يا مولانا أنا مهدّد .. ونَفسَ الأوجُه .. وَنَفس المَصير !

 


 

 

المسؤوليه عن ارواح الآخرين واحده لا فرق بين مَن كانَ مسؤولًا او من الرعيه لِتُشَدّد الحِمايه لأحَدِهِما دونَ الآخَر. الحراسه تعني المسؤوليه عن الشيئ وهي تزيدُ درجات إن كان هذا الشيئ إنساناً.
لطالما آمنتُ إيماناً قاطعاً أنّ أجبَن البشر هو مَن يَضرِب شخصاً مُقَيّداً او يُعَذّبُهُ أو يُسيئُ إليهِ ويدخُلُ في معنى ( التقييد ) الشخص الذي يكونُ في حراسَتِهِ القانونيّه.

عندما ولَجتُ مَخفُوراً إلى الطابق الأرضي لِمَبنى ( الثّلّاجه ) بجهاز الأمن رأيتُ صَفّين من المُعتَقَلين على إمتِدادِ الجُدران وهُم ( باركين ) على رُكَبِهِم ووجوهُهُم إلى الحائط وأيديهِم إلى أعلا . كان كُلُّ شيئٍ في حالةِ سُكونٍ تام إلّا من تَحرُّكاتٍ لِبَعضِ الأفراد وهُم يُنجِزونَ أعمالًا إداريه أثناء إستلام قادِمين جُدُد أو تسليم مُتَعَلّقات لِمُفْرَجٍ عَنهُم وكانَ أنّكَ لا تَسمَع إلّا أنفاس الحُضور.

في السجن العمومي بكوبر تشاركت الزنزانه مع السيد ف. كوكس صحفي من القناه الرابعه الانجليزيه كان قد دخل السودان بدون تأشيره. عند دخولي وجدتهُ راقداً على الأرضيه الخشنه ، الخيار الأوحَد ، وهو يُعاني من آثار حفلة الأمس قبل إعادَتِهِ لكوبر من موقف شندي. قال لي انه طلب أن يرى الطبيب وحتى الآن لم يُستجاب لطلبِه. كانَ ، المسكين ، كلّما سَمِعَ صوت ( سارينَه ) ، وما أكثرها على جسر كوبر ، يبدو عليهِ الإرتياح اذ يعتقد أن سيارة الإسعاف في طريقِها اليه.

بعد الثلاثين من يونيه ١٩٨٩ لَم يَعُد بمقدورِ أحدٍ أن يسأل ( لماذا ) في مواجهَةِ عَسَفِ السُلطه بأنواعِها التي تُمَثّلُها كُلّ القوات في زيّها الرسمي او المَدَني. وأُذِّنَ في الناس بِوِلادَةِ نَوعٍ آخرَ مِن البَّشَر في أرضِ السودان التي لم تَعْرِف في تاريخِها إلّا التوادُدِ والتراحُمِ وخَوْفَ الظُلم. بَشَرٌ لا يَطرفُ لَهُم جفن وهُم يُعَذِّبون ويَغتَصِبون ويَقتُلون ويُخفون ويدفنون.

عندَما أُصِبْنَا بِخَيبَةِ الأمَلِ القاتِلَه بعد الثوره وثِقَتُنا تَزدادُ وتتأكّد في ( لا عِلاقَة ) حكومة الإنتِقَال بثَورَةِ ديسمبِر وأهدافِها صِرنا نَتَدافَعُ ( بِجُنون ) تُجاه مسؤوليها وفي مَعيَّتِنا أوراقِنا ودِراساتِنا بعضها راكَمَت السنوات غُبارَها عليه وتآكَلَت أطرافَها من ضَيمِ الإخْفَاء من عيونِ الأمن ولَم يَكُن لأصحَابِ الأمر ، بإختلافِ مَقاماتِهِم ، مِن رَدٍّ لَنا سِوَى ( بِلّوهو وأشرَبو مويتو) وَشَرِبْنَا مرارَة القَهر الذي انصَرَم وذاكَ الذي هُوَ قَيد الإنشاء الآن.

وبَعد قيام الثوره بسنَواتٍ أربَع يَمْثُلُ شاهِدٌ أمَامَ مَحكَمَه في عُمرٍ غَض .. يصيح للقاضي يا مولانا أنا مُهَدّد ليَكْشِفَ عن نَفس ما كانَ يُمارَسُ في عَهدِ الإنقاذ من تَعذيبٍ عُضوي ومَعنَوي .. لِيَكشِف عَن كَيفَ يُكسَرُ الإنسان وكيفَ تَضيعُ إنسانيّتُهُ تحتَ ارجُلِ وَسَطوَةِ الزّبانيّه ؛ والأدهى وأمَرْ ان نَكتَشِفُ أنَّهُم ( نَفسَ ) الزبانيه الذين أتوا مَعَنا وتابَعونا مِن عُمقِ زَمَن الإنقاذ.. لَم يذهَبوا لمصيرِهِم المُستَحَق بعد الثورَه لأنّنا ( بَلّينا أوراقنَا وشرِبنا مويتها ) حسب تعليمات حُكّامنا لفترة الإنتقال. وفي مَعنى الزّبانيه يَدخُلُ كُلّ ( الطابور ) المُتَبَقّي والذي يشمِل القيادات تلك التي لم نسمع لها حِسّاً ولَم نَرَ غير المُداراه وذر الرّماد في العيون لضمان سلامَة القَتَله والمُعَذّبين وهاتِكي العُروض.

ما الذي يجعَل المنتَظرين او المُحاكَمين يُرَحّلون من والى المحاكم بعربات من الصاج المُحْكَم بطريقه تتنافى مع البشريّةِ والإنسانيّه و ( بدون ) حراسه كافيه؟ مُدَرّعات الشُرطه التي ( تَهيصُ ) داخِل صُفوف المُتظاهرين وتَدهَسُ يُمْنَةً ويُسره بلا مُحاسَبه الَم يكُن من الأوفَق أن تُرافِق إحدَاها سيّارَة المُنتظرين لحراسَتِها؟ الَم يكن من الأولى أن تُرافق سياره بوكس عليها طاقم من شرطة العمليات اولئكَ المُنتَظرين وهو مما يَدخُلُ في صَميمِ أعمال الشرطه؟
لقَد تغيّرَت خارطة الجريمه فعليّاً بعد دخول قوات المليشيات التي دَخَلَت إحداها كأمرٍ واقعٍ بعد الثوره ، تمّ تقنينُها وصَارَ التّوَدُّد اليها نَوعاً من سياسة البعض بعد ذلك ، والبقيّه بفعل وإذن حكومة الإنتِقال. بدأ الخوف يَدُبُّ في الأوصال لمُجَرّد رؤية ايّ كاكي على الطريق حتّى كاكي القوات النظاميّه وقد رإها الجميع في سلوكِها المُعوَج على شاشات التلفزه وصَارَ الكاكي المُرْتَدى لا يَدُلُّ على هَويّةِ الذينَ يرتدونَهُ.
سيّارة المُنتَظرين لن تكون الأخيرَه وتعذيب توباك ورفاقَهُ وكذلك الطفل الأخير والإنفلات الأمني الدَّخيل ويبقى السؤال الأخير ما الذي يجعل البعض يَثِقُ في ( مَن ) قَوَّضوا الإنتقال من مَدنييهِ ويَضرِبون لَهُم الدُفوف وهُم يسيرونَ خلفَهُم وهُم " المدنيون " يستَصحِبونَ مَعَهُم نَفس ( البوت ) الذي اعتلى الجِباه الشُم لأبنائنا وبناتِنا ونَفْسَ الإصْبَع الذي ما فَتِئ يضغط على الزّناد حتّى لا يَمُرّ يَومٌ بلا شَهيد؟ نَفسَ الأوجُه التي سَرَقَت ذهَبَنا وموارِدنا وتَعتَلي أرفَع المَناصِب الدستوريه في الدّولَه المسكينه .. حَقّاً مَن يَهُن يسهَلُ الهوانُ عليه.

melsayigh@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء