في ذكرى الوالد الحاج "محمد الشقليني"، التي تجري مجرى الدم في العروق، تمر حياته علي كعبور نيزك في السماء المظلمة يُضيء، ثوانٍ ثم يختفي.لم أزل أتذكر جلسته عند الصبح يقرأ من الذكر الحكيم جوار نافذة غرفته قبل شاي الصباح. نهضت تلك الذكريات كأنها نبتت وبانت أغصانها من بعد رحيله 2011 . شريط حكايات تنقش نفسها على حجارة الذاكرة. تذكرت ذلك اليوم حين التقي بصديق عمره " عوض الله حسين " في بيتنا . وتذاكرا إعجابهما بأغنية الفنان المُطرب " حسن عطية " في شبابهما في أربعينات القرن العشرين ( يا ماري عند الأصيل):
(2) أذكر في سبعينات القرن العشرين، اعتادت جمعية الفلسفة في كلية آداب جامعة الخرطوم، أن تحتفي كل شهر، وتقدم أحد المطربين السودانيين، في أمسية، يحكي فيها عن حياته ما شاء أن يحكي، ويقدم أغنيات على آلة العود. جاء المطرب " حسن عطية " بآلة العود، مع كامل هندامه بالزي الإفرنجي وهو يرتدي بدلته الأنيقة ورباط العُنق. أذكر ذلك اليوم عند المساء في سطح الطابق الأرضي لكلية الآداب، و حكى "، كيف كان يحضر منزل" عبد القادر سليمان" في غياب أهل المنزل وغياب " خليل فرح ". و يأخذ آلة العود من فوق خزانة الملابس، ويتمرّن عليها عزف الأغنيات التي حفظها عن " خليل فرح ". وساعده شغفه في تعلم العود، حتى أتقنه. * التقيت المطرب ذاك المساء بالمطرب " حسن عطية" أول مرة عن قرب، عندما جاء ضيفاً على جمعية الفلسفة الطالبية في آداب جامعة الخرطوم في سبعينات القرن العشرين. حكى طيفاً من سيرته الذاتية، فيها الكثير الذي لم تذكره سيرته الذاتية المدوّنة في كتاب، وغنى غناء دافئاً. كان مُهندماً كما اعتاد الظهور، تلك من حسنات الحُكم البريطاني!. على غير ما يرى المتأسلمين ألا فضائل لهم، رغم أنهم تركوا السودان بلداً ذا اقتصاد ينافس، في حين لم يتركه المتأسلمين إلى الآن، وهو يتسول كل شيء!.
(3) مرة زارنا الراحل العم " عوض الله حسين " والتقى بوالدي، وكان " ود خالته " . وقد كان والدي وزير زواجه عام 1943. التقيا في غرفة والدي وطرقا موضوعات شتى، وانشغلت أنا برعاية الضيافة. ولم تكن سوى الشاي الأحمر. في لحظة صفاء، ولجا صندوق الذكريات. يبدو أن لهم فيه كثير شأن. ذكّر أبي ضيفه بمقدمة أغنية " يا ماري عند الأصيل " للفنان "حسن عطيّة". لمحت طرفاً من شبابهما، وكأنه يعود من جديد، بعد أن غرّب الشيب وشرّق فوق رأسيهما. ابتعدت أنا، خوفاً من أسطو على ذكريات شبابهما. أغنية ( يا ماري عند الأصيل ) من كلمات الشاعر والملحن المُخضرم " عبد الرحمن الريّح ": يا ماري عند الأصيل وحدك بشاطئ النيل صدقني شكلك جميل يا ماري أجمل مرور بين المرح والسرور ما بين أغاني الطيور تسمع حفيف الزهور مع النسيم العليل
(4) ولد المُطرب الفنان "حسن محمد عطيّة الريح" في حي المراسلات بالخرطوم عام 1921 . وهو في سنه يقارب ميلاد والدي والعم " عوض الله ". وعاش في بيئة تسودها طبقة متوسطة ، من الموظفين والتجار وأفراد من الجاليات الأجنبية ويقيم في الحي نفسه عدد من الفنانين. وأطلق عليه لقب " أمير العود" لأنه تميّز بالعزف فيه بشكل جيد دون غيره من الفنانين السودانيين الذين عاصروه. وقد بدأ تعليمه في خلوة الشيخ "محمد حنفي"، شيخ الطريقة الإسماعيلية، في حين التحق والدي بخلوة " الفكي الصلحي " بالعباسية بأم درمان.
(5) دارت بذهني ذكريات موغلة في القدم، أيام الطفولة الجريئة. وتذكرت في أحد رمضانات الطفولة ، حملت " عمود الطعام " لوالدي. وقد كان حينها يعمل في " معديّة أبوروف ". لم يكُن " كوبري شمبات " قد بدأ تنفيذه. ركبت البص إلى المحطة الوسطى بأم درمان، ثم ركبت التُرام من محطته الرئيسة، قاصداً "أبي روف ". سار التُرام كل المحطات، ماراً بـ "مكي ود عروسة " و" ود أرو " و " ود البنا" وسوق الشجرة، حيث ينتظر بضع دقائق، ومنه انطلق إلى محطة المُشرع في " أبي روف ". كادت الشمس أن تغرب. نزلت المحطة، ووجدت " معديّة أبوروف " راسية قُبالة مرسى أبوروف. وجدت الجميع يجلسون على " برشين " متقابلين. كانا مُجهَزين بمكان فيه الرمل الخشن ،ليكون سِماطاً لطعام إفطار رمضان بينهما. لم أنتظر قليلاً، إلا وتقاطرت " الصواني "، تحمل طعام الافطار من بيوت الجيران. و " بستلات " تحمل شراب " الآبرى الأحمر " و " الآبرى الأبيض " وصحائف " العصيدة، و " ملاح التقليّة ". وحاويات الشراب. يبد أن كل البيوت التي تقابل الشاطئ ، كانت تُجهز طعامها لإفطار رمضان . كانت الأسر توسِّم " الصواني"، فلا تختلط ببعضها. * بعد تناول الإفطار، انتظم الجميع للصلاة، وصليت معهم. وبعدها استأنس الجميع في مسامرة وضحك، حتى الموعد المضروب، ساعة أو نحو ذلك. انطلقت صافرة المعديّة إيذاناً ببدء العمل. وما هي إلا دقيقتان، وبدأت المعديّة تشتعل ماكينتها. جمعت الأواني في " العمود "، انتظرت التُرام ليعود بي للمحطة الوسطى بأمدرمان، ثم ركبت بص الفتيحاب وكان يمر قرب البيت. ولم يكن شارع الأربعين مسفلتاً ولم يكن هنالك كوبري أبو عنجة، كلها نُفذت لاحقاً أيام حُكم الفريق عبود.