يغنى الجنوبيون: زندية مافى .. يامندكرو !

 


 

 


نحن فى  السودان نقول بلغتنا الدارجة  اخذ  فلان  حقه  زندية  بمعنى  اخذ  حقوقه رجالة  وقوة عين  . وهو قول يقابل القول بان  فلانا اخذ  القانون  فى يده  وانتزع حقه  بيده لا بيد  سلطة  تقاضى. وافترع  هذا المقال  فى هذه  الايام  بسبب  تواتر  الانباء  القائلة  بأن  حكومة السودان  اخذت  ما  تعتقد  انه  حقها  على على  حكومة الجنوب  نظير  استخدام هذه   الاخيرة  خطوط  تصدير النفط   الشمالية  فى تصدير  بترولها  الى  الاسواق الخارجية . حكومة السودان الشمالية قالت  بقوة  عين  انها اخذت حقوقها عينيا .  بمعنى انها لم تنتظر  زبونها  الجنوبى  ان  يحاسبها ثم  ينقدها حقها  نقدا  مثلما  يحدث  بين  المتعاملين تجاريا فى الاسواق  فى  كل  الشرائع  المالية  والتجارية والقانونية . بل  أن حكومة  السودان حددت لنفسها السعر  الذى  يناسب  حاجتها المالية  القاهرة . وليس  مهما  ان كان السعر الذى  حددته  لنفسها  يخالف اسعار السوق .  حكومة الجنوب  دقت  صدرها  من هول المفاجأة   المزدوجة  و صرخت  فاول  ياحكم . اقول  مفاجأة مزدوجة  لأنه  يستحيل  فى  التعامل  التجارى ان  يحدد  الزبون  السعر  العائد  اليه  بدون رضا  الشريك  الآخر  فى  العملية  التجارية  الجارية . أماالمفاجأة  الثانية  بالنسبة  الجنوبيين فهى  ان  تعود  حكومة  السودان  الى اساليب  عهود  العصور الوسطى  فى  تبادل  المنافع التجارية . لقد  كان  الناس حينها  يتقاضون حقوقهم عينيا  لعدم  وجود النقد . اعطنى  هذه  الماعز  الحلوب ، اعطك هذا  التيس الولود .  ويقبل  الطرفان  بطيب  خاطر  هذه  المبادلة  المنطقية  وكل واحد   ود  بالضرورة ان يكون مناسبا  المناسب  اخذته عينيا  زندية  ورجالة  وقوة  عين بعد  ان  وضعت  سعرها  الخاص المخالف لكل الاسعارالعالمية وضعته  وحد  منهما   يحسب  نفسه  فائزا  بالصفقة . ولكن حكومتا   الشعب السودانى  فى الشمال والجنوب  تعيشان  فى دهر حديث و مختلف ولا يعرف التبادل العينى  على طريقة  حكومة شمال السودان  الغريبة . فالمعمول به  هو  ان السلع  تسعر  ويقنن  سعرها اولا  ثم  يجرى  بيعها  للطرف  الآخر بعد ان يعرف كل حسابه  والمجاميع  العائدة اليه   والمجاميع  العائدة  الى الطرف المقابل  .   يعنى  بالدارجى  الفصيح  زندية  مافى .   والتزاكى على الآخر  مافى . وكان  بديهيا  ان يرفض  الجنوبيون  هذا  الاستغفال  المكشوف . و  قالت  الانباء  ان  شعب  الجنوب  الشقيق المسكين ، الذى  كان  حتى الامس القريب  فلذة  من  فلذات  كبد  الشعب  السودانى  فىى الشمال  ، اخذ  اوراقه  ووثائقه  واخذ  يطوف على  محافل القوى  الاقليمية  والدولية  شاكيا  اليها  و الى طوب الارض ظلم الاقربين  من أهل شمال السودان  لاشقائهم  الاقربين من اهل  جنوب  السودان دون  ان  يلوح  فى  افق الطرفين اية بادرة  توفيقية.  غير  أن  ترتيبات  مؤكدة  تجرى  فى  عواصم  القرار هذه  الايام  سوف  تنتهى  بتصجير  بترول الجنوب  عن طريق  شاحنات ضخمة  يجرى  العمل  على استيرادها  للجنوب  لكى تنقل بترول  الجنوب  الى السواحل الكينية  حيث  تنتظره  ناقلات  البترول العملاقة  على  فم  المحيط  الهندى .  