للمجتمع الدولى ، ولكن الامر يختلف عندما تسوق نفسك للشعب السودانى ، بعد قترة انتقالية قصيرة مدتها عامان ، فى منافسة حرة مع ( تجار الدين) من عصابة المؤتمر الوطنى ، الذين يشهد لهم العالم كله بانهم ( دولة فاسدة ) ، و ( دولة فاشلة ) ، وتبرات من تجربتهم كل دول الربيع الاسلامى .  من الخطا السياسي الفادح ان تعطى خصمك كرتا رابحا ، ليوظفه ضدك ، ان اهلنا فى الهامش متدينون وطيبون ، فمن الخطا السياسي ان نضع حاجز ( العلمانية ) بيننا وبينهم .

٢- بدلا من نترك الدين ( كرصيد للاخوان المسلمين) ، و ( كسلاح ) فى ايديهم يستخدمونه ضدنا باعتبارنا ( علمانيين ) ، فالافضل هو ان ننزع منهم كرت الدين ، بالتوجه نحو ( الاصلاح الدينى) ، و قديما قيل : ( لا يوجد اصلاح سياسي بدون اصلاح دينى ) ، والاصلاح الدينى الذى اقصده ليس بالضرورة ان يكون فى شكل قضايا فلسفية صفوية ، وانما اعنى به اخراج المجتمع السودانى من حالة الغو ، والتطرف فى تطبيق نظام مايو ثم الانقاذ للشريعة فى السودان ، الى الاعتدال والوسطية ، وذلك بتدشين رؤى ( ما بعد عهد الاخوان المسلمين وثبوت فشل مشروع حسن البنا ) ، وحتى لا يكون كلامنا نظريا فى الهواء ، فانى ساقوم بوضع النقاط فوق الحروف ، وذلك بتقديم   نماذج عملية للاصلاح الدينى المبنى على الرؤية المقاصدية التى اشار اليها السيد الامام الصادق فى مقاله المنوه عنه اعلاه :

( اولا ) : فى تاصيل ان الوحدة الوطنية ، ووحدة الشعب السودانى مقدمة على تطبيق الشريعة :

قال تعالى فى سورة طه :

( قال يا هارون ما منعك اذ رايتهم ضلوا (٩٢) الا تتبعن افعصيت امرى (٩٣) قال يا ابن ام لا تاخذ بلحيتى ولا براسي انى خشيت ان تقول فرقت بين بنى اسرائيل ولم ترقب قولى (٩٤) .) صدق الله العظيم .

هذه الآيات تخلص الى ان وحدة شعب بنى اسائيل مقدمة على اقامة الدين والشريعة الموسوية  ، وقد تخلص الفقه الاسلامى منذ زمن. بعيد من ثقل (اسباب النزول) ، وخلص الى المبدا القائل  ( العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب) ، فالقراءة المقاصدية لهذه الايات القرآنية العظيمة هى ان وحدة الشعب السودانى اهم من اقامة الشريعة ، ولعل اتفاقية الميرغنى غرنق نوفمبر ١٩٨٨ التى وافق فيها الميرغنى عل تجميد الشريعة النميرية قد استلهمت هذه الروح المقاصدية ، وشاهدنا ان اهل الانقاذ قد فشلوا فى استلهام الروح المقاصدية للقرآن  حين قسموا السودان الى جنوب وشمال (على اساس دينى ) ، ورفضوا حتى استثناء ولاية الخرطوم من تطبيق الشريعة التى لم يقيموها فى انفسهم ، وجعلوا الاسلام نفسه ( هو المشكلة ) .

( ثانيا) فى جعل حقوق الانسان ، وقيم التسامح وحقوق المراة فى المساواة  من الاولويات الضرورية القصوى من مقاصد الشريعة :

المشروع المقاصدى يعنى ببساطة ان نضع الدستور ، ونشرع القوانين ، استنادا الى ( مقاصد الشريعة ) ، على ( روح الشريعة ، وروح القانون) ، وليس على اساس ( نصوص الشريعة) المستمدة من تطبيقات دولة المدينة ، او الدولة الاموية او العباسية فى صدر الاسلام ، وذلك لان مقاصد الشريعة المرتبطة ( بالدولة) مسالة ( متحركة) كما ورد فى كلام السيد الامام .

واضح ان المشروع النهضوى العربى الاسلامى لعصر ( مابعد الاخوان المسلمين وفشل مشروع حسن البنا) سينطلق من المشروع المقاصدى التراكمى الذى اصل له الامام الجوينى ، والعز بن عبدالسلام والغزالى ، وابن رشد الحفيد الذى طبق المقاصد على العبادات ، وتجلى ذلك فى ورعته ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد) .

مشروع المقاصد فى عصرنا الحديث برز من خلال اطروحات محمد بن عاشور ، ومدرسة المنار فى مصر على يدى جمال الدين الافغانى ومحمد عبده ، وقد ساهم كل هؤلاء الاجلاء فى التعريف بمشروع المقاصد الذى  تبلور  بشكل منهجى لدى الشاطبي فى الموافقات ، والمقصود بها الموافقة بين المذهب المالكى / مذهب اهل الاندلس والمغرب العربى ومذهب اهل المدينة ، وبين المذهب الحنفى ، وابوحنيفة هو امام العقل ، وهو الامام الاكبر ، والحنفية هو مذهب الخلافة العثمانية ، وهو المذهب  الذى استند اليه برقيبة فى سن قوانين الاحوال الشخصية ، والتى تصنف بانها اعظم قوانين للاحوال الشخصية فى العالمين العربى والاسلامى ، والخلفية (الحنفية) لكل من تركيا ، والعلمانية فى عهد برقيبة هى التى جعلت التطبيقات الاسلامية فى تركيا / اردغان ، وتونس / الغنوشى مسالة مختلفة عن التطبيق الاسلامى الطالبانى فى السودان .

