أحرِصُ كلما سنحت لي الفرصة ، على الإطلاع على ما ينشره أخونا وصديقنا الشيخ (الشاب) النابه الخليفة مُجاهد أحمد أبو المعالي ، شيخ الطريقة التجانية بمدينة " أم دم حاج أحمد " بشمال كردفان ، وخليفة والده الشيخ العالم الورع ، الحاج أحمد أبو المعالي بن الشيخ النور الزاكي رحمه الله تعالى ، على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي الشهير على الشبكة العنكبوتية " فيسبوك " ، ونحن بحمد الله صديقان بهذا الموقع التواصلي المدهش. أقول إنني أحرص على ما ينشره الشيخ مجاهد بعناية فائقة ، وأتوقف عنده مليَّاً ، لأن ما ينشره ينطوي عادة على معلومات ثرة ومفيدة للغاية وطريفة ، بل نادرة أحياناً ، يعز نظيرها فيما هو متاح من سائر المصنفات المنشورة ذات الصلة ، خصوصاً فيما يتعلق ببعض جوانب التاريخ الاجتماعي والروحي والثقافي بالنسبة للسودان عموماً ، وفيما يتعلق بكردفان الكبرى وجوارها على وجه الخصوص. ولا غرو في ذلك ، فإنَّ مجاهد هو من أبناء " المراتِبْ " بحسب عبارة الشيخ محمد النور بن ضيف الله 1727 – 1810م في كتابه الشهير: " الطبقات " ، أي أنه من أبناء البيوتات الدينية ذات المراتب العالية في الدعوة والتعليم والإرشاد. وأبناء المراتب هؤلاء ، أو ما درج عامة السودانيين على تسميتهم ب " الفقراء " الذين ظلوا على الدوام ، وعبر الحقب التاريخية الماضية ، هم المتعلمين والمثقفين وأرباب المعرفة والوعي ، والسباقين بالتالي إلى احتراف الكتابة والتدوين والتوثيق والتصنيف عموماً ، في مجتمع غلبت عليه الأمية ، ورانت عليه الغفلة والجهل ، وقلة الاهتمام بالتدوين والتوثيق عموماً ، والاعتماد على محض المشافهة ، فإن الكتابة التاريخية Historiography في السودان بصفة عامة ، تظل مدينة لأولئك " الفقرا " وذراريهم بمختلف طبقاتهم ، بحفظ وتوثيق الجم الغفير من المعلومات المهمة ، فيما يتعلق بمختلف جوانب التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لمختلف الجماعات والأفراد البارزين كذلك والمناطق داخل السودان. فغنيٌّ عن القول أن نشير في هذا المجال – على سبيل المثال فقط – إلى الشيخ محمد النور بن ضيف الله ، وهو بكل تأكيد في عداد أولئك " الفقرا " ، فضلاً عن أنه سليل أسرة " الضيفلاب " التي ارتبطت بموطنها الصغير " الحلفاية " بوسط السودان. والإشارة هنا بالطبع إلى كتابه العمدة في هذا الباب الموسوم ب " الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان " ، الذي يعتبر أهم مصدر ومرجع في التاريخ الاجتماعي والثقافي والروحي للسودان لزهاء ثلاثة قرون ، امتدت منذ مطلع القرن السادس عشر ، وحتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. ومن قبل ود ضيف الله ، ينبغي أن نذكر الشخصية " الأسطورية ؟ " المشهورة بلقبها فقط: " الإمام السمرقندي " وهو " فقير " آخر بكل الشواهد ، تنسب إليه الروايات التقليدية تدوين أو " وضع وتلفيق بحسب موقفك المعرفي أوالإيديولوجي من هذه الشخصية " ، أنساب القبائل القاطنة بسلطنة سنار ، بطلب من السلطان " عمارة دُنْقُس " ، وذلك عندما علم بأن السلطان العثماني " سليم الأول " ، كان يهم باجتياح سلطنة الفونج الوليدة لتوها آنئذٍ ، وضمها إلى امبراطوريته ، بعد أن كان قد استولى على مصر في عام 1517م ، فكفَّ السلطان سليم عن إنفاذ عزمه ذاك كما تقول الرواية ، بعد أن اقتنع بأن أهل مملكة سنار " عرب ومسلمون " لآ ينبغي غزو بلادهم ولا سبي رعاياها ، بفضل الرسالة التي أرسلها إليه السلطان عمارة دونقس ، مشفوعة بأشجار النسب تلك التي صنعها الشيخ المدعو بالسمرقندي. وعلى ذات المنوال ، اعتمد المؤلف اللبناني " نعوم شُقير " على المعلومات التي استقاها من شيخ أو فقيه آخر هو " الشيخ الطيب " إمام مسجد السلطان بالفاشر ، فيما يتعلق بتاريخ دار فور خصوصاً ، وأثبتها في كتابه الكبير " جغرافية وتاريخ السودان " الذي صدر في عام 1903م. وفي العصر الحديث ، اعتمد الإداري البريطاني السير هارولد مكمايكل في تأليف كتابه الموسوم ب " تاريخ العرب في السودان " الصادر في عام 1922م ، بصورة كبيرة على مخطوطة أنساب كان يحتفظ بها الخليفة الدرديري " 1849 – 1939م " بن الشيخ محمد ود دوليب 1800 – 1882م ، شيخ الطريقةالتجانية بقرية " خُرْسِي " ريفي بارا ، كأحد أهم المصادر التي استقى منها معلوماته لتأليف كتابه المومى إليه. وقد أوضح مكمايكل أن تلك المخطوطة منقولة من نسخة سابقة لها ، تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي. وبعدُ ، فقد عنَّتْ لي هذه الخواطر – والشيء بالشيء يُذكر – وأنا أطالع بإعجاب ما خطته أنامل الخليفة مجاهد على لوحة مفاتيح حاسوبه أو هاتفه النقال الذكي في بحر الأسبوع قبل الماضي ، بمناسبة مرور سنة على مشاركته في احتفال أقيم بقرية " أم ديسيس " الواقعة بمحلية تندلتي بولاية النيل الأبيض ، بحولية الشريف بابكر بن سليمان بن الوالي ، وهو شريف صالح من أصول مغربية ، ومن مشايخ الطريقة التجانية ، ولد بمدينة فاس الشهيرة بالمملكة المغربية في حوالي عام 1883م ، ثم قدم إلى السودان داعياً ومرشدا وناشراً للطريقة التجانية ، فأقام بقرية " أم ديسيس " المذكورة ، بنصيحة من الشيخ عبد الباقي المكاشفي 1865 – 1960م ، إلى أن توفي ووري الثرى تحت ترابها في عام 1946م ، قوله استطراداً في تلك الخاطرة: " .... منطقة تخوم بحر أبيض مع كردفان ، استقرت بها منذ ما قبل قيام السلطنة السمارية في عام 1504 وما بعدها ، مجموعات قبلية معروفة لها تأثير كبير في التاريخ .. " أ.هـ ولعل الخليفة الأستاذ مجاهد يود أن يلمح هنا إلى ما يتناقله السودانيون في رواياتهم الشفاهية عن حركة السكان والمجموعات القبلية التي كانت تعيش في حراك مجتمعي وبشري موَّار بين شمال كردفان وشرقيها من جانب ، ومنطقة غرب النيل الأبيض من جانب آخر ، حيث ظلت تتردد في ذلك الصدد أسماء مناطق ومواضع جغرافية بعينها ، يقال إنه كانت لها مكانتها البارزة وأدوراها المحورية في التاريخ المشترك لذلك الفضاء المتداخل ، بل في جذور تاريخ السودان الوسيط والحديث بأسره ، على الأقل من وجهة النظر الشعبية والتقليدية ، مثل: " جبل المليسا " و " بير سرار " بالقرب من بارا في كردفان ، وجبل العرشكول ، والترعة الخضراء ، ومخاضة أبي زيد بغرب النيل الأبيض. وقد كانت لجميع تلك المواضع مكانة مرموقة في مصنفات سائر النسابة الوطنيين والرواة والمؤرخين " الشعبيين " من أمثال الشيوخ: عثمان حمد الله ، وعبد الله الخبير ، والفحل الفكي الطاهر وغيرهم. هذا مع العلم بأن سائر المؤرخين والباحثين المحدثين والمعاصرين ، من الأجانب والوطنيين على حد سواء ، لا يميلون إلى أخذ تلك الروايات الشعبية المتواترة على محمل الجد والمصداقية بالضرورة ، كحقائق تاريخية يُعتد بها. وتكشف هذه الخاطرة التي دوَّنها الخليفة مجاهد أبو المعالي عن مشاركته في الاحتفال بذكرى الشريف بابكر بأم ديسيس ، النقاب عن شخصية ليس معروفاً عنها الكثير من حيث سيرتها وإسهامها في المشهد الصوفي في السودان ، خصوصاً وأنها شخصية مغربية ، وبالتالي فإن حديثه عنها يسلط أضواء كاشفة على جانب مغمور من جوانب تجليات التواصل الفقهي والصوفي بين السودان وبلاد المغرب الأقصى ، كما يتجسد في شخص ونشاط الشريف بابكر المذكور في مجالي الدعوة والإرشاد. على أن أوَّلَ ما استوقفني في سيرة الشريف بابكر المغربي الأصل هذا ، اسمه نفسه ، إذ ليس الاسم العلم " بابكر " ، وهي الصيغة السودانية البحتة لاسم " أبي بكر " ، من المعهود عادة في أسماء المغاربة عموما ، فهل يا ترى كان اسمه " أبو بكر " في الأصل ، وتمت سودنته إلى " بابكر " لاحقا ؟. ويُوقفنا الأستاذ مجاهد على السند الصوفي للشريف بابكر ، فيذكر أنه قد سلك الطريق التجاني على السيد محمد الفيخوري ، عن السيد سالم ، عن السيد محمد الغالي أبو طالب الإدريسي الحسني المتوفى في عام 1246هـ الموافق لسنة 1829م ، عن مؤسس الطريقة الشيخ أحمد بن محمد التجاني 1737 – 1815م. ويمضي الأستاذ مجاهد ليوقفنا بعد ذلك أيضا ، على أن الشيخ محمد النور عبد الله المراد المتوفى في عام 1987م ، وهو من مشائخ الطريقة التجانية بقريتي " الهشابة " و " أم دم حاج أحمد " على التوالي ، كان متزوجاً من إحدى كريمات الشريف بابكر المذكور ، كأحد مظاهر التواصل الاجتماعي والروحي بين طرفي الفضاء الممتد بين كردفان والنيل الأبيض. على أن الشيخ محمد النور قد سلك الطريقة التجانية على يد والده الشيخ عبد الله ود المراد ، الذي كان قد أخذها بدوره عن الشيخ محمد ود الزاكي الذي هو جد الأستاذ مجاهد نفسه. والواقع هو أن التواصل والتداخل الاجتماعي والروحي في هذا الفضاء المتصل الذي لا تفصل بينه أية حواجز طبيعية ، قديم قدم الوجود البشري ذاته في هذه المنطقة. فمنذ عهد الفونج والسلطنة الزرقاء ، نجد – على سبيل المثال – أن والدة الشيخ " إسماعيل صاحب الربابة " بن الشيخ مكي الدقلاشي ، الذي كانت أسرته ورهطه يقيمون بمنطقة " يجبي " أو جبل " أبو رادعة " الواقع شمال غرب الدويم بنحو ستين كيلومتراً ، تنتمي إلى قبيلة السقارنج التي تقطن في الجزء الشرقي من جبال النوبة بكردفان. كما يفيدنا صاحب الطبقات أن والده الشيخ مكي الدقلاشي تلميذ الشيخ دفع الله بن محمد أبو ادريس ، قد خرج مجذوباً من بلدته يجبي المذكورة بغرب النيل الأبيض ، واصطحب معه ولده الصغير المسمى " النور " ، واتجه هائماً في سياحة في فيافي كردفان ، فاختفى ولم يُعثر له على أثر ، بينما عثر أعراب على ابنه النور في مكان غرب " الحرازة " ، فأنقذوه من الهلاك عطشاً وجوعاً ، وأعادوه إلى أهله. وفي ذات السياق التواصلي الذي ظل قائماً في تلك المنطقة منذ قديم الزمان ، يخبرنا ود ضيف الله أن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، تلك الشخصية التي استلهم الشاعر والناقد الفذ الدكتور محمد عبد الحي تجربتها الإبداعية ، واستبصر مقوماتها وخصائصها ، رابطاً الصلة بينها وبين صورة الشاعر كما في التراث اليوناني ، يخبرنا أنه بعد أن تولى خلافة أبيه على إثر اختفائه الغامض ذاك ، لحق بالشيخ مختار بن محمد جودة الله ببلدة " الزلطة " التي تقع على بعد نحو عشرة كيلومترات شرق " أم دم حاج أحمد " بشرق كردفان. والزلطة هي موضع دارس الآن ، ولكنه يذخر بآثار كثيرة لحقب تاريخية مختلفة تحتاج فقط لمن ينقب فيها بصورة علمية لكي تفصح عن مكنوناتها. وكان الفقيه جودة الله والد الشيخ مختار المذكور