يحدث في سجن كوبر.. أن تموت وأنت حي
أبوذر على الأمين ياسين
20 November, 2011
20 November, 2011
للسجناء بسجن كوبر العديد من (المصطلحات) التي تعبر وبقوة عن أوضاعهم ومجمل أحوالهم وطرق معاملتهم من قبل ادراة السجن. وأول ما يلفت انتباهك ويجعلك في حالة من الزهول مصطلح (الحياة). فأنت تستمع لأحد السجناء يقول لك "في الحياة أنا كنت بشتغل في السوق الشعبي"، أو آخر يقول لك " فلان هذا أنا بعرفه من الحياة"، ويقصد كنت أعرفه قبل أن التقيه بالسجن. أو يستقبلون قادماً جديداً باعتباره قادم من (الحياة)، أو يستقبلون زائريهم بسؤال.. بلاي الحياة كيف؟!!؟. والذي يثير دهشتك في استعمال السجناء لمصطلح الحياة، أنه ينقلك مما تعارفت عليه من أن الحياة هي عكس ولا يقابلها إلا الموت، وأن السجناء يجعلون السجن هو (عين الموت) لكنهم أمام ناظريك أحياء. قد تستخف وتستهجن هذا الاستخدام (المسئ) لقيمة ومعنى الحياة، أو قد يثير فيك الضحك على هؤلاء الاحياء الذين يأكلون ويبيتون ويصبحون ويؤدون صلواتهم كل يوم وليلة ويعدون أنفسهم (أموات). وقد يثير فيك التساؤل ما الذي يدفع السجناء لاجتراح مصلح الحياة وتضمينه هذا المعنى؟، وما ذا يعنون بالضبط؟، هل يعنون التفرقة بين المسجونين وغيرهم الذين ينعمون بكامل الحرية خارج السجن؟، أم أن أوضاعهم بالسجن دفعتهم وراكمت ظروف تواجدهم بالسجن كل الحيثيات التي يحملها استعمالهم الغريب لمصطلح الحياة؟. تواجدنا بسجن كوبر ضمن المسجونين تقدم كامل الشرح والتوضيح لمصطلح الحياة وما يعني، وكيف صار مصطلح يعبر بالتمام عن الحال والاوضاع داخل السجن. وكيف حَول تعامل ادراة السجن (السجن) إلى (قبر) بدلا عن مؤسسة (للعقاب) القانوني جزاء مخالفة قانونية تسوجب (عقوبة السجن) وليس سلب (الحياة)!!؟.
قد تذهب (متهماً) الى احدى حراسات الشرطة، ثم توجه لك (النيابة) تهماً عددا، أو تهمة واحدة، ثم تحال للـ(قضاء)، الذي يحكم عليك بعقوبة السجن لمدة (محددة ومعلومة). لكن دخول السجن يختلف عن كل ذلك!!؟. لن تعرف أبداً شيئاً عن كيف ستقضي عقوبتك تلك!!، ولا ما هي حقوقك (الاساسية) كمسجون!1؟. ولا مدى حدود ادارة السجن في علاقتها معك كمسجون ضمن السجن الذي تديره!!؟. ولن تعرف ما اذا كان هناك قانون أو لوائح تحكم وتحدد الحقوق للمسجونين وطبيعة حدود علاقتهم مع ادارة السجن، وسقف الادارة ذاتها في علاقتها معهم؟. كل ذلك بسبب أن إدارة سجن كوبر كمثال لن تعرفك ولن تعرض عليك حقوقك، بل لن تأتي أبداً على ذكر وجود قانون أو لوائح تضبط وتحدد ادراة السجن!!!. ستدخل السجن خالى الذهن لا تعرف ولا تعلم شيئاً عن المؤسسة العقابية التي ستقضي فيها مدة السجن التي حُكمت بها. ستكون أمامك فقط إدارة السجن التي لها أن تفعل بك كيف تشاء، وتسمح لك بما تشاء، وتمنع عنك ما تشاء (سبق أن منعت اسرتي من ادخال ملابس الشتاء لي كونها بالقانون ممنوعه) !!!!؟. هذا الوضع بالتحديد والضبط هو الذي يجعل من السجن (قبر) وليس مؤسسة (عقابية)!!.
دعونا الآن نشرح ذلك بالوقائع، بما يحدث في كوبر!!. ولكن قبل ذلك هناك قصتان – رمزيتان - (من محض خيال المساجين)، لكنهما نموذجيتان وتعكسان تصورهم لبوليس السجن (السجانة) من جهة، ولإأوضاعهم وحجم الضغوط التي يتعرضون لها كـ(مساجين) وكيف انحطت بهم إلى أرزل رزيله من جهة اخرى!!.
