ياسر عرفات : لم يكن أولهم ولن يكون آخرهم !!

 


 

 



تناقلت وكالات الأنباء مؤخرا التقرير الصادر في سويسرا بعد تحليل العينة التي أخذت من رفات الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات  ، حيث ورد في ذلك التقرير ان رفات عرفات احتوت على نسبة عالية من مادة البولونيوم تفوق المعدلات المعتادة  بمقدار 18 مرة . ولفائدة القارئ فإن هذه المادة موجودة في الطبيعة بنسب ضئيلة جدا مع مادة اليورانيوم وهي تعد إحدى النتائج الثانوية لاصطدام النيوترونات في مفاعلات الأسلحة النووية . ومعنى ذلك أنه لا يمكن إنتاج هذه المادة إلا في حالة وجود مفاعل نووي مثل ما هو موجود في روسيا أو الولايات المتحدة أو إسرائيل .وعليه فقد ارتفعت الأصوات الفلسطينية وغيرها من الأصوات في العالم بأن الزعيم عرفات قد مات مسموما بهذه المادة ، وأشارت كل الأصابع إلى إسرائيل باعتبارها الجهة التي اغتالت الرجل . وهنا لم تكن الإشارات اعتباطا أو تهجما ولكنها إشارات مبنية على القرائن والدلائل باعتبار أن إسرائيل هي ، دون غيرها ، صاحبة المصلحة في التخلص من ياسر عرفات ، إضافة إلى أن مادة البولونيوم لا تتوفر إلا لدولة تملك المفاعل النووي الذى ينتج تلك المادة . وفي هذه الحالة فإن عنصري " المصلحة"  و"امتلاك المفاعل " ينطبقان على إسرائيل بشكل لا يحتمل المراوغة أو التخمين.
ليس هذا وحده ، ولكن الدارسين للعلوم السياسية والمتابعين لأساليب الحكومات الإسرائيلية  في التعامل مع شخصيات تقاومها أو تعارضها بشدة ، قد  رصدوا أسلوبها في التعامل مع شخصيات عديدة  لم يكن مصيرها سوى الموت الذى يكتنفه الغموض ! وهنا تقوم الأجهزة الإسرائيلية ، على ما يبدو، بتصنيف شخصيات بعينها بأنها تشكل " خطرا على الأمن القومي الإسرائيلي " وتتولى تلك الأجهزة أمر التخلص من تلك الشخصيات ، سواء كان ذلك في عمليات معلنة أو كان ذلك في عمليات غير معلنة ، حسب مقتضى الظروف والأحوال .
لذلك فإن الحديث عن تخلص إسرائيل من الزعيم عرفات بتلك الطريقة ، رغم إنكارها المتكرر ، يكشف عن منهج متبع لم يبدأ بالزعيم عرفات ، ولا ينتهي به ، ما دامت السلطات في إسرائيل تعتمد ذلك الأسلوب الذي كان شائعا في ممارسات عدد من الحكومات حول العالم ، واضطر معظمها للتخلي عنه ، فيما عدا حالالت قليلة.
وإذا ما استعرض المرء تقارير إخبارية عن علاقة الحكومات الإسرائيلية بتصفية شخصيات في تكتم وخفاء ، لوجدنا سجلا بعدد من الشخصيات العربية الهامة التي صنفتها الأجهزة الإسرائيلية بكونها "تهدد الأمن القومي لإسرائيل". وهنا يمكن الإشارة إلي بعض تلك الشخصيات من قبيل التذكير والتوضيح للمنهج الإسرائيلي الذى قوبل بالكثير من الصمت من جانب دول كبرى ، كان يمكنها أن تساهم في كبح جماح إسرائيل ، غير أنها آثرت الصمت ، ليس من قبيل اللامبالاة ، ولكن لشيء في نفس يعقوب !!
على سبيل المثال ، يمكننا أن نذكر هنا بعض الحالات التي حامت شبهات التخلص منها حول إسرائيل ، بكثير من القرائن التي وردت في تقارير الأنباء . وأول تلك الشخصيات ، التي لم تكن شخصيات سياسية ولكنها شخصيات لعلماء مرموقين ، تأتي شخصية العالم الأكاديمي العملاق الدكتور حامد عبد الله ربيع. وسبب أنني أذكره في أول الأمثلة أنني تلقيت علما نافعا على يديه في الجامعة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة. وقد كان الدكتور حامد ربيع من العلماء الأفذاذ في العلوم السياسية والقانون  ودراسات الرأي العام ، ومن دلائل نبوغه أنه كان يحمل سبع شهادات دكتوراه ويمارس التدريس بخمس لغات حية . والأهم من ذلك كله ، أن الرجل كان من رواد وأساطين الدراسات الإسرائيلية والصهيونية وقد سخر الكثير من علمه للتأكيد على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره "صراع وجود" وليس "صراع حدود"!! وقد نجح الدكتور حامد ربيع في خلق جيل من الباحثين المرموقين المتعمقين في الشئون الإسرائيلية والصهيونية ، ونشر الكثير من الأبحاث التي توغلت في أعماق تلك الشئون . غير أن الدكتور حامد ربيع ، توفى فجأه في شقته بالقاهرة في التاسع من سبتمبر عام 1989 بعد مغص شديد في الأمعاء لم يدم لأكثر من ربع الساعة . وما زالت ظروف وفاة ذلك العالم الفذ طى الكتمان ، وتردد بين العديد من  العارفين بأهمية الرجل أنهم لا يستبعدون أصابع إسرائيلية خفية من وراء ذلك.