وهو من قبيلة " بني محمد " ، قد درس بدوره على يد الفقيه القدال بن الفرضي ببلدة عبود الواقعة غرب المناقل ، قريبا من الضفة الشرقية للنيل الأبيض. ويفيدنا ود ضيف الله في ذات السياق كذلك في كتابه " الطبقات " ، أن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة قد سلك الطريق الصوفي على الشيخ " مختار ولد أبي عناية " وهو من قبيلة الجوامعة فرع " الجماملة " بشرق كردفان أيضا. وقد نص صاحب الطبقات على أن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، قد حصل له الفتح في أول خلوة دخلها عقب سلوكه على الشيخ مختار ود اب عناية ، الذي كان قد سلك بدوره على يد الشيخ طه بن عمار القرني بالجزيرة. أما في العصور الحديثة ، فإن الشواهد كثيرة جداً على مظاهر التواصل عبر الفضاء المشترك بين حوض النيل الأبيض وبراري كردفان ، إذ ما تزال حركة السكان والتداخل الاجتماعي والقرابات قائمة بين الناس في المنطقتين ، والحركة والتنقل دائبا بين قرى وبلدات مثل أم دم والهشابة وأم قرفة وأم سيالة والدومة وكركداية وهجام والبنية وغيرها في كردفان ، ونظيراتها مثل: الدويم والشقيق والعلقة والهلبة والكريدة والبنوناب والترعة الخضراء وغيرها بغرب النيل الأبيض. إن أسلاف المدوِّن نفسه ، وهو الأستاذ مجاهد أبو المعالي ، وهم آل الشيخ محمد ود الزاكي ، إنما قدموا إلى كردفان وأقاموا بها ونشروا العلم وتدريس القرءان وتسليك الطريقة التجانية فيها من منطقة " ود الزاكي " بالنيل الأبيض التي كانوا قد جاء أسلافهم إليها في الأساس من منطقة " نوري " بديار الشايقية التي يُعرفون فيها كأسرة دينية وصوفية مرموقة هناك باسم " العُراقاب " ، أي آل العراقي. على أن عراقاب الشمال والنيل الأبيض صاروا ختمية ، بينما سلك أقاربهم آل الزاكي بكردفان الطريقة التجانية فيما بعد ، وكان رائدهم في ذلك الشيخ محمد ود الزاكي الذي سلك الطريقة التجانية على يد الشيخ محمد ود دوليب ، وسلَّكها هو بدوره لعدد كبير من أعلام كردفان وغيرها ، كان من بينهم شيخ العلماء محمد ود البدوي المتوفى والمدفون بأم درمان في عام 1911م. هذا ، وفي ذات السياق أيضاً ، تتواتر الروايات الشفاهية وتتظاهر على أن الشيخ برير ود الحسين 1810 – 1885م المدفون ببلدة " شبشة " بالنيل الأبيض ، وأحد كبار شيوخ الطريقة السمَّانية ، قد وُلد بقرية " هَجَّام " التي تقع جنوب غرب أم دم حاج أحمد بشرق كردفان ، وأنَّ تلميذه الشيخ " عمر محمد الصافي " المدفون ببلدة " الكريدة " بالنيل الأبيض أيضا ، مولود هو كذلك بقرية " الروكَبْ " بريفي بارا بكردفان ، وأنه درس القرءان في صباه بمسيد الشيخ محمد ود دوليب بخُرسي ، وهمَّ بسلوك الطريقة التجانية هناك ، إلاَّ أن شيخه – كما تقول الرواية المتداولة – قد قال له مكاشفاً: اذهب إلى الكريدة وسيأتيك شيخك ويسلكك بها. قالوا: فأتاه الشيخ برير ود الحسين بنوباته وراياته وسلكه الطريق السماني. والمعروف أن الشيخ عمر محمد الصافي هو مُربِّي عدد من الشيوخ المشهورين بكردفان وغيرهم من أعلام المنطقة مثل الشيخ محمد ود وقيع الله (والد الشيخ عبد الرحيم البرعي ) ، والشيخ محمد صالح البشيري ، والشيخ أزرق موية ، والعمدة الطاهر أبو حجيل وغيرهم. وبعدُ ، فإنَّ هذه مجرد خواطر عجلى حول هذا الموضوع ، بيد أنها قد تصلح لأن تكون بعض رؤوس أقلام أو مؤشرات أولية لدراسة أعمق وأشمل ، استناداً للمصادر والمراجع المخطوطة ، بالإضافة إلى الإفادات الشفهية..