ومضات عن الأغنية الكردفانية (8) 

 


 

 

في هذه الحلقة الأخيرة سنحاول لملمة أطراف الحديث عما بات يعرف بالأغنية الكردفانية، ذات الطابع الخاص والإيقاع الذي يرتبط ببيئة كردفان وسبل كسب العيش فيها أو كمال قال الأستاذ محمد عثمان الحلاج أن هذه الأغنية ترتكز على "الخف والظلف"، في إشارة لطيفة إلى رعاة الإبل والبقر، وإيقاع الجراري والمردوم، بيد أن جهات أخرى في شرق ووسط كردفان قد أدلت بدلوها في هذا التراث الفني حيث انتشرت الدلوكة والطنبور في دار الجوامعة والبديرية باعتبارها مناطق زراعية مستقرة أكثر من كونها رعوية مقارنة بأجزاء الإقليم الأخرى. ومن عاش في مدينة الأبيض، في أواخر الستينيات ومطلع السبعينات من القرن المنصرم، لابد وأن يكون قد طرب لتلك الأصوات الشابة التي كانت تشنّف آذان المدينة وتهدهد مشاعر أهلها بالألحان الشجية ليلاً؛ فكيف يمكن لإنسان، يعشق الطرب ويتذوق الفن، أن ينسى صوت عبد الفتاح وهو يردد أغنيته التي أشتهر بها (وين يا سلوى وين وحياة قلبي المعذب بيك)، وتعود الذاكرة أيضاً إلى صوت الفنان الشعبي الرائع حيدر وهو يتغنى (بفلق الصباح) ممسكاً بآلة الرق، بطريقته المميزة، ويشدو بصوته الصادح. مسيرة الفن أو الغناء الكردفاني طويلة شارك فيها رجال ونساء مبدعون منهم الشعراء والمطربون والموسيقيون، الذين أخرجوا للناس نمطاً متميزاً من الغناء فصار ذلك رافداً للأغنية السودانية التي ولدت في مدينة أم درمان وصارت تمثل واقع الفن السوداني بما فيه من حقيبة وغناء شعبي وغناء حديث وأغاني بنات. وتضم القائمة الذين ساهموا في نشر الأغنية الكردفانية أسماء بارزة في مجال الطرب والفن والإبداع عموما منهم على سبيل المثال لا الحصر جيل الرواد من أمثال عبد القادر سالم وعبد الرحمن عبد الله وصديق عباس وإبراهيم موسى أبا وأمبلينا السنوسي وزينب عباس وغيرهم وكثر من المطربين والمطربات. ومن الشعراء نذكر محمد أحمد الأحدب وعبد الله محمد أبكر وعبد الله الكاظم ومحمد حامد آدم ومحمد عبد الله مريخة والربيع علي عثمان وقاسم بريمة وفضيلي جماع. ولعلي استدرك هنا أسماء بعض الأشخاص الذين كانت لهم بصمات متميزة في مسيرة الأغنية الكردفانية حسبما أفادني بذلك الموسيقار الموهوب الأستاذ عبد الله محمد نور عازف الكمان، فمن الذين ذكرهم الفنان أحمد محمد هارون الذي لحن كلمات الأغنية التي تقول: "أرحموني يا ناس وحنو علي" وأدتها المطربة الرائعة أمبيلنا السنوسي. ومن هؤلاء الفنان علي حسن القادم من مدينة رشاد في جبال النوية، وقد كان صاحب صوت ندي وجميل جداً، وكذلك الفنان حمودة محمد حامد وهو صحاب مجموعة من الألحان المتميزة، والمطرب أحمد محمد صالح وغيرهم كثير من أمثال المطرب لمبو وفنانو الحقيبة والغناء الشعبي والطنبور. وهنالك عدد كبير من الموسيقيين مثل سليمان فضل المولى وأحمد المصطفى أبو شنب وبشارة سالم وصلاح عبد الرحمن أحمد عيسى. ومن الملاحظ أن كردفان كانت مستقراً لبعض كبار الشعراء على مستوى الوطن لكنّ أحداً من فناني كردفان لم يغن لأي من هؤلاء ومنهم محمد عوض الكريم القرشي الذي كانت له ثنائية مشهورة مع الفنا عثمان الشفيع، وأحمد عبد المطلب حدباي الشاعر ذائع الصيت، والأمي، وعثمان خالد الذي غنى له حمد الريح إلى "مسافرة" كما غنى له صلاح بن البادية رائعته "نناسك إنت أنت بتتسني" التي لاقت رواجاً وساعاً في سبعينات القرن الماضي، ومن هؤلاء الشعراء الكبار محمد المكي إبراهيم الذي غنى له الإمبراطور محمد وردي نشيد أكتوبر الذي يقول: اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيمانا وبشرى وعلى الغابة والصحراء يمتد وشاحا وبأيدينا توهجت ضياء وسلاحا فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا ولا ندري لماذا لم يغني مطربو كردفان لهؤلاء العمالقة؟ علماً بأن ود القرشي قد تغنى للبانجديد حيث يقول: اليوم سعيد وكأنه عيد يلا نشهد حدائق البانجديد نغني فيها نشوف زهوره الفي حقولا يا ربي عيد لي ربوعها عيد الأغنية الكردفانية نشأت من رحم التراث الشعبي، فهي لذلك في الغالب تحكي قصص وتجارب غرامية، علاوة على رحلات وموضوعات أخرى تتعلق بحياة الناس في كردفان، وهذه الأغنية تتأثر بشكل كبير بأحوال المناخ. ومن الصعب نسبة النصوص الغنائية لشاعر أو شاعرة بعينتها؛ لأن النص قد يبدأه شاعر أو شاعرة ويضيف إليه آخرون مقاطع بنفس القافية وفي ذات الموضوع حتى تكتمل الأغنية التي قد يدخل عليها المؤدي تعديلات من عنده حتى يستطيع إخراجها بعد إضافة اللزمات الموسيقية الضرورية. في الختام أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لكل من شارك في إثراء هذه الحلقات من الإخوة والأخوات الكرام. وأمني النفس هذه المرة بأن نعود إلى الوطن ودار الريح قد جادها الغيث واكتست حلوة سندسية خضراء، ونبت الزرع وأمتلأ الضرع وعمت الفرحة ربوع كردفان، فحينها سيعود للنفس توازنها ونسترجع تلك الذكريات الحلوة عندما كنا نردد مع الشباب رائعة بلوم الغرب التي يقول فيها: سنك ريال جيد دقاقه ما بليد أني سايرة منعيد في دار الإبيض


gush1981@hotmail.com

 

آراء