الله الرحمن الرحيم
من مدارات الحياة
alkanzali@gmail.com
2-2
في مقالي السابق تحت عنوان (الله والإنسان وإستيف جوبز) جاء طرح أربع مسارات، الأول عن الله والإنسان، وهذا ما أنوي الكتابة فيه مستقبلاً. والثاني عن الإبداع والابتكار، وقلنا فيه من أراد التميز في الحياة، فعليه أولاً أن يكون صاحب أنتاج فكري أو ذهني.أما ثالث المسارات فقد أعطينا فيه مؤشراً وتوجهاً عاماً لمعيار النجاح في هذه الحياة الدنيا، ولمن يرغب في أن يترك بصمته بعد رحيله عليه أن لا يرى حرجاً في أن يبدأ من جديد، لأن السقوط والنهوض شرط أساسي من شروط النجاح.
كوكبنا الأرضي عاد مسطحاً؟!
أما رابع المسارات فهو مَحَطُ رحالِنا في هذا المقال، وهو عن كوكبنا الأرضي، فقد كان يعتقد قدماؤنا أن الأرضَ مسطحةُ ومحاطةُ بالماء من كل جانب. ثم بعد جهد وبحث كئود من علماء الفكر والفلك أثبتوا نظرياً أن كوكبنا الأرضي كروي الهيئة وليس مسطحاً كما كان يعتقد الناس. لهذا أبحر (كريستوفر كولومبس) بسفنه غرباً ليصل إلى شبه القارة الهندية والقارة الأسيوية، ليبرهن أن ما قاله علماء عصره في القرن الخامس عشر بكروية الأرض هو حقيقة. فإذا بسفنه ترسوا في جزر الباهاما بالقرب من كوبا، وكان اكتشاف الأمريكيتين. ثم تلاحقت النظريات والاكتشافات العلمية لعلماء الكونيات ليثبتوا لنا قطعية أن كوكبنا الأرضي دائري.
فاجأنا علماء الحوسبة IT في عصر المعلومات الرقمي The Digital Age وفي صدر الألفية الثالثة التي نعيشها، أن كوكبنا الأرضي لم يحتفظ بخاصيته الكروية فحسب، بل أرتضى أن يكون مسطحاً كما كان يعتقد قدماؤنا. وعندما نقول مسطحاً إنما نعني أنه أصبح من الممكن للناس أن تنافس وتتعاون وأن تتصل ببعضها البعض، من مواقع مختلفة من كوكبنا الأرضي. وقد بات هذا جلياً في الأعمال التجارية والاقتصادية والتعليمية والعسكرية، والفردية والحكومية، فمن السهل في عصرنا هذا أن يكون الاختراع العلمي في بلد ما، والتصميم في بلد آخر والإنتاج في بلد ثالث. هناك أربع عوامل رئيسية أدت لأعادة الكرة الأرضية مسطحة كما كان يعتقد قدماؤنا:
الأول: ابتكار جهاز الحاسوب الشخصي PC الذي سمح للأفراد بإدارة أعمالهم وشئونهم الخاصة وتطويرها،
الثاني: دخول الإنترنت وعلى مستوى العالم منذ التسعينات من القرن الماضي،
الثالث: استحداث وتطوير برامج الكمبيوتر المتعلقة بالانترنت (HTML, HTP, ZML, SOAP, AJAX, EDI, FTP, SSH, SFTP, VANSMTP, AS2)
رابعاً: اتساع شبكة تكنولوجيا المعلومات (Networking) التي تُعد من العوامل التي دفعت بالعولمة، وانتقالها إلى عهد السحابة (The cloud)، وهو إبداع جديد في عالم حفظ وإعادة استخدام المعلومات والبرامج الحاسوبية. فالسحابة أن نعرفها نقول: "أنها رؤية خارج نطاق العقل والنظر، فهي تقع في مكان ما نجهله". يمكن للمستخدم (فرداً كان أم شركة صغيرة كانت أم كبيرة) أن يستأجر خدمات السحابة بسعر زهيد، وهناك شركات تخصصت بتقدم مثل هذه الخدمة. ابتكار (السحابة) ما زال يعيش في مرحلة طفولته الأولى، فهي تعمل الآن على توفير المصادر الحاسوبية من برامج ومعلومات وملفات عبر شبكة الانترنت لتكون تحت طلب المستخدم، فرداً كان أم مؤسسة. إجراءات مستخدمي خدمة السحابة تتميز بالبساطة التي تتجاهل عرض التفاصيل التي تجري خلف الستار، مما يمكن المستخدم وبغض النظر عن نوع الجهاز الذي يستخدمه أن يكون قادراً على استخدام كافة البرامج الحاسوبية وتخزين كل ما لديه من معلومات في تلك السحابة التي يمكن استئجارها بتكلفة زهيدة كما قلنا سابقاً.