يتداول سجناء سجن كوبر قصة ضابط سجن برتبة الرائد، كان مديراً لسجن باحدي سجون ولايات وسط السودان (عند قدوم الانقاذ) في مفتتح التسعينات. وأنه كان شديد الحرص على إبراز ولائه للقادمين الجدد ولمشروعهم الحضاري، وأنه لا يماثله أحد (في الكون) في اسلامه والتزامه الديني ولا حتى أهل المشروع الحضاري وأصحاب السلطة الجدد. وأنه كان يُجبر كل السجناء بسجنه ذاك على أداء الصلوت (خلفه) كإمام وليس (مدير سجن)، وبلغ به الأمر حتى يضمن أن يحسب من أهل السلطة والمشروع الحضاري، أن أجبر حتى المساجين (المسيحيين) على الصلاة خلفه إماماً!!. وعندما ثار هؤلاء وأثاروا السجن كله أعمل فيهم يداً غليظة وكان ان لقي بعضهم حتفهم وماتوا في تلك الاحداث. وتنتهي القصة إلى أن ذلك الضابط لم يحاكم أو يبعد من الخدمة بل كل الذي حدث أنه ابعد عن إدارة أي سجن وأنه بقي كذلك حتى بلغ رتبة (اللواء)، ليعود من جديد لإدارة سجن من السجون!!؟.
توضح دلالات هذه القصة بخيالها الواسع، إلى أي مدى يمكن أن يبلغ نفوذ ادارة السجن في مواجه السجناء. وأنه لا نصير لهؤلاء مهما حدث لهم من قبل ادارة السجن. وأن الحماية إنما هي موفورة دائماً لإدارة السجن وليس للسجناء، و لا عزاء أو حماية من أي جهة تشريعة كانت أو عدلية أو حتى أنسانية، وإن كان مصير السجناء جراء ذلك (الموت وبالرصاص).
أما القصة الاخرى، فتحكي عن وقائع (عرس) جرت بقسم (السريا) بسجن كوبر. عرس بين (رجلين – زوج وزوجة) لكنه عرس كامل الدسم لا ينقصه شئ من مراسيم الزواج المتعارف عليه من مهر، وشيلة، وعزومه، واحتفال (حفلة زواج)، فقط الذي ينقص ذلك الزواج بحسب الرواية هو (مراسيم العقد). وتنتهي القصة هنا إلى تدخل ادارة السجن لاحقاً، أي بعد أن تم وجرى كل ذلك، لتنهي هذه المهزله بإمضاء العقوبات على اطراف تلك الزيجة. تقول الرواية أن احداث هذه القصة حقيقة وانها وقعت بالفعل. لكني ولما لم أكن من الشهادين عليها، وكونها لم ترق لما اعرفه وما تتطبعت عليه عن أهل السودان، كما أنني لم اسمع قط عن واقعة مثل هذه طيلة حياتي، وأن مثل هذه الوقائع التي تتمثل كل مراحل واجراءات ومراسيم الزواج تحتاج إلى زمن، كما أن ادارة السجون لها (مخبرين) بين السجناء ولا يمكن أن تمر عليها كل هذه التفاصيل والأحداث دون أن تستدرك وتوقفها قبل وقوعها بكل هذا الزخم الاحتفالي ، لكل ذلل هي عندي محض خيال ذو دلاله مجازية لا أكثر.
ودلاله هذه القصة، هي التعبير عن مدى الضغوط التي يتعرض لها المساجين من قبل إدارة السجن. وأنها بلغت بهم مبلغ أن يفارقوا كل قيم (الحياة) التي عاشوها كابرا عن كابر. وأنهم وبسبب ضغوط الادارة التي تسلبهم كل شئ، استبدلوا هم بدورهم كل قيم الاخلاق والدين، بما يبرر لهم ويعطيهم حق التعبير عن رفض ما تقوم به إدارة السجن من تضيق عليهم، بضرب حتى قيم الدين وحدود الاخلاق. ويبقى أن خلاصة القصتين تنتهي عند (الموت)، أما بسبب جبروت الادارة وارغام حتى المسيحيين على الصلاة ثم قتلهم بالرصاص. أو أن تموت بهجر كل قيم الاخلاق والدين وكل الثقافة التي تربيت عليها قبل قدومك سجيناً محكوماً لأحد السجون. ولكن تبقى أبلغ العبر هي ما يحدث حقاً وواقعاُ بسحن كوبر تجاه المساجين، وكيف تطلق ادارة السجن يدها بلا حدود!!؟.
