ياسر عرمان: لا كرامة لنبي في قومه (٢)!

 


 

أحمد ضحية
24 January, 2023

 

الناس أعداء ما جهلوا!
الإمام علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه
اللافت للانتباه أن الفلول، جعلوا من الهجوم على (الاتفاق الإطاري) منصة للهجوم على الرفيق ياسر عرمان، والعكس صحيح.. بجعلهم من الهجوم عليه، منصةً للهجوم على الاتفاق الإطاري! وهو التطابق نفسه الذي جعل من الإسلام في (وّعي الإسلامويين) مرادفاً (للعروبة) فخاضوا (حروب التعريب) بغرض (الأسلمة) و(الأسلمة) بغرض التعريب، فادخلوا بذلك السودان في متاهات أسئلة يناقض بعضها بعضاً، إلى أن انتهت ب(المشروع الحضاري) لاشعال الحروب وفصل الجنوب!
كما أشعل هذا التطابق نفسه بين (العروبة والاسلام) في (الوعي الإسلاموي) مخاوف بعض فلذات أكبادهم كالراحلين (داؤود بولاد) و(خليل إبراهيم) لينتهي بهما الأمر إلى إعلان الثورة ضد هذا المشروع، الذي هدد هويات أهلهم ولغاتهم وثقافاتهم وتراثهم وأرضهم!
لذلك ليس مستغرباً هذا التطابق الذي ينم عن (وَّعي مشوّه وملتبس) بقضايا الدولة الوطنية —خاصة في بلد كالسودان، لا مناص فيه من الاعتراف بالتنوع التاريخي والتنوع المعاصر— وأن ينسحب ذلك على كل تكتيكات فلول المشروع الحضاري البائد ضد خصومهم في سبيل (العودة إلى السلطة) مرةً أخرى، إذ ليست لديهم خطوط حمراء، ولا يتورعون عن فعل أي شئ حتى لو أدى إلى فصل دارفور وشرق السودان، فقد ضحوا في سبيل البقاء في السلطة بالجنوب من قبل!
وهي ليست المرة الأولى التي يجد فيها الرفيق ياسر عرمان نفسه في خضم مثل هذا النوع من المواجهات، فرؤية السودان الجديد التي يحملها، لطالما اصطدمت من جهة ب(قوى السودان القديم) المسيطرة على (مركز السلطة) بتشكيلاتها المختلفة، ومن جهة أخرى بقوى (القوميين الجنوبيين) من قبل و(القوميين في جنوب كردفان) من بعد!
ورغم أن القوميين الجنوبيين استخدموا (رؤية السودان الجديد) (كآلية) ل(فصل) جنوب السودان، بدلاً من إستخدامها كرؤية ل(تغيير) السودان و(توحيده) على أسس جديدة، باستخدامهم لها فى معركة (تقرير المصير) لفصل الجنوب! إلا أن ما يُحمد للرفيق ياسر عرمان ورفاقه، أنهم وقفوا ضد استخدام هذه الرؤية (مرةً أخرى) لفصل أي جزء من أجزاء السودان، وهذا هو مربط الفرس تجاه إدعاءات تفكيك الجيش وتفكيك السودان.

مشكلة (القوميين) التي تلوح كطيف في تصريحات (ترك) والخطابات العاطفية لبعض قادة الحركات كجبريل ومناوي، الذين يستخدمون (التهميش) كأداة ابتزاز أنتجت فوضى الخطاب الانفصالي الذي نراه في كلوب هاوس ووسائل التواصل الأخرى.
هذه المشكلة تبدو أكثر وضوحاً داخل الحركة الشعبية، بوصفها كبرى حركات الكفاح المسلح، ومصدر إلهام حركات الهامش، و ذلك يعني أن الحركات المسلحة في دارفور تعج بقوميين ظلوا كرصفائهم القوميين الجنوبيين، نهباً للاتفاقيات —المخدرات الموضعية— التي أجلت حل القضايا، وقدمت أطواق نجاة للنظام الإسلاموي البائد الذي أسقطته الثورة، كما تقدم هذه الحركات أطواق نجاة للانقلاب الآن، بتنفيذ الأجندات المصرية!
ولذلك لم تكن صدفة للمكون العسكري عندما فكر في الانقلاب، استقطاب بعض قادة هذه الحركات للاصطفاف خلف انقلابه، فالمكون العسكري كامتداد للنظام البائد يتكئ في —هذا الصدد— على تراث عريق من الاتفاقات التي وصفها مناوي ب(تحت التربيزة).

وغني عن القول أن نظام الإسلامويين البائد، قد نجح في إضعاف هذه الحركات بهزيمتها الساحقة عسكرياً، سواء في (قوز دنقو) أو غيرها من المعارك. وقد منحتهم الثورة ما فشلوا في تحقيقه بقوة السلاح، لكنهم قابلوا كرم الشعب بالجحود والنكران، ورحابة صدر الثوار الذين هتفوا (كل البلد دارفور) بالغدر والخيانة. فشاركوا في الانقلاب والفساد والعمليات ضد الثوار. الأمر الذي أدى إلى فقدانهم للسند الشعبي لدى جماهير الهامش التي يزعمون الحديث باسمها، متجاهلين الوجود الوحدوي المنظم لحركات أخرى في دارفور، على رأسها التيار الثوري الديمقراطي!
وواقع حال هذه الحركات الآن يقول أنها حركات (قبلية) ضعيفة، لا ترتكز على أي رؤية سياسية وطنية تحافظ بها على مشاريعها المزعومة، فضلاً عن كياناتها الهشة، التي لا تتجاوز آفاقها حدود آفاق أفراد القبيلة الواحدة!
لقد آلت حركات دارفور إلى هذا المصير لأنها لم تدرك (طبيعة) اتفاقية جوبا لسلام السودان، فلخصتها في وعيها في حدود (قسمة السلطة والثروة) بين القادة والكوادر الوسيطة، ولم تعي الهدف العميق من الاتفاقية، كأداة ل(لتحول ديمقراطي في بنية السلطة) و(إعادة توزيع الثروة لمصلحة المواطنين المهمشين) في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان و الشرق، لأنه دون ذلك لا يمكن إنهاء التهميش.
كما أنه بدون (تحول ديمقراطي) لا يمكن (بناء مجتمع جديد) يؤدى الى إنهاء التهميش، وهي رؤيتنا التي نلتزم بها كتيار ثوري ديمقراطي.
ولذلك كل الأطراف في الحركات التي تورطت في تصريحات كاذبة لتنال من الرفيق ياسر عرمان، هي صدى لرغبات القوميين القاصرة، وصدى للاتهامات والشائعات المضللة، التي تُكال من منصة (قناة طيبة) وغيرها من المنصات، ضد الاتفاق الإطاري. وقد أسس الإسلامويون هذه القناة بوعي تام، على الخلفية التي لا تدين بالولاء للسودان كجغرافيا محددة. فمفهوم الوطن عند الإسلامويين (معنوي فضفاض) لا تحده حدود الدولة واشتراطات السيادة الوطنية.
يقابل هذا المفهوم من الجانب الآخر مفهوم الدولة عند (القوميين) الذين يهددون بالعودة مجدداً للحرب وتقرير المصير والانفصال.
ولذلك تنتج هذه المنصات سواء (قناة طيبة) أو غيرها، شائعات مضللة تتناقض جوهرياً مع نُظُم التفكير الإسلاموي، كشائعة استهداف عرمان والاتفاق الاطاري للجيش بالتفكيك، وبالتالي تفكيك السودان من خلال المبادرة الأممية ومن ثم التدخل الأجنبي وانتهاك السيادة الوطنية. مع أن مشروع (تفكيك السودان هو إرث الإسلامويين) وحلفائهم من قوميين الهامش، ولذلك دائماً ما نجد قوميين الهامش في المنعطفات الحاسمة هم الأقرب إلى أجندة الإسلامويين في مركز السلطة، مثلما رأينا تقاربهم مع المكون العسكري ودعمهم للانقلاب، ووقوفهم الآن ضد الاتفاق الاطاري، لأنه يستهدف في أحد جوانبه إعادة توزيع الثروة والسلطة، لأصحاب المصلحة الحقيقيين من مهمشين دارفور والشرق وجنوب كردفان والنيل الأزرق، الخ.. وليس لقادة الحركات.