شخصية أخرى يأتي ذكرها في هذا المجال ، وهي شخصية الدكتور يحيي المشد . وهو عالم في علوم الذرة من مصر ، وكان يعمل بهيئة الطاقة النووية المصرية ، وله أبحاث هامة في هذا المجال ، ثم انتقل للعمل مع الحكومة العراقية في منتصف الأعوام السبعينات من القرن الماضي ، بعد تجميد البرنامج النووي المصري . وبينما كان الدكتور المشد في مهمة رسمية تتعلق بالتعاون النووي بين الحكومة العراقية والحكومة الفرنسية ، عثرت السلطات الفرنسية على الدكتور المشد ، جثة هامدة ومهشمة الرأس في غرفته بفندق ميريديان بباريس في يوم الجمعة الثالث عشر من يونيو عام 1980 .وانتهى التحقيق الذى قامت به السلطات الفرنسية على أن " القاتل مجهول" !! ووقتها تحدثت معظم التقارير عن الأيدي الإسرائيلية الخفية وراء تصفية ذلك العالم الكبير.
أما الشخصية الثالثة التي يمكن الإشارة إليها  في هذه القائمة فهي عالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى وهي من نوابغ العلوم الذرية في نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي ، وعرفت بنبوغها المبكر وحصلت على شهادة  الدكتوراه من بريطانيا في مجال الإشعاع النووي . ومما عرف أيضا عن الدكتورة سميرة  ، أنها كانت تريد لمصر وللبلدان العربية أن تأخذ بأسباب البحث العلمي والتقدم في مجال علوم الذرة ، ولذلك فإنها لم تقبل البقاء خارج مصر والتدريس في الولايات المتحدة عندما كانت في مهمة بحثية هناك في جامعة أوكريدج بولاية تنسي. ومما يروى أنها في آخر رسالة لها لوالدها قالت له " لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية الأمريكية وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان وسأستطيع أن أخدم قضية السلام ". لكن الدكتورة سميرة فقدت حياتها في حادث غامض في الخامس عشر من أغسطس عام 1952 عندما صدمت سيارتها إحدى سيارات النقل في كاليفورنيا ، وهوت سيارتها في واد سحيق ، وقفز زميلها في الدراسة ،الهندي الجنسية والذي كان يرافقها في تلك الرحلة ، واختفى إلى الأبد !!  وهكذا فقدت مصر، في ذلك التوقيت الحساس ، تلك العالمة الفذة ، في ظروف وصفت بأنها غامضة ، لكن الكثير من التقارير الصحافية ما فتئت تحمل إسرائيل مسئولية القضاء على تلك الشخصية المرموقة وهي في عز شبابها ولم تكن قد تجاوزت الخامسة والثلاثين  من عمرها.
تلك شخصيات ، ومنها الزعيم ياسر عرفات ، اتسمت أسباب موتها بالغموض وتواترت حولها التقارير والأنباء ، ولكن ما يجمع بينها أن لها علاقة وثيقة بالتأثير على مصالح إسرائيل التي تتمحور حول تأمين السيطرة المطلقة على مقاليد التوازن الإستراتيجي فى المنطقة المحيطة بها ، وهي تفعل كل ما تستطيع  ،للحيلولة دون بروز أي من المقدرات التي تعوق ذهنية التفوق الإسرائيلي المطلق هذه.  
لقد طالبت السلطة الفلسطينية بتشكيل لجنة دولية لمواصلة التحقيق في وفاة الزعيم ياسر عرفات ، إثر صدور التقرير السويسري ، وهذا أمر منطقي بالنظر إلى أهمية عرفات كقائد وزعيم ورمز للقضية الفلسطينية ، برغم ما يواجهه مثل هذا المسعى الفلسطيني من عقبات في عالمنا الذى تضيع فيه الكثير من الحقائق . ومن المؤسف أن عرفات لم يكن الأول ولن يكون الأخير في قائمة الموت الملفوف بالغموض والملتفت صوب الدوائر الإسرائيلية.
agubara@gmail.com

 

آراء