وماذا عن عنصريتنا نحن؟ 2 – 3 …. بقلم: خالد عويس

 


 

خالد عويس
28 June, 2010

 

khalidowais@hotmail.com

روائي وكاتب سوداني

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة حول العنصرية السودانية، عرضتُ إلى ورقةٍ كنتُ كتبتها في 2006 عن أطروحة الدكتور عبدالله بولا الموسومة (شجرة نسب الغول في مشكل "الهوية الثقافية" وحقوق الإنسان في السودان، أطروحة في كون الغول الإسلاموي لم يهبط علينا من السماء).

وخلصتُ في ورقتي إلى تدعيم مرئيات دكتور بولا حول الشواهد التي لا تُحصى في الثقافة والحياة السودانيتين على العنصرية التي أراها من وجهة نظري سبباً جوهرياً في النزاعات الدامية التي شهدها السودان طيلة نحو ستة عقود، كونها – العنصرية – ترتبط ارتباطا وثيقا بحقوق الإنسان و(المواطنة) ومسألة الحقوق والواجبات وكذلك المساواة.

إذن، هل نحن عنصريون؟

الإجابة، دون شك: نعم !

نعم، فهناك اعتقاد واسع في صفوفنا بـ(التفوق) على مجموعات سودانية أخرى بسبب العرق وحده. ولا يمكن لأحدٍ، الآن، بعد كل هذه السنوات، وكل الممارسات والأحداث التي شهدتها بلادنا، أن يغامر بنفي العنصرية، أو يحاجّ بأنها ليست متفشية بيننا !

إلام - إذن - يعود هذا الشعور بـ(التفوق) الذي أصفه بثقة تامة بأنه يمثل في جوهره (عقدة)؟

هل يمكن طرح فرضية بأن الشخصية السودانية تعاني شعوراً بـ(التهميش) في ظل محيط تسيطر عليه شخصيات جمعية قوية، كالشخصيتين المصرية والإثيوبية مثلا؟ وهل يستحيل هذا الإحساس بالتهميش إلى محاولة الاندماج في (الشخصية العربية) بكل حمولاتها التاريخية والثقافية والدينية؟

لماذا لا يشعر السوداني بالزهو لكونه سودانيّ وحسب؟ ولماذا يستتبع اندماجَه اللا شعوري في الشخصية العربية، استعلاءٌ على المكونات التي يراها ليست ضمن هذا النسق الثقافي و(النقاء) العرقي، ويمارس عليها في (اللا وعي) طرداً ونفياً متواترين؟

ولربما  كان هذا السبب هو الدافع الرئيس لشعوره بالغبن والغضب حين يخيّل له أن (الشخصية العربية) تمارس عليه في المقابل طرداً ونفياً قائمين أساساً في الذاكرة العربية، واضطهاداً متأصلا في الثقافة العربية ضد (السود).فالثقافة العربية لا تنظر إليه كعنصر (أصيل) في نسقها، وإنما كعنصر (ملحق) يفتقر إلى (النقاء) كما يفتقر إلى الصفات الأخلاقية والقيمية في (النسق العربي).

المشكلة أن منظومة القيم العربية في هذا الصدد - رغم الإسلام - لم تتطور كثيرا، وظلّت على تخلفها، وهي الأخرى تعاني عقدة (نقص) تجاه الرجل الأبيض..(المنتصر في الميادين كافة، حضاريا وعسكريا واقتصاديا ومعرفيا) في مقابل إحساس جمعي بالهزيمة وفقدان الثقة في الحاضر والمستقبل بالنظر إلى الماضي (المقدّس في أشكاله كافة) ما يدفع إلى إفراغ شحنة الشعور بالدونية على (الآخر)، خاصةً إذا كان أسوداً !

الثقافة العربية خاصةً في الشعر والأمثال، قوية التأثير إلى غاية الآن، تفيض باحتقار اللون الأسود.فهو (إذا جاع سرق، وإذا شبع زنا). وهو لا يستحق أن يُشترى (إلا والعصا حاضرة لتأديبه، كما في بيت المتنبي)، وهو إلى ذلك كريه الرائحة (تُرى لهل لذلك صلة بالفنون التي ابتدعتها المرأة السودانية في تطرية جسدها ونفحه بالعطور؟)، وهذه الأوصافُ كلها مع غيرها لم تخلُ منها حتى (مقدمة ابن خلدون)، إنجيل العرب المقدس في الدراسات الاجتماعية.

رسوخ هذه المعاني في الثقافة العربية، دفعت (الشخصية السودانية) إلى السعي الحثيث و(اللا واعي) لتقمص الشخصية العربية في احتقارها للأسود، ونفي صفة (سواد العرق) منها.