التوقيع على الاتفاق الإطاري كان أسوأ كوابيس الفلول الذين أوشكوا على العودة للسلطة إثر إلغاء رأس الانقلاب لقرارات لجنة تفكيك التمكين، فقد أدركوا منذ البداية أن الاتفاق الاطاري يقطع عليهم طريق العودة للسلطة مرة أخرى، ولذلك ضمن الشائعات التي روجوا لها أن الاتفاق تم بناء على (عفو مشروط)، وهو أمر غير صحيح إذ تؤكده الورش التي ابتدرتها أطراف الاتفاق حول العدالة والعدالة الانتقالية وإصلاح أجهزة الأمن والإصلاح العسكري ومسار الشرق واتفاق جوبا.
كذلك من الشائعات التي درجوا على بثها بسخاء، أن دستور لجنة تسيير المحامين صنيعة أجنبية، وينفذه عملاء سفارات علمانيون شيوعيون، وهي شائعة لا تقف على ساقين! فكيف هم عملاء سفارات علمانيون، وهم في الوقت ذاته شيوعيون! والشيوعيون يقفون ضد الاتفاق الإطاري؟
وفي الواقع سواء موقف حزب البعث أو الحزب الشيوعي كلاهما مفهوم وفقاً لتقديراتهما السياسية التي قد تختلف بدرجة من الدرجات من تقديرات القوى التي وقعت على الاتفاق، ووفقا لدرجة قرب الحزب الشيوعي من روسيا، التي يستهدف الاتفاق الإطاري في التحليل النهائي إقامة علاقات طبيعية مع كل العالم ضمن ذلك روسيا، بالتالي علاقة السودان بروسيا ينبغي ألا تتأسس على أطماع في موانئ أو قواعد حربية، كما أنه ليس بإمكان أي حكومة وطنية أن تغض الطرف عن الأنشطة الخطيرة على الاقتصاد والأمن القومي لفاغنر الروسية في السودان!
كذلك الربط بين الاتفاق الإطاري و اتفاقية سيداو التي صادق عليها في ابريل ٢٠٢١ مجلس وزراء الحكومة الانتقالية المنقلب عليها، وتحفظ مجلس الوزراء وقتها على المادتين ٢ و ١٦ والفقرة الأولى في المادة ٢٩، فهذه المصادقة نفسها لن تجعل من سيدو اتفاقية نافذة ما لم يجيز المجلس التشريعي ذلك، فأين هو المجلس التشريعي الآن؟
هل أطراف الإطاري هم مجلس تشريعي لسؤالهم عن سيداو واستخدام سيداو لاجهاض الاطاري؟
ومع ذلك تم في سيداو التحفظ على المواد التي تتعارض مع ثقافة وقيم شعب السودان. اسوةً بالعديد من الدول الاسلامية والعربية التي وقعت مع التحفظ على ما يتعارض مع ثقافة مجتمعاتها. على رأس هذه الدول التي وقعت مصر التي يزحف الفلول على ركبهم الآن لتقديم فروض الولاء والطاعة لها، والسعودية التي تعتبر (مهد الإسلام) وأهل الجلد والرأس؟!
ونحن في غنى عن القول أن مضابط الشرطة أثبتت أكثر من حالة (مثلية) و(حالة زنا) ارتكبها بعض رموز وقادة الإسلامويين —بعضها في نهارات رمضان— ليأتي بغاث طيرهم الآن يتحدثون عن (سيداو) وهم يفعلون اسوأ من الذي اجازته سيداو!
لذلك يجب على فلول الإسلامويون أن لا يزايدو باتفاقية سيداو وهم الذين انتهكوا كل الأخلاق، وجرابهم فاضي من أي قيم!
كذلك نشر شائعة أن الاتفاق الإطاري ليس سوى محاصصة حزبية فى الحكومة الانتقالية القادمة. وهو أمر غير صحيح البتة، إذ أكدت كل أطراف الاتفاق على (حكومة كفاءات). وشائعة أن السودان مقبل على سيناريو شبيه بالحالة السورية والليبية والعراقية وأن الإسلامويين مستهدفون يتعرضون للإقصاء، التي إذا تأملناها نجدها كغيرها من الشائعات لا أساس لها من الصحة، فمن فكك الجيش وأضعفه هم الاسلامويين انفسهم، منذ أعدموا خيرة ضباطه و أحالوا البعض الآخر للصالح العام، وقاموا بتسيسه وجعلوا لأمراء مليشيات الدفاع الشعبي الحزبية الكلمة العليا!
ورؤية الرفيق عرمان في هذا الصدد ليست سراً تتداوله الشائعات، فهي معلنة وموثقة في العديد من التصريحات والحوارات، التي مفادها ضرورة دمج الدعم السريع وإصلاح الجيش بحيث يتكون جيش واحد وطني قومي مهني حديث، والدعم السريع والجيش نفسيهما لم يمانعا في ذلك.
