يُجمع السودانيون على أن أحد أكبر الجرائم التي إرتكبها النظام البائد في حق السودان هي تلك التي حاقت بمشروع الجزيرة. وهي في حقيقة الأمر تمثل الجريمة الإقتصادية الأكبر في التاريخ المعاصر، وإذ ليس لها شبيه البتة. إن الشيء المهم فيما يتعلق بما تم إرتكابه من جرائم بخصوص مشروع الجزيرة ليس هو السؤال "لماذا حدثت تلك الجرائم؟"، وإنما الأهم هي الإجابة على السؤال الأكبر، اي "كيف آل وتسنى لتلك الجرائم أن تحدث بذاك الشكل وإلى هذا الحد؟!". الكل يعلم لماذا حدثتْ!. حدثت لأن برنامج الحركة الإسلامية في أصله يقوم على النهب والإستيلاء والإعتداء على الحق. ولو أدى ذلك لإستخدام كل أنواع العنف، التشريعي منها والبدني. وقد كان!. وأما الإجابة على السؤال الأكبر، "كيف تسنى لتلك الجرائم أن تحدث بذاك الشكل وإلى هذا الحد؟!"، فإنها إجابة مرتبطة بالإجابة على السؤال عنوان هذا المقال. أي الإجابة على السؤال، "وما الذي يحتاجه مشروع الجزيرة، الآن؟!." إن الإجابة المباشرة، وبدون مواراة، هي أن مشروع الجزيرة يحتاج لــ "قيادة" أكثر منه لــ "إدارة"!. ودعونا نذهب في تشريح هذه الإجابة وتوضيحها. إن غياب وعدم وجود "قيادة" حقيقية في قمة هرم المشروع كان هو احد الأسباب الرئيسية، ليس في إرتكاب الجرائم وإنما في ان تصل تلك الجرائم في إتساعها وشمولها إلى هذه الحدود غير المسبوقة!، وللحد الذي لم ينج منها أي مرفق او بنية من البنيات الأساسية للمشروع!. وللتوضيح أكثر، إنه وبدون الإنتقاص من وطنية أي شخص، ومن دون طعنٍ او قدحٍ، لأن ذلك ليس من الشهامة بمكان ولا النبل، فقد كان كثير من الإداريين في المشروع يذهبون إلى عملهم صباحاً ومساء، ويؤدون أعمالهم، في الوقت الذي كان يئن فيه المشروع تحت معاول الهدم والتخريب والإزالة!. وقتها كان المشروع ينهار فوق رؤؤس الجميع، أو يكاد. ولكن، وبالمقارنة كان هناك نفرٌ آلوا على أنفسهم القيام بمهمة قيادة التصدي لهجمة القضاء على المشروع، وذلك من أمثال أعضاء تحالف المزارعين وملاك الاراضي وغيرهم، ومن خلفهم حركة واسعة لأهل الجزيرة من شبابٍ ونساءٍ ورجال. وقد يكون من بين اولئك النفر عددٌ كبير لم يحظوا بتأهيل أكاديميٍ رفيع أو يكونوا مدبجين بالشهادات والألقاب المهنية، غير أنه توفرت فيهم المواصفات القيادية Leadership Qualities، التي جعلتهم يتصدون وللحد الذي نازلوا فيه مجرمي النظام البائد في سوح القضاء، ومن ثم الإنتصار عليهم!، (راجع وقائع محكمة الطعون الإدارية، مدينة ود مدني، في يوم 11 يناير 2012، حيث حكمت المحكمة لصالح الملاك وتحالف المزارعين). وبالطبع، ليس هناك من موقف "قيادي" بدون ثمن، وبالفعل، فقد دفع اولئك القادة ثمن قيادتهم لمهمة الإبقاء على المشروع!. والتي إمتدت إلى ثلاثين عام. فالإستخلاص المهم من تجربة تلك العقود وما قبلها هو أن مشروع الجزيرة أضحى في حاجة لــ"قيادة"، تتحلى بالأتي/ أولاً/ قيادة لها القدرة على المساهمة الخلاقة في معالجة المحاور والمرتكزات الأربع الأساسية التي يقوم عليها المشروع، وهي، التمويل، والإنتاج والتسويق واخيراً القانون