ما من احد اظنه ينسى ذلك البوستر الدعائي الشهير وفي إطاره تلك الصورة الكارزمية للمناضل الراحل شيخ الامين محمد الامين، وبتلك اللحية المميزة التي كانت تجمع بين جلال الصوفية وثورية جيفارا. كان ذلك في اوائل سنوات النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي. فلقد كانت تلك الصورة تزين حوائط قرى مشروع الجزيرة، على طوله وعرضه. وهي السنوات التي لم تظهر فيها الجزيرة كقلعة للنضال وحسب وانما كقاطرة للتوجه الديمقراطي الحقيقي الذي اصبحت تخطو على اعتابه كافة البلاد، حينها.
كان ذلك الخطو حلما جميلاً ومشروعاً، وفي وقت لم يزل يتردد فيه، وفي ارجاء الوطن قاطبةً، صدى المقاومة الباسلة للمزارعين ضد المستعمر، ومن ثم العسكر. كان المناضل الراحل عمنا يوسف احمد المصطفى واحداً من ركائز تلك المقاومة الباسلة، وواحداً ممن صاغوا مشروعية ذلك الحلم الجرئ.
(2) إن اي مفكر رصين، او اي مؤرخ مجوِّد سوف لن تكتمل رصانته او يرقى تجويده عند التصدي لامر حداثة السودان إذا لم يتوقف مليئاً عند ذلك الانعطاف التاريخي، الذي ترتب على بروز تلك القيادة النوعية التي خرجت من بين "القرى" و"الحلال" في مناطق الانتاج الحديث، اي في مشروع الجزيرة. قيادة جديدة تحمل نوعاً جديداً من الخطاب والتفكير على غير ما اعتاد الناس عليه، سيما في ظل الاستعمار. خطابٌ وتفكيرٌ حديثان!!!.
إجتمع الامين محمد الامين، ويوسف احمد المصطفى، واحمد علي الحاج، واحمد مصطفى ابو عاقلة وعبد الله محمد الامين برقاوي، في عام 1952، وخطوا خطوتهم الاولى، والتي قد لم يكن وارد في حسبانهم، وقتها، انهم كانوا يضعون بها مدماكاً مكيناً في بناء مسيرة السودان نحو حداثته، تلكالمسيرة التي بدأت عندما بدأت تتخلق العلاقة، وبشكل لا يقبل التاويل، بين العمل والراسمال، وبين القوى المنتجة والاجر المدفوع في بلاد السودان عند نهايات الربع الاول من القرن التاسع عشر الميلادي.
إن مشروع الجزيرة كان يمثل واحدة من المحطات الابرز في نضوج التطور الرأسمالي. وكذلك، وبما إنتظم الحياة فيه من انتاج حديث، اصبح يمثل احد اهم حواضن تلك العلاقات الحديثة المتخلقة. مما اهله ليضحى، وبذاك المعنى، القلب الحي لحداثة السودان ومستقبلها، ودونما منازع.
إلتقط يوسف احمد المصطفى ورفاقه الحاح تلك اللحظة واستجابوا لضرورة ذلك التطور، مدفوعين وبما يشبه الإلهام!!!.
اصدروا بيانهم الاول، فجاء مفعماً وبكل ما يحمله البيان الاول من عنفوانٍوتطلع. لم يحتاجوا القول كما فعل كارل ماركس ورفيقه فردريك انجلز في مطلع بيانهم الشهير، "البيان الشيوعي" بأن "هناك شبحٌ يلاحق اوربا العجوز"!!!. لم يحتاجوا لذلك القول وذلك لعدة اسباب، واحدٌ ومن اهمها النهوض الباكر لعمال السودان وإنتظامهم في هيئة شئونهم، ومن ثم بدءهم مجابهة المستعمر في معركة انتزاع الحقوق على نحوٍ من ستة اعوام قبل صدور البيان الاول لحركة المزارعين هذه.
كان مطلبهم الاساس في ذلك البيان هو "قيام اتحاد للمزارعين"!!!، بديلاً عن هيئة المزارعين صنيعة المستعمر. لم يمض عام حتى تحقق ذلك الحلم. وذلك بعد ان احتلت جموع المزارعين ميدان عبد المنعم في 29 ديسمبر عام في 1953، في اول عملٍ ذي عمقٍ شعبيٍ ومنظم في مواجهة المستعمر، لم تشهده البلاد منذ هزيمة ثورة 1924 .
وقد شهد رفاقه، بان الراحل يوسف احمد المصطفى كان العقل المنظم من بين منْ كانوا وراء ذلك الحدث الذي وسم تاريخ السودان الحديث إلى يومنا هدا.
(3)
كان هناك عددٌ من الناس، بمنْ فيهم المثقفون المنتفعون وغير المنتفعين كذلك، يعتقدون ان حكوة "البنك الدولي وسياساته" هي كما حكوة "العنقاء"، ومن نسج خيال القوى الوطنية الديمقراطية. تلك القوى التي كان ان انحاز لها جذرياً وعضوياً الراحل يوسف احمد المصطفى ورفاقه من مؤسسي حركة المزارعين. كان ذلك هو الإعتقاد الواهم لاولئك النفر من الناس إلى ان بان لهم ان البنك الدولي لم يكن بحقيقة فاقعة وحسب وإنما لم يكن بمقطوع النسب، إذ له حماته ووكلاؤه وربائبه، اولئك الذين ظلوا يتناسلون على مر تاريخ المشروع حتى انجبوا الرأسمال الاسلامي الطفيلي في عصرنا الحاضر، واورثوه وجوب طاعته، والتي قام بها على نحوٍ كامل!!!.
اسست القوى الوطنية الديمقراطية وسط المزارعين في مشروع الجزيرة اكبر وانجح حركة تعاونية في تاريخ السودان، هذا إن لم تكن في تاريخ افريقيا والشرق الاوسط. كان الراحل يوسف احمد المصطفى من مؤسسيها، ممثلاً لاتحاد المزارعين ومسئولا عنها.
إن واحداً من مهام تلك الحركة التعاونية كنشاط إقتصادي إجتماعي، هو هزيمه إحدى اهم ركائز الفكر الاقتصادي الراسمالي، تلك التي انبنت عليها سياسة البنك الدولي، وهي ان كبر وإتساع حجم الوحدات الانتاجية لا يمثل فقط سبباً لضمان الجدوى الاقتصادية وإنما هو ضرورة للسير في طريق الرفاه!!!. بمعنى ان البنك الدولى كان يرى بل سعى ويسعى لالغاء وجود شكل الحيازات الراهنة، تلك التي انبنى عليها مشروع الجزيرة، وليتم تمليكه وإدارته بواسطة عدد قليل من المؤسسات، ومن ثم تحويل السواد الاعظم من المزارعين لعمال زراعيين واجراء.!!!.
هذه هي القناعة التي أرضعتها دوائر الرأسمال الغربي لربيبها الاسلامي الطفيلي، التي وبسببها لم يتوان الراسمال الاسلامي ولو للحظة في تنفيذ مهمة الانقضاض المدهش ومن ثم القضاء على كافة المؤسسات التعاونية التي انشأها المزارعون خلال الخمسين عام الماضية. وإذ ازالها من الوجود بين ليلة وضحاها!!!. وتلك حادثة من حوادث النهب الإقتصادي التي سيؤرخ لها، في التاريخ المعاصر، بانها الوحيدة التي قد تفوق خسائرها الفاجعة خسائر الحروب والزلازل الطبيعية!!!.
إن الحركة التعاونية في مشروع الجزيرة فعلٌ خَيِّرٌ، وحلمٌ كبير حققه الراحل يوسف احمد المصطفى ورفاقه، والآن تحاول الحركة الاسلامية إجهاضه بابتلاعه. ولكن سيكون ذلك الى حين، لانها، ولما بينها ومزارعي الجزيرة من تاريخٍ للغبن مشهود، تعلم الحركة الاسلامية ان إبتلاعها لتلك الممتلكات سيكون بالنسبة لها كابتلاعها لـ"آخر زادها"!!!.
(4)
يحتفي منظرو الاقتصاد السياسي في العالم بتجربتين انسانيتين، وذلك لما احدثاه من تحولٍ بائنٍ في تاريخ الاقتصاد السياسي للعالم. الاولى، وهي تلك التي اصبحت تعرف في الادب الاقتصادي الحديث بـ "تجربة صانعي مقاعد الخيزران في قرية جبرا" في دولة بنغلاديش. وهي تجربة "التمويل الاصغر" التي اسسها وقادها بنجاح الاقتصادي البنغالي د. محمد يونس، والتي اهلته لنيل جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2006. ولقد تمت إعادة إنتاج تلك التجربة على مستوى العالم كاداة فاعلة لمحاربة الفقر.
اما التجربة الثانية، فهي تلك المنسوبة لاولئك الفلاحين الثمان عشرة من قرية زياوغانغ الفقيرة في ولاية آنهوي بجمهورية الصين الشعبية، الذين وقعوا تعاقداً سرياً فيما بينهم ليحتفظوا ببعض انتاجهم لانفسهم ومن ثمَّ تسويقه سراً بدلاً من تسليمه للدولة، وكان ذلك في ديسمبر من عام 1978!!!. وهي التجربة التي يُزعم بانها فتحت الطريق لجمهورية الصين نحو اقتصاد السوق بعد ان توقف عندها الزعيم الصيني دينغ زياوبنغ، الرجل الذي أرتبطت به مسيرة الصين نحو ما يسمى بالاصلاح، او بالاحرى مسيرة الحاقها بدوائر الرأسمال العالمي، ولتصبح ملكية اكثر من الملك!!!.
إن تجربة حركة المزارعين في السودان والتي اسس لها مزارعو الجزيرة والمناقل وفي قلبها اتحادهم تحت قيادة مؤسسيه الاوائل، والذين كان من بينهم الراحل يوسف احمد المصطفي قد تكون حركة ذات تأثير تاريخي في حقل الاقتصاد السياسي يفوق تاثير تينك التجربتين المذكورتين، إذ انهااسهمت في ترسيخ وعي حقوقي تعدى الحيز الفئوي ليطول القضايا والهموم الوطنية الكبرى، تلك التي ارتبطت بالتحولات التاريخية في السودان. وقد تكون تلك هي الحقيقة التي تفسر صمود المزارعين وبقاءهم في وجه حملات الفناء التي لم تتوقف ابداً، وخاصة تحت ظل الانظمة القمعية الذليلة!!!.
لم تتفوق حركة المزارعين السودانيين في ذلك لوحده، وانما على جانب آخر اكثر عمقاً، وهو ان حركة المزاعين الديمقراطية قدمت اسهاماً نظرياً مشهوداً،وهو قولها بان بقاء المحتوى الثوري لحركة المزارعين متقداً ومتماسكاً رهينٌ بضرورة التحالف بين فقراء المزارعين والعمال الزراعيين في مشروع الجزيرة. ولكن، الآن اصبح ماعون ذلك التحالف اوسع ليشمل العمال الزراعيين وكل مزارعي المشروع وذلك بعد حالة الافقار الكاملة التي اضحى يعيشها كل اهل المشروع جراء السياسة التي تقوم بتنفيذها الراسمالية الطفيلية الاسلامية الان.وبالفعل جاء ميلاد تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل والذي ساهم في تاسيسه ايضاً الراحل يوسف أحمد المصطفى. فلقد كانت تلك مساهمة نظرية نيرة ما زالت تضيئ طريق النضال الطويل امام حركة المزارعين، التي ساهم الراحل يوسف احمد المصطفى ورفاقه، إن كان على الجانب النظري او العملي، في وضع "الساس" المتين لها.
(5)
وها هو الآن يترجل راحلاً، مكللاً بالرضا وبر الناس بعد مسيرة نضالية وضيئة. ودعه عارفو فضله وتضحياته. ودعه مزارعو الجزيرة الذين، وعلى العكس تماماً، ربوا كل المناضلين وليس الشيوعيين لوحدهم، فاحسنوا تربيتهم، علموهم فاجزلوا في تعليمهم، ومن ثم أدبوهم فأوفوا في تأديبهم، مما وقف حائلاً بينهم والعقوق!!!.
(6) درجت شعوب الإنكا العريقة، بناة الحضارة في امريكا الجنوبية، على الذهاب بموتاهم من الملوك إلى أعالي الجبال بحسب انهم يستحقون ، ولرفعتهم، ان يُسْجوا بين الغمام. ونحن ايضاً نضعهم بين الغمام، وبل عالياً، وكما يستحقون، فوق ذرى المجد وذلك بالخطو الثابت على دروبهم الشاقة التي مشوها.
في صعوده درج البلاغة مأخوذاً بسحر الكلِم فيها، لم يتمم الامام علي، رضي الله عنه، خطبته المعروفة بـ"الشِّقشِقية" لان احدهم قطع عليه تدفق فكره وبيانه، فرجاه ابن عباس ان يتممها، فأجابه، "هيهات يا بن عباس! تلك شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ!. فتأسى ابن عباس قائلاً، "فوالله ما اسفت على كلامٍقط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون امير المؤمنين بلغ منه حيث أراد".
كفى "خالد" الناس قول إبن عباس، فقد صدح حينما هدرت شقشقة الحق، وغرغرت في صدره ولم يدعها تُقِر، فقالها في حضرة ذلك الجسد الطاهر المسجي، "عاش كفاح المزارعين"، فيا له من هتاف، ويا له من وداع!!!.تقشعر له الابدان!!!. قال "خالد" ما كان سيقول به والده، شيخ الامين، رحمه الله، لو قُدِر ان يكون في وداع رفيق دربه وخدن نضاله.
فلترقد روحاهما الطيبتان في سلام.
والمجد والخلود لمؤسسي حركة مزارعي السودان.
(*) مراجع تمت الاستفادة منها في كتابة هذا المقال:
1- زاباتا، ايديولوجية فلاح ثائر، روبرت ب. ميلون، باللغة الانجليزية. 2- مشاوير خضراء، المرحوم عبد الله محمد الامين برقاوي، تقديم محمد عبد الله برقاوي، منشور على موقع الحلاوين الالكترروني بواسطة سليمان محمد وقيع الله.
3- البيان الشيوعي، كارل ماركس وفردريك انجلز، باللغة الانجليزية.
4- مؤسسة الصين، تيد س. فيشمان، باللغة الانجليزية.
5- تلك الأيام، المرحوم كامل محجوب.
6- نهج البلاغة، الإمام علي بن ابي طالب، تحقيق وشرح محمد ابو الفضل ابراهيم.
7- حوار مع الراحل يوسف احمد المصطفى، الكاتب والصحفي حسن وراق.
8- مقال في وداع الراحل عمنا يوسف أحمد المصطفى، الكاتب والصحفي حسين سعد.
9- رسائل شخصية مع الاستاذ محمد الطيب العاقب.
10- مشروع الجزيرة وجريمة قانون 2005، صديق عبد الهادي.
11- مشروع الجزيرة وبؤس الحركة الاسلامية، تحت النشر، صديق عبد الهادي.