ما يسعى إليه الاتفاق الإطاري الآن هو في وجه من وجوهه رد الاعتبار للجيش، بأن يصبح مؤسسة قومية وطنية مهنية محترفة ملك لشعب السودان، وليس ملكاً لأي حزب من الأحزاب. حتى يصبح الجيش قادر على حماية الأراضي السودانية، ولا تتكرر الاحتلالات التي حدثت على عهد النظام الاسلاموي البائد للفشقة ومثلث حلايب. وحتى يتم وقف التدخلات الاجنبية التي فتح لها الإسلامويون وبعض حركات دارفور أبواب السودان على مصاريعها في دارفور وشرق وشمال السودان، لدرجة أن تأتي طائرة أجنبية لتقل متهم (ايلا) هارب من العدالة؟ فضلاً عن جعل السودان قاعدة للإرهاب فكل من هب ودب من الإرهابيين يحمل جواز سفر دبلوماسيا!
وإذا تحول السودان الى نسخة أخرى من ليبيا، ذلك لن يكون بسبب الاتفاق الإطاري، وإنما بسبب (كتائب الظل) التي هدد بها علي عثمان الثوار اليافعين، وبسبب ضباط الفلول السابقين في القوات المسلحة السودانية والجنود المتقاعدين في قوات الدفاع الشعبي التي يسعى الصوارمي للّم شتاتها وإعادة موضعتها الآن تحت ما يسمى بـ (كيان الشمال) فالفلول بعد أن فصلوا الجنوب و اشعلوا الفتن الاثنية في الشرق والغرب واطلقوا عصابات تسعة طويلة.. هم من يريدون تفكيك السودان، ولكن لن يستطيعوا مهما فعلوا بعد أن قطع الاتفاق الإطاري الطريق على مخططاتهم التآمرية!
لقد ردت قوى الحرية والتغيير من جانبها على كل هذه الشائعات كما رد الرفيق ياسر عرمان رئيس التيار الثوري الديمقراطي، مع العلم أن جماهير الشعب تدرك من هم الإسلامويين وماذا فعلوا بالسودان، إذ دحض الشعب شائعات فلول الإسلامويين وبعض الحركات، قبل أن تدحضها قوى الحرية والتغيير المركزي أو رئيس التيار الثوري الديمقراطي.
كما أن وجود قوى اسلاموية انتقالية كالمؤتمر الشعبي وانصار السنة، ينفي تماما رغبة عرمان أو الحرية المركزي في إقصاء الإسلامويين، فكيف للشائعات التي تطلقها منصة (طيبة) ومنصات الفلول الأخرى أن تقف على ساقين؟
في الواقع، أن الفلول وأزيالهم من قادة بعض الحركات، مهما بثوا من الشائعات ضد الاطاري أو عرمان، لن ينال ذلك من الاطاري أو من عرمان، فالاطاري نصوصه واضحة ومبذولة لمن أراد مناقشتها. وعرمان اتسمت رؤيته في كل الحوارات التي أجريت معه، بمميزات تخطت إرث الحركة الشعبية نفسها في مثل هذه المنعطفات، فخلت ردوده من تلك الثنائيات المتعلقة بالاستعلاء والتهميش والهيمنة، التي وسمت خطاب الحركة الشعبية لوقت طويل، وهو أمر طبيعي فالرؤية تتجدد، خاصة بعد إعلان الميلاد الثاني و تكتسب بالممارسة اليومية في المشهد السياسي ثراء وخصب وآفاق أرحب، تجعل حُلم السودان الجديد أقرب من حبل الوريد.. عبر هذه الجماهير الشعبية العريضة وبها ومنها وإليها.. عبر أصحاب المصلحة الحقيقية في بناء دولة الوطن والمواطنة!
هذه الجماهير التي كانت تراقب أصداء ما يجري داخل الحركة الشعبية، خاصة الانقسام الأخير الذي تمكن التيار الثوري خلاله من إيقاظ التشكيلات التنظيمية الواقفة على الرصيف في شرق السودان وشرق وغرب ووسط وشمال دارفور، التي يلوح بعض قادة الحركات اليوم بتقرير مصيرها، كأن لهم وحدهم الكلمة الفصل! لكننا نقول ليس مرةً أخرى استخدام حق تقرير المصير لتفتيت وتجزئة وتقسيم السودان، لذلك زمام المبادرة ليس بيد هذه الحركات. فدون ذلك تشكيلاتنا المدنية المنتشرة في كل أنحاء دارفور وفي شرق السودان ووسطه وشماله.
لقد سجلت هذه التشكيلات ملحمة نادرة في كل القطاعات، وأكدت على أن لا تراجع عن وحدة السودان، فمن الذي يريد تفكيك السودان؟ رئيس التيار الثوري الذي أثبتت مواقف تنظيمه خلال هذه الملحمة رؤيتها بوضوح ضد أي خطابات شعبوية أو خطوط انقسامية أو أي محاولات لبناء مركزيات اثنية في الهامش؟ أم هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم سفرجية وبوابين لمباني المخابرات المصرية العامة؟