وربما غنى الجنوبيون بعد ذلك  "  يامندكرو  زندية مافى "  . الذى  لا خلاف  حوله  هو ان السودان  يعيش  باعصاب تالفة  هذه الايام  بسبب الضائقة  المالية  التى سببها له الجنوبيون  باختيارهم  للانفصال  من  بين  كل  الخيارات  الااخرى . ويبدو  ان  شمال  السودان صار ( زهجانا )  للغاية  من الجنوبيين  الذين  اخذوا دولتهم الوليدة  وبترولهم الوليد  وغادروا  لا يلوون  على  شئ  من  القديم  المشترك  مع الاخوة  الاعداء  الذين  شاركوهم  الحكم على مدى  خمس سنوات لم  يجد  الجنوبيون  فيها  لا سلطة  ولا راحة  بال . بقدر ما وجدوا من الغيظ الاشم  بين الفينة  والاخرى . ربما  جعل  الانفصال  حكام  الشمال  تواقين الى الحاق اكبر قدر  من الضرر والضيق  بالدولة  الجديدة  نكاية  وتأديبا  . فالمعروف  ان كل دولة  من الدولتين  الجارتين  ميسر لها  الحاق الاذى  بالدولة  الاخرى . فالمليشيات المسلحة الجنوبية  المعارضة  لحكومة  الجنوب  الوليدة  موجودة  على  تخوم  حدود  الدولة  الشمالية . وكانت هذه  المليشيات  الحنوبية  حتى  قبل استقلال الجنوب بوقت  قصير ،  كانت تحارب الى جانب القوات  الشمالية ضد قوات  الحركة الشعبية  الجنوبية  وتطلق عليها  صفة  القوات الصديقة . من جهة اخرى  قوات الحركة الشعبية  قطاع الشمال  موجودة  فى داخل  الشمال  فى  جنوب  النيل الازرق  وجنوب كردفان . و كانت  من ضمن  قوات الحركة الشعبية  قبل الاستقلال . وكان قوادها  الحاليون هم انفسهمة  قوادها  السابقون  الذين  قادوها  فى الماضى  ضد  قوات الشمال .  وهكذا  يتضح ان هذه المليشيات هى خميرة عكننة  متبادلة  بين  للطرفين . ولا يحتاج  تحريكها ضد  الطرف  الآخر الى  كبير جهد . واقع  الحال اليوم هو ان  حكومة  الخرطوم  هى  فى  قمة  الغضب  و(الزهج)  من حكومة الجنوب ، بسبب المحن  التى  جرها  عليها   انفصال  الجنوب  ، رغم  ان  حكام الشمال  كانوا   فى  سرائر انفسهم  تواقين  الى  فصل  الجنوب  باعتباره  عبئا  اقتصاديا وسياسيا على الشمال الذى غلبه ان  يجد حلا  لقضيته . اضافة الى  توق حكام الشمال الاسلاميين الى  سودان  اسلامى شرعة  ومنهاجا  الامر الذى لن يتحقق طالما بقى الجنوب داخل حدود الشمال  .  ولكن  معطيات  الانفصال السلبية   زحمت  على  الشمال   اقطار  نفسه   فى  الوقت  الحاضر . وهكذا  صار السودان ( مولعا)  على  الآخر ضد الجنوب  ، ومستعدا  للعض  والمناجزة  بمناسبة  وبدون مناسبة . وقديما  قيل  عضة  المغبون  تسعر. توليع  الشمال  ضد  الجنوب  ، جعله  يشعلل  معظم  ربوعه  حروبا  واقتتالا  ضد  بعض  ابناء  الوطن  المتبقى  بحجة  انهم  عملاء  لدولة  الجنوب. شماعة  العمالة  هى دائما جاهزة  ضد  الخصوم  فى  العالم  الثالث .  والمحرض  على هذه العمالة   هى حكومة  جنوب  السودان ، فهى  التى تحرض  اطراف  السودان واهل الهامش فيه  على  الثورة  ضد المركز . ولا احد  يمكن ان  يناجز  حكومة الخرطوم  ويذكرها  بأن اهل الهامش الشمالى  ثاروا  ضد  المركز  منذ  خمسينات  القرن الماضى  قبل  ان  تولد  حكومة الجنوب .  وقبل  ان  تولد  الحركة الشعبية  ، الغريم  الجديد  لحكومة  السودان  الذى  صار  مجرد  ذكر  اسمها  يسبب  لها شحتفة فى  الروح  وخمة  فى النفس . وضيقا  فى  الشريان  التاجى .  المشادات  مع  الجار  الجنب  والجار بالجنب و انتزاع الحقوق  المفترضة  زندية  بدلا  من  انتزاعها  بالحوار الرزين   هو نهج  لا  يشبه  سلوكيات  ومنهج  هذا الشعب  المصقول  الباسم  حتى  فى  احلك  ساعات  الضيق .  هذا  المسلك  العدائى  المهاتر  والمجاهر  بالسؤ الذى  لا يحبه المولى  عزّ  وجلّ  ، كيف  توطن  فى نفسيات  وسلوكيات  حكام السودانالحاليين  وهم  قوم  يدعون  انهم غرس  الفضيلة  فى  الارض  .  لا اريد  أن أسأل  من أين جاء  هؤلاء  كما  سأل  الكاتب  الكونى  الطيب صالح . الشعب السودانى  يعلم علم  اليقين  من أين  جاءوا  .  وشخصى الضعيف  يعلم  كذلك .عيون  زرقاء  اليمامة  فيهم  مكنتهم  من رؤية  الفريسة  من سابع  الاكوان .  ومسامعهم  المرهفة  القادرة  على التقاط  رنة القرش  فى  المريخ  على  وصف الشاعر  السودانى المطبوع ، اسمعتهم رنين  الذهب  الاسود فى باطن الارض ،  فجاءوا  هابطين  من السماء  يملأوون  الفراغ  والجيوب  معا . واقصوا الآخرين . الانسان  السودانى  هو مخلوق   أريحى  النفس  ، سهل  اذا اقتضى . أو  اعطى  .  ويمكن  بيعه  وشراءه  بكلمة  واحدة  طيبة . او بافترارة  محيا ، و تبسمه  فى  وجهه  مهما  كان  من خلاف  واختلاف .  الذين  جاوروا  هذا  الانسان السودانى  او عاشروه ،  لم  يعرفوا  له  شدة  نابية  فى القول  ، او  فى الفعل . الذى  يجرى  فى  الربوع  السودانية  من  حروب  يشرع   فيها  القتل  الآثم   والتدمير  والاغتصاب   هو  من  بعض   تصاريف  الزمن  الجائر . ولا يشبه  هذا  الشعب  الذى  تخجله  كلمة نابية  تخرج  بلا  حساب .
ولكن  لا بأس  : فغدا  تصفو  مياه   البحيرة  . ويضو ع  فى الارجاء   نسيم  الدعاش  ، وينمو البرتقال ، على  وصف  الياس  فتح الرحمن ، الشاعر المفتون  بحب  هذا الوطن . و هذا الشعب .
أخ . . .  ياوطن !
•      ورغم الاحباطات السياسية  التى عانى منها هذا الشعب  لجهة  سيطرة  الشمولية العسكرية على  حياته السياسية  بمدى  فاق  الخمسة  واربعين عاما  من جملة  سنين  استقلاله البالغة ستا وخمسين  عاما  فقط .  ورغم  البطش والقهر  الذى تعرض له هذا الشعب  فى معظم  فترات الحكم  الحكم العسكرى الشمولى  الممتدة  هذه ، الا ان هذا الشعب  لم   يجرب  مع  تلك  الانظمة اسلوب  الاغتيالات السياسية  و  العنف  السياسى التى  كانت تحدث  فى جواره  الاقليمى   نراها  فى الجوار الاقليمى من اغتيالات  سياسية  متبادلة  بين الحاكم المستبد والرعية  المضطهدة .   يقوم بها  حكام  زين  لهم  الغرور انهم  ظل  الله  فى  الارض . وأن  الاختلاف  معهم  هو  خلاف  مع  وكيل  السماء  فى الارض .  بعض  الانظمة  التى اشتطت فى الغلو السياسى  وضعت  قوانين  تحاكم  منتقدى  رأس  النظام بمواد  قانونية  تتحدث  عن  الاساءة  ( الى الذات الرئاسية ) . وهذا  تعبير  آثم  شرعا  ودينا  ويقارب  تأليه  الحاكم بمقاربته  من الذات  الالهية .  فلقب  (الذات) لا يطلق على البشر  والذى  يطلقه  على الحاكم  فهو  مشرك بين  الاشراك .  