الذي سيحكم المشروع. ثانياً/ قيادة لها القدرة على المساهمة في إستعدال وإعادة التوازن في العلاقة التي تحكم أطراف المشروع، اي المزارعون والحكومة والإدارة. تلك العلاقة التي طالما جيرتها الحكومة تاريخياً في صالحها، خاصة الحكومات المستبدة، وإستقوت فيها بالإدارة على المزارع، مما أدى إلى هزيمة الفكرة الاساس من وراء الشراكة التي إنبنى عليها المشروع!. بالقطع، ستظل اطراف الشراكة في المشروع ثابتة ولكن ما يجب أن يكون متغير هو تطوير مفهوم الشراكة نفسها، وذلك أمر يقع على عاتق قيادة المشروع، بحكم المسئولية القيادية والتأهيل، وبحكم ما هو متوقع. ثالثاً/ قيادة لها القدرة على أن تعيد ثقة أهل المشروع في مشروعهم، والتأكيد لهم بان حماية المشروع الحقيقية تكمن في مقدرة أهله على الإنتاج، وليس القانون وحده، لان حماية القانون لا تمثل غير الحد الأدنى. رابعاً/ قيادة لها القدرة على ان تخلق قياديين في المشروع لديهم القدرة هم الآخرون على مواجهة الصعاب في المشروع وإزالتها، ولديهم القدرة في نفس الوقت على تحمل المسئولية. خامساً/ قيادة لها القدرة على إستيعاب وشرح الحقيقة التاريخية التي لا تقبل الجدل الآن، حقيقة أن المراة في الجزيرة لن تكون جزءاً من مستقبل المشروع وحسب وإنما هي كامل مستقبله. وذلك بناءاً على حقائق الثورة السودانية الماثلة. إن مساهمة المرأة في التغيير السياسي الحادث الآن، وذلك بإزالة النظام البائد، ستعادلها، وبنفس القدر هذا إن لم يكن بأوفر منه، مساهمة في حركة التغيير الإجتماعي القادمة. ومنطقة مشروع الجزيرة مؤهلة وبكل الشواهد التاريخية إلى ان تنتظمها حركة جذرية للتغيير الإجتماعي. منطقة الجزيرة هي أحد أهم حواضن الإستنارة والحداثة والمساهمات الوطنية في تاريخ السودان، (الإستقلال/فكرة نادي الخريجين، أكتوبر/قطار الثورة، ابريل/التجمع النقابي، وديسمبر/راجع جدول حراك المهنيين). سادساً/ قيادة لها القدرة على فهم أن منطقة الجزيرة مؤهلة لان تصبح فيها الحياة أرغد، ومؤهلة لأن تضحى فيها معدلات العطالة هي الأدنى في كافة السودان، هذا إن لم تكن الأقرب الى الصفر!. وسيلعب مشروع الجزيرة الدور الاساس في ذلك. هذا يعني أن قيادة المشروع لابد وان تكون لها القدرة على التواصل مع كافة قطاعات السكان وفي مقدمتهم الشباب للتدارس حول هذه القضية، وحول معالجتها ومن ثم إنجازها. سابعاً/ قيادة لها القدرة على إستعادة ثقة أهل السودان في ان مشروع الجزيرة ما زالت له الإمكانيات وما زال بخير، ويمكنه ان يلعب دوره في النهوض باقتصاد السودان. الخلاصـــــة/ إن مشروع الجزيرة يحتاج "قيادة" تستند على قاعدة ورصيد معرفي يلهمانها في فك وفهم التعقيدات التي تكتنف كل جوانب العمل، بل والحياة في المشروع. وفي المحصلة النهائية، إن توفير قيادة بهذه المواصفات يعني فيما يعني عملياً أن الفلسفة التي تحكم عمل المشروع لابد لها وأن تشهد تحولاً جذرياً، سيفضي وبالنتيجة إلى دخول المشروع مرحلة تاريخية جديدة، من اهم ملامحها تقليل فرص تكرار حدوث الجرائم الفظة التي أرتكبت في حق المشروع، وعلى مر تاريخه.