وقائع محاكمة معلنة للعقل الإسلامي

 


 

 


تقديم كتاب (هل أخطأ السلف؟) للدكتور محمد بدوي مصطفي

 (شرفني الدكتور محمد بدوي مصطفي أستاذ اللسانيات السامية وآدابها بجامعة كونستانس بألمانيا بتقديم كتابه الذي صدر الأسبوع الماضي عن دار أوراق للنشر والتوزيع بالقاهرة بعنوان: هل أخطأ السلف؟ الذى ابسطه أمام القراء في هذه الزاوية).
هذا الكتاب يختزن وقائع محاكمة معلنة للعقل الإسلامي في الوقت الراهن، لا سيما العقل السلفي الجهادي المتطرف.ليس بحجج الفقه واحكامه،أو المحاججة في اصوله النظرية والفكرية  ولكن بحصائد فعله ولسانه وهو يكتب بالعنف سيرته، ويسفك دماء مخالفيه ويدابر الواقع ويخالف روح العصر.
وهو كذلك كتاب ضد الظلم..لأنه يسعي لإنصاف الإسلام من تهور أبنائه وجحود أعدائه.ويكّد لإنصاف المرأة من عاديات التقاليد بإسم الإسلام، وهم يزورون وعي التاريخ بتبرير الختان..ويجهد ليقول: لا لظلم نساء المسغبة في أرض الحرمين وهو يروم الذود عن سيرة الأحباش في خدمة اربابهنّ في بيوتات الخليج.ويعلن أن شمس الإسلام أشرقت يوما علي الغرب علي خطي زيغرد هونكه في كتابها الشهير. ويكدح لينير للإسلام طريقا بالعقل والرشد والحكمة، رمزه في التاريخ أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء.
وفوق ذلك..فهذا كتاب موبوء بالأسئلة من لدن كاتب يشقي بالتفكير وتوليد علامات الاستفهام من آيات الآفاق و تفاعلات الحياة. وهو يكشف عن ذهني جدلي فلسفي متفاعل مع قضايا عصره، لا يركن الي الإذعاني والتسليمي، بل يناقش في جرأة محمودة الخطابات المتقاطعة لتكييف الظاهرة الإسلامية الراهنة وسياقاتها السياسية والاجتماعية وما أفرزته من تطرف وارهاب ومواجهات مع الغرب مما أدي الي حوادث مأساوية وتضخيم لظاهرة الأسلاموفوبيا التي يناقشها الكاتب بمنظور عقلي متفتح ومنهج إسلامي معتدل.
والكاتب الذي عاش نصف عمره البيولوجي وكل عمره المعرفي في أوروبا، لم يسلخ جلد هويته الثقافية ولم يتحول الي بوق أجوف يردد ما تلقاه في قاعات الدرس،ويتقن صور الانحياز الأعمى لسلطة الغرب المعرفية، هذا رغم ثراء تجربته الأكاديمية وتكوينه العلمي الذي تقاسمته قسطاسا مستقيما فرنسا وألمانيا أعرق بلدان اوروبا والغرب في مرتكزات التنوير والحداثة والمعرفة.
تكشف هذه المقالات عن سياق تفاعلي مع الحوادث والأقضية المتجددة في حياة الناس، فهي ليست ثمرة تفكير تجريدي مستخرج من بطون الكتب فحسب، بل هي نتاج سائغ لمشاهدات عابرة وعميقة في طرقات الحياة المتعددة، ومحاورات ومساجلات مع علماء ومحادثات مع بعض العوام ورجل الشارع العادي وسائق التاكسي في القاهرة و المدن الكبيرة، وجدل في صفحات وسائل التواصل الإجتماعي.فهو يتنقل برشاقة من أم درمان الي القاهرة والأزهر الي سويسرا وألمانيا وفرنسا دون أن تحس بفارق التوقيت الثقافي والمعرفي بين البلدان والمدن وهو يسرد حيثيات الوقائع ويجدد جدل الأسئلة. ويتحدث عن الختان والغربان والتطرف والسلف والفكر والأدب والروايات والحضارة بسلاسة عذبة. لذا تعكس هذه المقالات  في سياقها ومضمونها شيئا من تفاعلات الحياة في قضية الإسلام والتحديات المعاصرة التي تواجهه، والجماعات التي تدعي تمثيل الإسلام وقيمه ومبادئه وشرائعه في منابر السياسة ومدافعات الحياة العامة. والكاتب فوق ذلك شديد الولاء والانتماء لخصوصية هويته الثقافية، فهو لا يغفل عن إدراك هويته كشخص ينحدر من أصول تختج في عروقها وجيناتها كل متناقضات واتساقات أفروعروبيته ، وهو بحكم عقيدته كمسلم ينتمي الي أقلية اجتماعية في أوروبا  تتلبسها كل نظرات الشك والخوف، مطلوب منها علي الدوام أثبات طيب الطوية وشهادات حسن السير والسلوك، خاصة بعد هجمات غلاة المتطرفين الأخيرة علي عدد من المدن الأوروبية في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا والدنمارك وهولندا وغيرها.