في نقاش ساخن مع أحد أقربائي، قبل نحو 20 سنة، سألته، لماذا تحتقر الجنوبيين، وتصفهم بـ(العبيد).قال إنهم (سود) !!.ذكّرته بأن فلانا وفلانا من أقربائنا أشدّ سوادا من الجنوبيين.فرّد بأن الجنوبيين (زنوج) في حين أن أقرباءنا عرب، لذلك فإن الجنوبيين لا يستحقون المساواة معنا ! قلت له إذن تعتقد أن الجنوبيين مخطئون.فتساءل:كيف؟ قلت له حسنا، إذا كنت تعتقد أنهم لا يستحقون المساواة، وهم أدنى منك درجة، فلا شك أن ثمة خطأً ينبغي أن نفكر فيه.وطالما أن الخطأ - برأيك - يكمن في العرق، فالخطأ هنا هو (خطأ الله) الذي خلقهم على هذه الحالة التي لن تسمح لهم أبداً – حسب منطقك – أن يكونوا بشراً على قدم المساواة معنا.كاد أن يكفرني، وقال لي كيف تقول مثل هذا الكلام عن الله سبحانه وتعالى؟ كان ردي عليه موجزا، حسناً إذا كنت تعتقد في قرارة نفسك أن هناك ثمة تراتبية بين البشر تمليها أعراقهم - وهذا منطقك أنت، لا منطقي أنا -، فهم ليسوا مسؤولين البتة عن خلقهم، خالقهم هو الذي قضى بذلك.منطقك يحمّل الله المسؤولية، لكن الله هو الذي جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف، ولم يعط أيّ منّا ميزة على الآخرين وفقاً للعرق، فمن أين أتى إحساسك هذا بالتفوق العرقي؟ وإذا كنت مؤمناً فعلا بهذا المنطق، فعليك أن تؤمن - كذلك - بأن الأوروبي (الأبيض) أفضل منك لأنه (آري نقي مثلا)، وأنت هجينٌ عربي – إفريقي!!

ما يمكن وصفه بـ(العقد الثقافية العربية) انتقلت إلى (الشخصية السودانية) على نحوٍ مضخم.فـ(الشخصية السودانية) واقعةٌ تحت الشعور بـ(دونية) تجاه (الشخصية العربية) التي تحاول الالتحام بها من جانب، ومن جانبٍ آخر، فإنها تمارس استعلاءً لا يُوصف بحق المكونات الأخرى، لتأكيد التحامها بـ(الشخصية العربية).لهذا، فإن مثقفاً (إسلاموياً) بارزا مثل الدكتور حسن مكي، لا يستنكف أن يحذر – في نحو 1996 – من (الحزام الأسود) حول العاصمة (العربية)، الخرطوم !! والشاعر الغنائي لا يغفل تنبيهنا إلى أن الذكاء حكرٌ على العرب وحدهم:

(وإلى العرب تُنسبُ الفطن)

دعنا ندلل على كلّ ما سقناه في هذا الصدد بكتاب (الآخر في الثقافة العربية:صورة الشعوب السوداء عند العرب في العصر الوسيط) للكاتب السوري، شمس الدين الكيلاني.فالكيلاني، يشير إلى أن صورة الأسود في الثقافة العربية تبدو (محدودة ونمطية) وتعتمد نظرة تفتقر إلى البحث والنقد.فالثقافة العربية لم تعرف (الأسود) إلا في أسواق النخاسة والرق باعتباره  (نوعاً من المخلوقات التي تشبه البشر نوعاً ما، بلاده في أقصى الجنوب المجهول، أي على أطراف العالم المعروف آنذاك، حيث لا حضارة ولا عمران غير الصحراء والشمس التي لونت الجلود والأخلاق، وختمت بميسمها كل حياة الزنوج).

إذن، (الأسود) في المخيّلة العربية - والسودانية (المستلبة) بالضرورة - لم يرق حتى لمستوى البشر.ورُغم المبادلات التجارية، وانتشار الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء، ومخالطة العرب للأفارقة، غير أن الصورة الذهنية الأولى لم تسقط تماماً من الذاكرة العربية.

وأسهم الاستعمار الغربي وممارسة الرق على نطاقٍ واسع من أجل (الاقتصاد) بطبيعة الحال في القرون المتأخرة، في ترسيخ هذه الصورة النمطية، بل وأحدث فارقاً (سلبياً) في المخيّلة السودانية، التي لم يقتصر نفيها لـ(الأسود) للذاكرة العربية فحسب، بل عضدته الذاكرة الأوروبية أيضاً، ودفعته للهرب بعيدا جدا عن فداحة أدنى ارتباط بـ(الأسود)..المنبوذ، المضطهد، الرقيق !!