ليس هناك قانون أو لائحة، لن تعرض عليك إدارة السجن ذلك عن دخولك (لم تعرض علينا لائحة ولا قانون، بل لم يتم تعريفنا بأي شئ باعتبارنا داخلين جدد للسجن)، ولن تعرف شئ عن أي شكل قانوني ينظم ويضبط أوضاع السجناء داخل السجون. كل الذي يحدث، أن يقول لك أحد السجانين (بوليس السجن) من الضباط أو العساكر، أن هذا ممنوع بالقانون. تلك هي حدود معرفتك. ومن الشواهد على ذلك أن عرض علينا أحد الضباط بعد ليلة يوم عاصف غطى فيه الغبار كل الدينا من حولنا وقطع التيار الكهربائي فيه، عرض علينا ذلك الضابط خطاب ونحن جلوس (وقت التمام)، أنه وبموجب الخطاب الذي عرضه علينا ورأه الجميع بين يديه (لم يطلع على تفاصيله أحد)، أنه من حقهم أن يطلقوا الرصاص على كل من يتحرك داخل قسمه المحبوس فيه في أي يوم عاصف ذو غبار كثيف!!!؟، مع العلم أن القسم الذي كنا فيه أغلب المسجونين فيه يقيمون خارج العنابر كون عدد المساجين أكثر من سعة العنابر بالضعف تقريباً. لكن تبقى دلاله ذلك، أنك لن تعرف من يعطي حق القتل بالرصاص لمن هو داخل حدود السجن مسجون فيه وقد وضعته ظروف السجن نفسه خارج العنابر مقيماً باستمرار، فقط لآن اليوم عاصف ذو غبار؟!!.
يوم دخلولنا لسجن كوبر صادف ذات الليلة التي هرب فيها المحكموين في قضية قراند فيلد المعروفة. وكان الضابط المسؤول وقتها عن قسم المنتظرين يتتحدث وقد جمع كل المنتظرين صباح اليوم التالي، وبعد أن انتهي مما يريد ابلاغه للمنتظرين (ليسوا محكومين بعد)، اشتكي له أحد المساجين، بأنه مريض وأن طعام السجن يتسبب له بمزيد من الضرر كونه يشكو من بطنه، ما كان من الضابط ذاك إلا أن ضرب الرجل بديه ضرباً مُبرجا وكال له السباب، وبعد ذلك أخذ يعرفنا عن طبعه وسيرته ومنهجه كسجان (عريق) ونادي مسجون آخر مشهور بسبب تردده علي السجن بين العسكر السجانه، طالباً منه أن يؤكد ما يحكي. وكان قد قال وهو يحكي عندما كان بسحن الجريف ويساق المساجين للعمل بكمائن الطوب: " أن القاعدة عندهم وقتها أنه إذا كسر المسجون (طوبه) فهذا خطأ كبير لا يغتفر له ويحساب عليه عسيراً. أما إذا كسر رجله، فهذا (فقط) إهمال منه. وتلك هي بالتحديد صورة وقمية المسجون عن بوليس السجن ووفقاً لها يتم التعامل. وإليكم المزيد.
دخلنا السجن ووجدنا المحكومين بالاعدام موضوعين بالاغلال أو ما يعرف بـ(القيد) الدائم على أرجلهم حتى لحظة تنفيذ الاعدام عليهم، ينامون ويصحون وهو عليهم، يستحمون ويبدلون ثيابهم وهو عليهم، ويردون (المرحاض) من بعد الصبح وحتى العصر والقيد عليهم، وبعد العصر يدخلون إلى زنانينهم والقيد عليهم، وبقيدهم ذاك وداخل الزنزانه عليهم أن يقضوا حاجتهم من (بول وغائظ) داخل زنازينهم (بالزنزانه ما بين 5- إلى سبعة افراد أو تسعة في بعض الحالات)، وأن يؤدوا صلاة المغرب والعشاء داخل زنازينهم ذاتها!!!؟. وذلك بعض من أفضال المشروع الحضاري (الاسلامي)، وشئ من (تجديده) و (تأصيله) للعقوبات داخل السجون وسجن كوبر نموذجاً لذلك.
لن تعرف القانون أو الائحة أبداً. فقط هناك إدارة السجن التي تفصل كل شئ، وتفعل كل شئ بالمساجين، ادارة السجن مثلاً تقوم بجلد المساجين عقوبةً على ما أتو من (فعل)، قد يكون امتلاك موبايل، والموبايل بالسجن من (الممنوعات) برغم من أن كبار ضابط السجن يقف أمام الجيمع ويقول لهم أن الاتصال ممسوح به، وأنه من أراد الاتصال فإن إدارة السجن تسمح بذلك!!. ولكن ادارة السجن في الوقت ذاته لا توفر لك تلفون للاتصال، بل عليك أن تأخذ أذنها ثم تذهب لدُكان السجن تدفع أجر المكالمة من حر مالك!!، ولكن أن تمتلك موبايل فهذا من الكبائر. بل إدارة السجن (تصادر موبايلك) ولا تضعه في (الامانات) وليس لك أن تعرف من أعطى إدارة السجن حق مصادرة ممتلكات المساجين وإن كانت ممنوعة (داخله)، لكن هكذا تجري الامور. هذه الايام عقوبة الموبايل ليست فقط المصادرة بل (الجلد) خمسة وعشرين جلدة. جلد (حضاري) (اسلامي)، إذ تجلد عارياً وعلى ملاء من المساجين و أحياناً أمام جمع من السجانة وربما بحضور حتى كبار الضباط بالسجن، جلد يدمي عجزك، ولا تكتفي ادارة السجن بذلك بل تضع عليك (شاش بالملح) على جروح السوط امعاناً في الاذي والتلذذ به. الغريب حتى (القضاء) لا يجري عقوبة مؤزية على أحد، وتعرفون ما أثاره شريط فتاة الفيدو أو (فتاة قدوقدو)، لكن بالسجن من حق الادارة أن تفعل ما تشاء بالمساجين، ثم هم لا يسألون. وربما تكتفي الادارة عقوبةً على الموبايل أن تضع على رجليك القيد وتضعك في الزنازين مبعداً عن القسم الذي تقيم فيه، وتحكم عليك (كما هو الحال هذه الايام) بمدة قد تمتد لسته أشهر بالزنازين، وقد تجمع عليك وتجرى كل هذه العقوبات ويضاف لها وللغرابه، حكم إدارة السجن بمنع الزيارة عنك طيل مدة ما حكمت به عليك بالبقاء بالزنازين. كثير هي الاسماء التي نعرف أنها تعرضت لمثل هذه العقوبات، بعضها أرونا حجم الضرر على أجسادهم وما سببه لهم الجلد بالسوط.
أغرب العقوبات على الاطلاق هي (منع زيارة الاهل والمعارف لك). وفي حالتنا مُنعنا من الزيارة مرات بلا سبب أو مخالفة. بل منع زملائنا الصحفيين من زيارتنا، وقالوا لنا (إلا بإذن من إدراة السجون). لكن كل الذين طلبوا الاذن لم يجدوه رغم طول الانتظار وكثرة التردد على إدارة السجون، ومنهم من كانوا مسجونين معنا وبعد خروجهم طلبوا الاذن ولكنهم لم يجدوا إلا الممطالة. بالطبع لم يفعل اتحاد الصحفيين شيئاً، ولم يسأل من له الحق بمنع الزيارة مِن أياً كان لأحد المسجنونين أياً كان ما أتي أو ما عوقب به من قبل القضاء؟. وهل من حق أعلى جهة ولو كانت المجلس الوطني أن ينص قانوناً يمنع الزيارة عن أحد المسجونين؟!!. أم هذا حق إنساني يجب أن يُحرس من كل الجهات ويتم التشديد والحرص عليه؟!!. ولكن كيف تعرف القانون أو الائحة، ومن له الحق في فرض العقوبة أو الاعتراض عليها، أو حتى يراقب ليمنع الشطط تجاه من يتلقى عقوبة السجن. هذه الأيام تمت مماطلة المحكومين في المحاولة الانقلابية 2004م، لم تجري زيارتهم من زويهم بعيد الاضحى حتى. ولكن من له الحق القانوني في مثل هذا الافعال لن تعرف أبداً. ومنع زوي (المتهمين بتهريب المحكومين في قتل غراند فيلد) من زيارة زويهم في العيد ودخلوا في إضراب عن الطعام والشراب. وهناك العشرات بالزنازين الذين منعوا من الزيارة ليس في العيد فقط بل هم ممنوعين من الزيارة طيلة مدة (حكم) ادارة السجن عليهم بالبقاء بالزنازين.
(يحدث في كوبر)، هو مشروع كتاب يحكي تجربة بقاءنا بالسجن. معايشتنا لكثير من الوقائع التي تحتاج أن تعرض وتسرد ليعرف الناس كيف تحولت (العقوبة) إلى (موت) يحكى عنه مصلح (في الحياة) كما قدمنا له. في الكتاب سنفصل ونعرض أدق التفاصيل والوقائع وحتى الاسماء. ونلتقى في مقالات أخرى نعرض فيها بشئ من التعميم بعض القضايا والوقائع على ذات نهج هذا المقال، في تعميم غير مخل بجوهر ما يحدث في كوبر.
Abuzar Abuzar ali [abuzzzzar@yahoo.com]