فاذا كان الامام الشاطبي قد قسم مقاصد الشريعة الى ( ضرورية ، وحاجية ، وتحسينية) ، ومع مراعاة ان ( فقه الدولة كله من المتحركات ) ، فان الفهم المقاصدى للشريعة يقتضى ان نجعل قضايا ( حقوق الانسان ( كما هى فى المواثيق والعهود الدولية التى صادق عليها السودان ) واحترام التنوع ، وقيم التسامح ، وحقوق المراة ، واستقلال القضاء ، وقيم العدل والمساواة ... الخ) .. نجعلها  - الان / فى زماننا هذا / عصر مابعد فشل مشروع حسن البنا - من (ضروريات مقاصد الشريعة) ، لان مقاصد الشريعة اتت لتكريم الانسان ( ولقد كرمنا بني ادم - الاية ٧٠ سورة الاسراء)  فاذا نظرنا الى ( حق المتهم فى الدفاع) ، سنجد ان هذا الحق (متغير)، بتغير الزمان والمكان ، ففى دولة المدينة لم يكن من حق المتهم ( التقاضى على مرحلتين) ، بل كان مسموحا ( اكراه المتهم ليعترف كرها) ، وقد افتى امام المدينة / الامام مالك بجواز ضرب المتهم الى ان يعترف ، وقد كان هذا الفقه مقبولا فى وقته ، ولكنه الان / يتعارض مع روح الشريعة ، ونصوص القوانين التى صاغها انسان هذا الزمان من قيم عصره المستمدة من المواثيق والعهود الدولية المنظمة لحقوق الانسان.

اخلص من كل ما تقدم هنا اعلاه ، الى ان اتفاق باريس فى مجمله وبما يهدف اليه من بناء دولة المواطنه ، وبما نص عليه تحت بند الحريات والتحول الديمقراطى يضع الاساس ( لروح الدستور ) المستمد من روح الشريعة ومقاصدها / المتحركة ، وهذا الفهم يقودنا الى ضرورة الغاء كافة القوانين المقيدة للحريات ، والردة ، وبنطلون لبنة ، هذه القوانين  المخالفة  لنصوص المواثيق الدولية المنظمة لحقوق الانسان والتى صادقت عليها حكومة السودان منذ تاريخ الاستقلال، وسن قوانين ( تجرم اتهام الاخرين بالردة) كما جرى فى التجربة التونسية التى اشاد بها السيد الامام فى مقاله الفكرى موضوع الحوار ، والغاء التشريعات الجنائية التى تحط بكرامةالانسان السودانى مثل جلد المراة والرجل ، والعودة الى قانون عقوبات ١٩٧٤ باعتباره قانون سودانى مجرب ، او صياغة اى قانون اخر مبنى على حقوق الانسان (كما هى فى المواثيق).

( ثالثا ) الاقتصاد الاسلامى الطفيلى :

اذا كان مشروع حسن البنا الاخوانى قد وجد قبولا فى تركيا على يدى اردغان وعبدالله غول ، فقد حدث هذا القبول بسبب النجاح الاقتصادى الهائل الذى حققه اردغان ، وهو نجاح لم يؤسسه اردغان على الطفيلية الاقتصادية ، والمرابحة ، والسمسرة بقوت الشعب التركى ، وانما بالشفافية ، والنزاهة والامانة ، والانتاج الحقيقى ، وليس النشاط الطفيلى كما فعل اهل الانقاذ ، افسد خلق الله فى الارض ، باسم الاسلام . لم تطور البنوك الاسلامية فى السودان تجربتها ، منذ تدشينها حوالى عام ١٩٨٠ ، لم تخرج عن صيغها الثلاثة المعروفة ، ولكنها توسعت فى ( صيغة المرابحة ) ، وتمويل السيارات الفارهة للاغنياء . باختصار ، لايحتاج الانسان ليقدم حيثيات لاقناع الشارع السودانى بفشل تجربة الانقاذ فى الاقتصاد وادارة موارد البلاد ، وسرقة عائدات النفط السودانى حينما كان الجنوب جزءا من الوطن السودانى الكبير . ملف الاقتصاد السودانى يحتاج الى مؤتمر اقتصادى كما هو مقرر ، قطعا ان اول توصية سيخرج بها هذا المؤتمر الاقتصادى هى الغاء احتكار الاقتصاد الاسلامى الفاشل ، والسماح للبنوك التجارية التى تعمل بالفائدة اليسيرة المعلومة ( الخالية من اى استغلال او الاضعاف المضاعفة  كما جاء فى اسباب منع الربا.) ، وتجدر الاشارة الى ان  هذه البنوك التجارية تعمل فى السعودية ودول الخليج وتركيا الاسلامية ، ومصر وتونس دول الربيع الاسلامى ، الامر الذى يكشف ان منعها من العمل فى السودان بلد التنوع لا يعدو ان يكون غلوا وتطرفا فى تطبيق الشريعة ، وقلة فقه .

ابوبكر القاضى / عتيق

ويلز

aboubakrelgadi@hotmail.com

//////////

 

آراء