لذا لم تكن إفريقيا سوى جغرافيا في المخيلة السودانية، ولم تجد لها موطئ قدم في ثنايا ذاكرة السوداني وإدراكه.إفريقيا أضحت انتماءً مكانياً فحسب لا ينسحب بأي حالٍ من الأحوال على العرق أو الثقافة.بل هو مكان (طارئ) في موازاة المكان (الأصل):الجزيرة العربية.

والشواهد كثيرة في (سودان اليوم) على هذه النزعة التي ترقى إلى تجريم (السود) والاستنكاف منهم، بل ودفعهم بعيدا عنّا.هذه النزعة التي تبدو جلية في عبارات أحد عتاة العنصرية السودانية، الطيب مصطفى:

(قال سلفاكير ذلك خلال مخاطبته وزراء الحركة الشعبية المعنيين بالحكومة المركزية لكن سلفاكير يضطر أحيانا لمجاملة المؤتمر الوطني "المكسر" في وحدة الدماء والدموع –لا لسبب ألا أنه يخشى من تحمل المسؤولية عن الانفصال بدلاً من أن يفخر بذلك ويعتز كونه حقق حلم السودان الشمالي في الانعتاق من الاستعمار الجنوبي الذي كبله واعاق مسيرته على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان) !!

ولنغض الطرف قليلا عن الركاكة الواضحة في صياغته (العربية)، ولنغمض أعيننا – أيضاً – عن هول إشارته لـ(الاستعمار الجنوبي) ولنمض قدما في قراءة مقاله (التحفة):

(نحن مطمئنون تماما إلى أن شعب جنوب السودان سيختار الانفصال حتى يتحثث لنا ولشعب جنوب السودان الحلم في الحرية والاستقلال و والله إني لأعتبر ذلك اليوم هو يوم الاستقلال الحقيقي ذلك ان الشمال لم ينل استقلاله في يناير 1956م).

فلنغض الطرف – مرةً ثانية – عن ركاكة لغته (العربية)، ولننظر ملياً  كيف يرد الثائر والفيسلوف الاجتماعي والطبيب (النفسي) المتحدر من المارتينيك، فرانز فانون على أمثال الطيب مصطفى:

(باكتشاف الضحية أن حياتها وتنفسها وخفقات قلبها لا تختلف عن حياة جلادها وعن تنفسه وعن ضربات قلبه، وباكتشافها كذلك أن جلد الجلاد ليس خيراً من جلدها، تحدث هزة أساسية في العالم، وتدب في الضحية ثقة جديدة ثورية، تدفعها للقول بأنه إذا كانت لحياتها من القيمة مثل ما لحياة الجلاد، فلن تُخيفها نظرته، لن تُسمرها في مكانها، لن يُجمدها صوته. لن تضطرب أمامه، لن تعبأ به، لن يُربكها وجوده، بل أنها ستُعد له من الكمائن ما يجعله لا يجد لنفسه مخرجا غير التخلي عن لا إنسانيته إزاءها).

أيّ أن كفاح (الضحية) ينبغي أن يُوجه نحو (أنسنة) الجلاد لا نفيه، وهذا ما لن يفهمه الطيب مصطفى بسهولة، فهو لا يشعر بأدنى حسٍ بالذنب تجاه التاريخ الطويل من الآلام والمآسي والاضطهاد الذي أوقعه على الجنوبيين.فهم في نظره ليسوا إلا عائقا كبيرا أمام شعوره هو بالانتماء الكامل للمحيط العربي الذي يشعر تجاهه بالدونية !!

تُرى كم (طيب مصطفى) بيننا؟ كم طيب مصطفى يزرعون في أدمغة أطفالهم أفكاراً مشوّشة عن أساطير النقاء العرقي والتفوق الإثني والثقافي؟كم طيب مصطفى لا يعانون أيّ إحساس بالخجل من التاريخ المشين، تاريخ الرق والعبودية والنظر بازدراء إلى (الآخر) – أم تُرى هو ازدراء الذات؟ -، فالذي يتوجب عليه الخجل والشعور بالعار حقاً ليس هو الذي أُستعبد – بالضم – وإنما الذي ارتكب هذه الجناية الكبيرة: الرق.ولن تجد اختلافاً يُذكر بين من كان يطارد الآخرين في الأحراش بحثا عن (فرائس) بشرية واسترقاقهم، وبين من ينظر إلى غاية الآن إلى نفسه على أنه يحصل على مزايا إضافية لأنه فقط يتحدر من عرقٍ محدد.

يتبع

 

آراء