قلت  ان الشعب  السودانى  فى تاريخه  القريب  لم  يمارس  مع  حكامه  الذين  رأى انهم  حادوا ذات يوم  عن  الحكم الرشيد  واعتبرهم  طغاة  مارقين عن ملة الحكام الراشدين ، لم  يمارس  ضدهم  العنف  المفضى الى الاغتيال  والتعذيب  من جهة رسمية  او من  قبل  مجموع  الرعية  او  الافراد  الذين  قد  يكون وقع عليها  ظلم   من عند  اؤلئك  الحكام . كانت هناك  دائما  النظرة  الابعد  فى ثقافة هذا الشعب  التى تقول تطول  المحن  والمظالم  و لاتدوم . وكل زائل  فهو  معفو عنه  بتقادم  الزمن . انه  شعب  يعول على الزمن الكفيل  بتغيير  كل  شئ  الى الأحسن  او  على الاقل  ازالة  الأسوأ .  معروف  ان  الشعب  السودانى  قام  فى تاريخه  القريب  بثورتين عارمتين على نظامين عسكريين  احدثا ظلما  واجحافا فى حق الشعب الجمعى .و خالفا  اعراف الشعب  السودانى  السابقة الجارية  من جهة  الحكام  والمحكمومين  فى العدل  ورصانة المسلك  الرسمى  والعام .  ولكن المعروف ايضا  أنه  بالرغم  من  شدة  الحسم  الثورى  الذى  قامت  به  الثوار ، الا انهم   لم  يمارسوا  أى عنف  ضد  حكامهم  المطرودين لا قتلا  و لا تعذيبا  ولا انتقاما . بل  مارسوا  معهم   قدرا  عظيما  من ضبط  النفس . و  جلسوا معهم  فى  حوارات متصلة . وفاوضوهم على  الخروج  الآمن .  وغير  المهين .  وهكذا  حفظ الثوار السودانيون  ابان  ثورتى 24 اكتوبر 1964  و6 ابريل  1985  دماءهم   ودماء  خصومهم  فى  مشاهد  ايجابية تبز  مشاهد ما  حدث  من  سلبيات  فى  ثورات  الربيع  العربى  فى ليبيا  ومصر  واليمن وسوريا . لقد  كان  الثوار  يتحفظون   على  جلاديهم بالأمس . ويحغظون ارواحهم  وكرامتهم .  و لم  يلبثوا  ان وجد جلادوا الامس  انفسهم  وهم يسيرون  طلقاء  فى  الطرقات ، يتسوقون  فى  الاسواق   بين الرعية  التى  حكموها بالامس  حكما  احدث  كثيرا  من  المظالم . دون ان  يتعرض  لهم  احد بأذى  او  باهانات  جارحة .
مع  الاسف  الشديد  ان هذه  المسلكيات المتزنة  فى ادارة  الخلاف السياسى السودانى التى تقدم الحديث  عنها  فى  الفقرات السابقة ،   والتى  كانت سائدة  حتى وقت قريب ، اصبحت  جزءا  من التاريخ  السودانى  الماضى القريب ،  بعد  أن  تطور مسلك  الطبقة  الحاكمة  الى الخلف . واحدث  نمطا  من السلوكيات  السلبية  لجهة  اعتماد العنف  المادى واللفظى  والمعنوى  ضد  المحكومين  بصورة  لم تبق  لهذا  المحكوم من  خيار  غير خيار الدفع  عن  نفسه  بعمل  هو من  ذات الصنف  المعروض  فى ساحة الفعل السياسيى السالب .   هل  يحق  للمراقب أن  يقول  أن  المسلك  الجمعى  المتسامح  للمجتمع  السياسى  السودانى  مع المغامرين  عندما  يسقطون  فى ايدى هذا  المجتمع ،   وعدم  انزال الجزاء  الاوفى عليهم  ساعتها ، هو  الذى اغرى ، ويغرى ، مغامرين   جدد ،  تمور  انفسهم  بشهيات  اكثر  جرأة  على   ارتكاب  الفعل الآثم  ضد هذا المجتمع .  لانتفاء  وجود  الرادع  المحذر  طالما كان  المعتدون على حريات  الشعوب  لا  ينالون  الجزاء  المستحق  على  ما  ارتكبوا  من جرم  فى  حق الشسعب . فالمشاهد اليوم  هو  ان  المغامرين  الجدد  يلحقون بشعوبهم  أذى  اكبر من سابقيهم . ويدفع  الشعب  نتيجة  لذلك   اثمانا  اكثر تكلفة كلما ظهر  دكتاتور  جديد . 
Ali Hamad [alihamad45@hotmail.com]

 

آراء