أصبح هذا النموذج من المثقفين الذي يمثله الكاتب ضحية وضعين متناقضين، فهو في نظر مسلمي بلاده والشرق الأوسط أوروبي الثقافة والانتماء، يعاني من عقدة التحيز لكل منجزات الحضارة الغربية، وهو من ناحية أخري مسلم ينحدر من أصول أفروعربية لذا فهو يقع في دائرة الشك الكبير التي تنتاب الأوربيين تجاه كل ما هو مسلم تعود أصوله الي جذور خارج القارة، كما كشفت (باقيدا) حركة الوطنيين الأوروبيين ضد الإسلام. لكن تجد في مقالات هذا الكتاب اعتزازا مضمرا بهذه الهوية التي تعبر عن أصالة لا عقدة نقص، فهو مسلم أوروبي كامل الانتماء والأهلية لوطنه ألمانيا وكذلك وطنه الأصل السودان. فضلا عن ذلك فهو كذلك شديد الحرص علي الحوار والنقاش المنفتح مع أفراد ومؤسسات التيارات السلفية المتزمتة ليردها عن غائلة الانحدار الي العنف وتعميق قيم التفكير العقلاني الراشد ومبادئ العلمية والموضوعية والعقلانية ومبادئ حقوق الإنسان.
نشرت هذه المقالات منجمة في الصحف السيارة ومواقع الأسافير المختلفة، لذا جاءت متخمة بتوترات المخاض لحظة الكتابة، ورغم تعدد الموضوعات وتباين مضمونها إلا أنه يجمعها خيط ناظم ووحدة موضوعية فضفاضة. ويحتوي هذا الكتاب علي مقالات متعددة المشارب، متنوعة الموضوعات منها الأدبي والروائي والفكري والإجتماعي والثقافي والسياسي.لعل أهمها هو ما يجب أن يكون عليه الإسلام في سياقات الحضارة المعاصرة. ويحاول أن يبحث ويفند اسباب المواجهة العنيفة من بعض المجموعات المتطرفة التي تدعي تمثيل الإسلام والتحدث بلسانه مع أوروبا والغرب.وفي قضايا الكتاب استبطان غير معلن لتلك الأسئلة التي فجرها بعض الدارسين والمثقفين عن تخلف المسلمين وتقدم الآخرون؟. وتبدو اصالة الكاتب وغيرته في نقده وتصديه للمواطن العربي حامد عبدالصمد الذي يزعم ان الفاشية الإسلامية بدأت بفتح مكة، وفي المقابل تم فتح أبواب الإعلام والقنوات لنشر وبث أحاديثه في ألمانيا. وهو كذلك داعية للتلاقح لا التعانف كما افاض في مقاله عن العرب وابناء المسيح، الذي يعدد فيه فضائل واسهامات الحضارة الإسلامية علي الغرب.
السؤال المركزي في هذا الكتاب هو: لماذا قصر الإجتهاد عن الوفاء لمجابهة تحديات الواقع وصيرورة العصر؟. ويجيب الكاتب في مقاله الذي اختاره عنوانا لهذا الكتاب وهو (هل أخطأ السلف؟) بأن طبقة أولي الألباب من المجتهدين قد ضعفت وذلك في سياق أحدي رواجم التشكيك واثارة الشبهات ضد الإسلام وهل تزوج الرسول صلي الله عليه وسلم من السيدة عائشة وهي  قاصر؟. والنموذج الإجتهادي لدي الكاتب هو الإمام أبي حامد الغزالي الذي لم يركن الي تهويم أهل الباطن أو شطحات الفلاسفة، بل أختط نهجا للعقل والحكمة ومزج بين الشريعة والحقيقة. ومنهجه في تمحيص الحقيقة هو مباديء المناظرة الرفيعة بين بن رشد والغزالي. ويخالف الدكتور محمد بدوي رأي بعض المثقفين في أن الإجتهاد منوط بإحياء سلطة العقل، وهو ما كان يمثله بن رشد، ولكن انتصار الغزالي علي بن رشد أدي الي قفل هذا الباب.
يحتفي الكاتب بوجه خاص بأعمال محمد أركون ومحمود محمد طه، في استثارة الأسئلة حول الفكر الإسلامي المعاصر، ولكنه هناك وقفات علي ذلك. فالدكتور محمد أركون يدعو الي قراءة القرآن كنص تاريخي وليس نصا مقدسا، وبالتالي تجري عليه أدوات النقد والتمحيص العلمي، ومقارنة الوقائع التاريخية المذكورة ومدي اتساقها مع علم الأديان واللاهوت والتاريخ.وذلك توجه نادي به كثير من المستشرقين من قبل. أما الأستاذ محمود محمد طه فهو رغم نزعته التجديدية إلا أن نظريته في نسخ القرآن المدني أو نسخ آيات الفروع وتثبيت آيات الأصول رفضتها جمهرة علماء المسلمين لما فيها من شبهة تعطيل نصف القرآن وهو ما لم يتأتى للنبي الخاتم صلي الله عليه وسلم، فكيف يسوغ لبشر من بعده؟. كما أن نظريته في الإنسان الكامل وصلاة الاصالة والتقليد التي فتحت عليه اتهامات الردة والكفر تبقي احدي اكبر علامات التعجب والإستفهام في فكره وممارسته العملية.
يتبرم الكاتب بحق من انتشار الفكر السلفي والحركات المتطرفة في العالمين العربي والإسلامي، ولكن لا يرد هذه الظاهرة الي سياقها الإجتماعي والثقافي والسياسي، فهي ليست ظاهرة منبتة من سياق منظومة متكاملة من الأسباب والظواهر، ولن تختفي هذه الظاهرة بالإدانة و اللعنات لكن لا بد من سبر أغوارها ومعرفة اسباب بروزها، ومن ثم وضع السياسات والتدابير المتعددة لمعالجتها والقضاء عليها. من ناحية أخري برر الكاتب خوف أوروبا من الإسلام ،لأن الأوروبيين حسب قوله يعيشون كل يوم هذه الجرائم واقعا ملموسا. ولكن لا جرم في طرح الكاتب لأنه يكتب من وطأة الواقع وصورة التشكيك والتجريم التي تزداد كل يوم في عيون الأوروبيين ضد الإسلام خاصة بعد حادثة الإعتداء علي صحيفة (شارلي أبدو) الكاريكاتورية الساخرة.
محاربة هذه الظاهرة مسئولية مشتركة تقع علي عاتق مجتمعات المسلمين في أوروبا وكذلك الدول الأوروبية التي لم تتخذ - كما يعترف مثقفوها- سياسات حقيقية وجاذبة لتحقيق الإندماج الإجتماعي لهذه الجاليات التي تعيش كأقليات علي هامش المجتمع، لأن عددا من كبريات الدول الأوروبية تريد لهذه الأقلية المسلمة الذوبان لا الإندماج. وذلك لأن الإندماج يعني القبول بالتعددية الثقافية والهويات المتنوعة وهو ما ترفضه هذه الدول ، التي تريد ذوبانا كاملا في الهوية الألمانية والفرنسية.
وكذلك مراعاة الخيط الرفيع بين الإساءة للمقدسات الدينية ورموزها الروحية والعقدية والإحتفاء بحرية التعبير.
لا يصدر الكاتب عن ميسم العقل الوسيم في اجتراح تحليل وتفسير الظاهرة الإسلامية جراء ما اكتسبه من ثقافة ومعارف في فترة تدريبه الأكاديمي في الجامعات الأوروبية في ألمانيا وفرنسا فحسب، بل جزء منها يعود الي تراث اسرته في السودان،حيث كان لوالده كذلك سهما وافرا في تأسيس العمل الإسلامي الوسطي والمعتدل في بواكير عهد تشكيل التيارات السياسية في السودان في اربعينات القرن الماضي، وعاظل مجاهدات العمل الوطني وزيرا للتعليم ومؤسسا للجامعة الإسلامية بالسودان. والناظر الي السيرة الأكاديمية للدكتور محمد بدوي مصطفي يجد أن بعضا منها يعد امتدادا طبيعيا لتخصص والده واستجابة طبيعية لتلك البذرة الصالحة في حب التعليم والتعلم.فقد تخرج والده من قسم الترجمة في كلية غردون التذكارية، فلا غرو إذن أن يتخصص الدكتور محمد بدوي في اللسانيات واتقان اللغات خاصة الفرنسية والألمانية والإنجليزية ويتوسع في تدريس آداب اللسانيات السامية في جامعة كونستانس الألمانية. وهو فوق ذلك سيال القلم، متعدد الإهتمامات والمواهب، وله وجدان عامر بالفنون فهو كاتب وناثر، ومؤلف موسيقي ويتقن الرسم التشكيلي والتصوير.و في جلد لغته غرر مشرقة من مقابسات القرآن ووضاءة الحرف، وتطل من نصوصه روح سودانية متلفعة بالمفردات العامية  مثل (سلبة) في مقام التوضيح والإبانة ..
هذا كتاب جدير بالإحتفاء والقراءة لأن كاتبه يستثمر في المستقبل وإصلاح الوجدان بالعقل والحكمة لا مدابرة الواقع والعصر.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء