يوميات الحرب (3): تناقضات الشخصية السودانية

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيمِ

لن يعود السودان ، بعد انتهاء الحرب، لما كان عليه سابقا، واهم من يظن أن الحرب ستنتهي، وسيعود كل شئ كما كان، لا شئ سيعود كما هو، ومن الخير ألا يعود.
فتحت الحرب أعين الناس على حقائق كثيرة، وصححت معلومات خاطئة، ووضعتنا جميعا أمام امتحان حقيقي يكشف أعماق الشخصية السودانية وتركيبتها المعقدة وتصوراتها الخيالية، المتعالية والساذجة أحيانا، عن نفسها.
نجن الذين فتحنا بيوتنا للمتضررين من الحرب، وانتشر أهل ولايات الجزيرة والشمالية ونهر النيل يلاقون النازحين والمهاجرين بالمياه الباردة والعصائر والموائد الممتدة، ومعها إعلان أن لدينا منازل جاهزة للاستضافة. ونحن أيضا من استغللنا الأزمة وبعنا لبعضنا البعض جالون البنزين "أربعة لترات" بمبلغ خمسون ألف جنية ( ما يعادل 80 دولارا) ، وخبأنا الدقيق في المخازن ورفعنا سعره، وبعنا قطعتي الخيز في بعض مناطق أمدرمان بألف جنيه (حوالي 16 دولارا)
نحن الذين توزع شبابنا بين المستشفيات ومراكز الإيواء تحت القصف يوصلون الأدوية لمن يحتاجها، ويتطوعون بسياراتهم، التي يمكن أن تنهب منهم في الطريق، لتوصيل مريض أو جمع أسرة ببعض أفرادها بعد أن فرقتهم الحرب، وما تزال إعلاناتهم تنشر في قروبات السوشيال ميديا، ذاهب إلى مدني أو عطبرة أو يورتسودان ولديه خانات في سيارته مجانا للمحتاجين، ونحن أيضا من رفعنا أسعار المواصلات الداخلية والسفرية لسعر خرافي يعجز عنه بعض الفارين من جحيم الحرب، وضاعفنا تذكرة السفر البري إلى مصر ثلاثة أضعاف.
نحن صاحب المنزل الذي تستأجره أرملة تجري على رزق أولادها، ولم تكن تملك إيجار الشهر، وحين دق صاحب المنزل الباب، واكتشفت أنه هو، تمنت أن تنشق الأرض وتبلعها، تلعثمت وهي ترحب به وسالت دمعاتها وهي تقدم عبارات الاعتذار، أسكتها الرجل بإشارة وهو يقول : أنسي موضوع الإيجار، ثم مد يده يظرف وهو يقول :أنا عارف الظروف ، ودة مبلغ بسيط يساعدكم. ونحن أيضا من رفعنا إيجارات المنازل الشعبية والشقق للهاربين من جحيم الحرب إلى عطبرة وشندي ومدني والحصاحيصا وبورتسودان، حتى أصبح إيجار المنزل المفروش أو الشقة تصل لمليون جنيه شهريا (حوالي 1800 دولار).
ولأوجعكم أكثر، نحن قوات الدعم السريع التي تقتحم المنازل وتنهب البيوت والسيارات وتروع المدنيين الأبرياء، أعرف أن البعض يريح ضميره بالقول إن قوات الدعم السريع كلها من الأجانب من دول الجوار، وإن كانت هناك نسبة من الصحة، إلا أن القوام الرئيسي لهذه القوات سوداني خالص. والممارسات التي تثير حفيظة الناس وتغضبهم ليست جديدة، هي نفس سلوك هذه القوات تحت رعاية الدولة السودانية والمؤسسة العسكرية في قرى وفرقان دارفور وبعض مناطق كردفان حتى وقت قريب. كانت تنهب القرى وتستبيحها وتحرقها وتسبي النساء وتغتصبهم، وكانت الحكومة والقيادة السياسية والعسكرية تصفق لها ويتحدث الإعلام الحكومي عن بطولتها وبسالة أفرادها. وأمضي للقول بأنها أيضا كانت جزءا من ممارسات القوات المسلحة في دارفور وجبال النوبة، وقبل ذلك في الجنوب، حيث تقصف القرى والمساكن المدنية بالطائرات فيهلك الإنسان والزرع والضرع.
الفرق الوحيد أن هذه الممارسات كانت تتم بعيدا عنا، وليست في الحرطوم والوسط والشمال، لكنها الآن تحرق منازلنا ومقتنياتنا وذكرياتنا، وتأخذ أمننا وسلامنا بعيدا عنا.
نحن كل هذا وذاك، وإن كانت للحرب، مع كل أهوالها، من إيجابية، فهي تعطينا فرصة لمراجعة تاريخنا، وتتيح لنا الفرصة لننظر في مرآة حقيقية لنرى أنفسنا على حقيقتها.
فليقم السياسيون والعسكريون بدورهم لإيقاف الحرب، ليبدأ عمل منظمات المجتمع المدني وخبراء علوم الإجتماع وعلم النفس والسياسة في دراسة تناقضات الشخصية السودانية بالتشريح والنقد الصريح، مهما كان حجم الألم، لكن قد يفتح ذلك باب الأمل.
////////////////////////

 

آراء