تسارعت خطى التسطح للكرة الأرضية بتفاعل المستخدم مع الإنترنت والإيميل والفيسبوك وتويتر، حتى وصل الأمر لما شاهدناه في الربيع العربي، وما حدث من نقلة نوعية وزمنية للأخبار المتلفزة حيث كانت محطات التلفزيونية تحصل على الأخبار المصورة بتكلفة عالية، كما أنها كثيراً ما تحجر السلطات عليها نقل تلك الأخبار. أما الآن فالقنوات تحصل على الأخبار ساعة بساعة، بل لحظة بلحظة، مقابل بضع مئات من الدولارات.
من الصعب بل من المتعذر أن نتنبأ بتنامي تكنولوجيا (السحابة) المتصاعدة يوماً بعد يوم، خاصة إذا القينا نظرة للإحصائية التي أصدرتها المنظمة العالمية للاتصالات (International Telecommunication Union ITU) وهي تقول أن بنهاية سنة 2010 كان هناك أربعة بليون وستمائة مليون مستخدم للهواتف الجوالة في العالم، علماً بأن سكان العالم يبلغون الآن السبع بليون نسمة. فهذا رقم مذهل إذا ما قورن بسنة 2002، حيث لا يزيد عدد مستخدمي الهواتف الجوالة من بليون. وتشير الإحصائية إلى أن هناك ثمانية عشر مليون مستخدم ينضمون في كل شهر للاستفادة من خدمة الهاتف الجوال. وعلى سبيل المثال بلغت مبيعات الكمبيوتر الشخصي 300 مليون وحدة حتى نهاية سبتمبر من هذا العام، ومن المتوقع أن تصل مبيعات الأيباد في عقد من الزمان إلى 38 بليون دولار.
لهذا يصح القول أن العالم أصبح مسطحاً، وينكمش يوماً بعد يوم ليصبح فعلاً قرية صغيرة نتجول في شوارعها دون عناء، ذلك بفضل دخول الحاسب الآلي الشخصي، والهواتف الجوالة والإنترنت التي توجت ثورة المعلومات، فتبدل تركيبة العمل ونهجه، فانزوت بعض الأعمال والوظائف وتولدت أخرى، وقد مضى بلا رجعة عهد بقاء الوظيفة أو المهمة بنفس مواصفاتها لعقد من الزمان، فالآن المسائل تتبدل في كل حين ولحظة، فمن لا يواكب هذا التغيير المتصاعد، سيتركه القطار عند محطة القرن العشرين وسيمضي دونه، ولن يمض وقت طويل حتى يصبح المتخلفون مثل الدينصور الذي لم تشفع له قوته وضخامة حجه في البقاء، فأصابه الفناء لعجزه عن المواكبة والتأقلم .
ولنأخذ سنغافورة كمثال حي للمواكبة والتأقلم. يقول عالم الاقتصاد السنغافوري (تان كونغ يام) إن سنغافورة بلد صغير جداً لذلك نشعر دائماً أننا في مهب الريح، فحدوث أي عاصفة أو تغير في المناخ يمكن أن تذري بنا كالرماد. لذا علينا بأن نتأقلم مع العالم حولنا. ويضيف قائلاً: "يرجع التقدم الذي أحرزته سنغافورة نتيجة هذا التأقلم والنظرة لما يحدث خارج حدودها من تغيرات".
حكى لنا الدكتور كامل إدريس المدير العام السابق للمنظمة العالمية للمكية الفكرية إنه في زيارته لسنغافورة وجد أن موظفي الدولة هم أصحاب أعلى الرواتب ولا يبزهم فيها إلا وزراء الحكومة حيث يتقاضى الوزير راتباً سنوي يفوق المليون دولار. وعندما سأل لماذا؟ كانت الإجابة: "لحمايتهم وحماية الخدمة المدينة من الفساد". كما لاحظ أن الوزراء لا يقبلون الثناء عليهم عندما يحسنون صنعاً، ويردون قائلين: "علينا أن لا نعتقد بأننا أنجزنا ما علينا بوجه حسن لأن هناك دائماً عمل متبقي لم يتم إنجازه".
في عالم متغير على هذا النحو يصبح البقاء فيه ليس للأكثر قوة أو ذكاءً كما قلنا من قبل، بل هو للقادرين على التأقلم مع المتغيرات في العالم من حولنا الذي بدأ رحلة التسلق والانطلاق للقرن الواحد والعشرين من سلم الترقي التكنولوجي والحضاري، ونحن ما زلنا في مكاننا، نجتر حديثاً مكرراً عن ماضينا الذي لا نملك غيره، كالبقرة عندما لا تجد ما تأكله تجتر ما في معدتها. فهل من نهوض بعد سقوط؟
• مراجع:
• Inside Steve’s brain by Leander kahney
• That used to be US - What went wrong with America and how it can come back by Thomas l. Friedmand and Michael Mandelbaum
• The Shallows How the internet is changing the way we think, read and remember by Nicolas Carr