الاتفاق الاطاري ينقل السودان على اعتاب مرحلة نوعية مختلفة لو أحسنت أطرافه استغلاله سيتغير وجه السودان إلى الأبد، وإذا لم تعد امكانية عودة الجنوب ممكنة فعلى الاقل سيفتح الإطاري الباب لعلاقات استراتيجية عميقة تخدم شعب الدولتين الشقيقتين.
لذلك رؤية التيار الثوري الديمقراطي الذي يقوده عرمان، كما وردت في الميلاد الثاني أعلى سقفاً من (حق تقرير المصير) الذي يزايد به أمثال ترك وبعض قادة الحركات، لأنها تسعى لتوحيد السودان ببناء مجتمع جديد، لأن استخدام حق تقرير المصير قد يؤدى إلى نفس المجتمع القديم، وقد يحافظ على السمات الاقتصادية والثقافية القديمة، فهو في جوهره آلية لا تقضي في حد ذاتها على أشكال الإستغلال، بقدر ما أحيانا تعبر عن طموحات ومصالح نخبة اجتماعية صاعدة، تريد أن تحل بديلاً للنظام القديم على رقعة جغرافية جديدة، وبالتالي قد تعيد تجارب مركز السلطة السابق بدعاوى إثنية جديدة، إذ ليس بالضرورة أن يؤدى استخدام حق تقرير المصير إلى قيام نظام ديمقراطي ومواطنة متساوية.
من جهة أخرى أين هي الحدود الجغرافية التاريخية المرسمة في الخرط التي تفصل بين هذه المناطق التي يلوح ترك وحلفائه من قادة الحركات بتقرير مصيرها؟
وما هو مصير القبائل العربية داخل المنطقتين مثلاً أو قبائل دارفور غير العربية التي تعيش في الوسط والشرق والشمال، وهؤلاء اعدادهم لا تقل عن أعداد الذين يعيشون عملياً في إقليم دارفور إن لم يفوقوهم عدداً؟ وهل سيصوت هؤلاء في أي استفتاء لتقرير مصير الإقليم المعني، فيما ارتبطت كل تفاصيل حياتهم بأقاليم أخرى؟
أن التلويح بحق تقرير المصير في المعارك السياسية لا يقود سوى إلى إستقطاب إثنى حاد، بل ويطيل أمد الصراع وعدم الاستقرار، بالتالي تأخر التنمية. لذلك ليس مرة أخرى استخدام حق تقرير المصير، وهو ليس صوت كاتب المقال وحده بل صوت المشروع والرؤية والتيار الثوري في الميلاد الثاني لهذه الرؤية، وصوت السواد الأعظم من بنات وأبناء الشعب السوداني.

كلنا نذكر كيف مارس الفلول الضغوط على البرهان حتى لا يوقع على الاتفاق الاطاري، وسعوا بشتى السبل لاجهاض الاتفاق وبثوا حوله شائعات واتهامات ودعاية مضادة كثيفة، وعندما فشلوا اختاروا تحريض بعض رجالات الادارة الأهلية ضيقي الأفق لنشر الفوضى واستغلال الاستقطاب الاثني للوصول إلى السلطة أو تدمير السودان، واختاروا أن يكونوا عملاء لمصر التي تحتل جزء من أراضيهم وخدماً لمصالحها على حساب مصالح شعب السودان، فأطلقوا شائعات إلغاء الاتفاق الإطاري واستبداله ب(المبادرة المصرية) المزعومة. وهم يعلمون علم اليقين أن التحول الديمقراطي المدني في السودان يتعارض مع المصالح المصرية —وفقا لتقديرات مصر التاريخية— والتي لم تتغير حتى الآن! فعن أي مبادرة مصرية لدعم الانتقال الديمقراطي يتحدث هؤلاء؟!

ظل فلول النظام البائد يستخدمون للترويج للشائعات ضد عرمان وضد الاتفاق الاطاري كل أسلحتهم التي على رأسها (قناة طيبة) التي أُسست ومُولت من أموال الشعب السوداني —باعتراف رأس النظام البائد— دون أن تطالها المصادرة حتى الآن، ودون أن تتم مساءلتها من الجهات المعنية عن ما درجت على بثه من أكاذيب وتضليل للرأي العام وتعبئة مضادة لأجندة الثورة وإثارة الفتن والنعرات— وكيف تتم مساءلة قناة طيبة على عهد الانقلاب، وقد تفادت الجهات الإعلامية في الحكومة الانتقالية المنقلب عليها مساءلتها من قبل؟
وهو أمر يدعو للريبة والتساؤل حول ما هي الأسباب (الحقيقية) التي جعلت وزير إعلام الفترة الانتقالية المنقلب عليها عاجزاً عن تنفيذ أجندة الثورة في مجال الإعلام وقتها؟
فالأمور تأخذ بتلابيب بعضها البعض، فما نحن فيه اليوم من جُرأة الفلول ووقاحتهم ووضاعة وانحطاط ضيوف قنواتهم وأكاذيبهم التي ينشرونها بسخاء في حق الرفيق عرمان، أحد أسبابه عجز وضعف وجبن وخواء معظم من تقلدوا الوظائف المهمة في الفترة الانتقالية، سواء في الإعلام أو غيره من المؤسسات، ولذلك نتحدث الآن عن حكومة كفاءات!

الاتفاق الاطاري جاء في وقت نمى وترعرع فيه النفوذ السياسي والاقتصادي الصيني والروسي الذي طال الموانئ والقواعد الحربية وأصبح تهديداً جدياً على الحدود الغربية مع تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، وتعاظم نهب الموارد خاصة الذهب، وأصبحت المخدرات الواردة من روسيا والصين المهربة عبر حدود دول الجوار على قفا من يشيل.
الاتفاق الاطاري جاء في وقت انتشر فيه السلاح و انفرط عقد الأمن وتحول فيه السودان الى مصدر للاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية ومصدر رئيسي من مصادر المرتزقة للقتال خارج السودان لمن يدفع أكثر!
وغني عن القول أنشطة مرتزقة فاغنر الروسية في مجالات السودان الحيوية الحدودية (تشاد، أفريقيا الوسطى وليبيا) وتدخلاتها لاثارة الاضطرابات وتغيير أنظمة الجوار ونهب المعادن على جانبي الحدود بين (السودان وإفريقيا الوسطى). للدرجة التي أصبح فيها نفوذ فاغنر يمكنها من إغلاق الحدود متى شاءت!!
لذلك يجب دمج الدعم السريع وإصلاح الجيش! فمن مصلحة السودان والإقليم والعالم أن يستقر السودان، خاصة في ظل التغيرات التي يشهدها العالم الآن من تغيرات في المناخ وجفاف وحروب ومجاعات مرتقبة فافريقيا الآن تعيش جفافاً هو الأسوأ من نوعه خلال الأربعين سنة الماضية!!

كاتب هذا المقال ليس لديه أدنى شك في أن مصر لا تريد أن يكون التحول الديمقراطي المدني شرطاً لاستقرار السودان. مصر تريد تغيير يأتي بأزيال لها كالتوم هجو ومبارك الفاضل وأردول واشراقة ومسار ومني وجبريل!
وجبريل هذا وحده قصة أخرى، فالرجل لم يفتح الله عليه بزيارة دارفور منذ تم التوقيع على اتفاقية جوبا إلا الآن، ومع ذلك لم تكن زيارته مختلفة عن تحشيده لمواطني الكنابي بالجزيرة، إذ لم يعر الرجل أدنى اهتمام لهموم مواطنيه الذين حشدهم، ولم يجرؤ ليحدثهم عن موقع اتفاق جوبا من أحلامهم في التنمية والصحة والتعليم وقفة الملاح والأمن والعدالة وقضايا النازحين واللاجئين ورد الأراضي والتوطين ووحدة اقليم دارفور. كل ما فعله هو استخدام بضاعته البائرة: الشكوى من التهميش والإقصاء والتعبئة ضد الاتفاق الإطاري، ولذلك لم يتفاعل مواطنيه مع زيارته، التي ليست بأفضل حظاً من فعاليات أردول الفاشلة في الدلنج والأبيض والخرطوم، الخ...

الفلول الذين بعد أن وضع كرتي نفسه في خدمة المخابرات المصرية ورغم تأثيره —كرتي— على ما درجنا بتسميته أعضاء (المكون العسكري) إلا أنه عملياً هو وكل هؤلاء الفلول وأولئك لا وزن لهم كحاضنة لاستقرار يقوده العسكريون وتتحكم فيه مصر وفقاً لمصالحها لمواجهة التغيرات الوشيكة في الإقليم والعالم، التي بدأت تفرزها الحرب الأوكرانية الروسية!..
أي تغيير في السودان ليس بشروط مصر لن تألو المخابرات المصرية جهداً في تقويضه. وقد جاء الاتفاق الإطاري لخلق استقرار على خلفية وثيقة المحامين السودانيين ولصالح الشعب السوداني وشروطه وحقه في الحياة الآمنة الكريمة وسيطرته على موارده وتوظيفها بالطريقة التي تخدم مصالحه وتضمن للأجيال القادمة مستقبلا أفضل.
يجب أن تدرك كل الأطراف أن الوضع السوداني بالغ التعقيد وبالغ الهشاشة ولا يحتمل تفكيك الجيش والأجهزة الأمنية، مثلما لا يحتمل عدم الإحساس بالمسؤولية المتأصل في تصريحات أمثال جبريل الذي لا يستطيع زيارة دارفور إلا تحت الحماية المشددة لتورطه في ثارات فضلا عن الفساد كوزير مالية فهو الحارس لبوابة بعض المشتريات وبعض كبار المستوردين في المشاريع الأجنبية (خاصة القطرية).
أما مناوي الذي يقول أن التوقيع سيكون على جثته!! فالرجل ليست لديه أي إجابات حول الأسئلة التي يطرحها الإقليم بشأن الآثار المترتبة على إعادة توحيد ولايات (دارفور) كإقليم واحد. ويكفي أن الرجل لم يتمكن من السفر إلى دارفور دون حماية حميدتي!!..
لانسينغ ميشيغان
٢٢ يناير ٢٠٢٣
نواصل

ahmeddhahia@gmail.com

 

آراء